( شرح كتاب ” بلوغ المرام ) ـ الدرس 66 حديث 75
( باب نواقض الوضوء )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه :
أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم :
أتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : ” إن شئت ” قال : أتوضأ من الإبل ؟ قال : نعم )
أخرجه : مسلم .
( من الفوائد )
ذكر ابن حجر رحمه الله هذا الحديث من باب ” هل أكل لحم الإبل ينقض الوضوء أم أنه لا ينقض الوضوء ؟
وظاهر صنيعه رحمه الله : أنه ناقض للوضوء .
( ومن الفوائد )
” أن هذا الحديث دليل لما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله من أن لحم الإبل ناقض للوضوء ، بينما يرى جمهور العلماء وهم الأئمة الثلاثة يرون أنه ليس بناقض للوضوء “
قال النووي رحمه الله – وهو من الشافعية – قال ” إن الشافعي رحمه الله يقول ” لو صح الحديث لقلت به “
فعذر هؤلاء الأئمة إما لأن الحديث لم يبلغهم ، وإما أنه بلغهم ورأوا أنه منسوخ .
منسوخ بماذا ؟
منسوخ بحديث جابر بن عبد الله كما عند أبي داود وغيره :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافته امرأة من الأنصار فقدمت له لحما ، فأكل صلى الله عليه وسلم منه ، ثم لما حضرت صلاة الظهر توضأ وصلى ، ثم عاد فأكل ، ثم لما حضرت صلاة العصر صلى من غير وضوء ) قال جابر رضي الله عنه ( كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار )
فقالوا / إن هذا الحديث ناسخ لحديث جابر بن سمرة .
والصواب أن يقال / إن حديث جابر بن عبد الله ( كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار )
أنه عام ، بمعنى أن من أكل شيئا مسته النار فلا يجب عليه الوضوء ، واستثني من ذلك ” لحم الإبل ” ما الذي خصص عموم حديث جابر بن عبد الله ؟
هذا الحديث الذي معنا ، ولذا جاء الأمر بالوضوء من لحم الإبل كما جاء في المسند وغيره :
( توضؤوا من لحوم الإبل )
فخلاصة القول : أن لحم الإبل ناقض للوضوء .
أما حديث جابر رضي الله عنه :
( كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار )
فإنه كما قلنا عام ، ولو قلنا بأنه غير عام فقول جابر رضي الله عنه : ( كان آخر الأمرين ) يعني ” واحد الأمور ” لا واحد الأوامر ، لو قلنا واحد الأوامر ، فالأمر هو ” طلب حصول الفعل من المخاطب على وجه الاستعلاء “
هنا ” واحد الأمور ” يعني واحد الشؤون ، كان آخر شأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار .
هل عدم وضوئه صلى الله عليه وسلم في صلاة العصر ، ووضوؤه لصلاة الظهر ، هل هو مما يخص هذا المأكول ؟
الجواب / لا ، لأنه عليه الصلاة والسلام لما توضأ للظهر توضأ لحدث آخر ، وليس لكونه آكلا لهذا اللحم .
ثم إن هذا اللفظ :
( كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار )
ليس منه صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو اجتهاد من جابر بن عبد الله رضي الله عنه .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل : ما حكم الوضوء مما مست النار ؟
خلاف بين أهل العلم ، والصواب الاستحباب .
هناك من قال بالوجوب ، وهناك من قال بالجواز ، والصواب / أنه سنة ، لقول صلى الله عليه وسلم :
( توضؤوا مما مست النار )
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
تصور لو أنك على وضوء وشربت شيئا مسته النار ، كقهوة أو شاي ، أكلت لحما مسته النار ، ولو مساً خفيفا ، فالسنة في حقك أن تتوضأ و ليس بلازم .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل / ما الحكمة من الوضوء بعد أكل لحم الإبل ؟
ليعلم أن أعلى الحكم هي أمر الشرع بذلك ، فهذه هي أعلى الحكم .
وقد استنبط العلماء حكما :
قال بعض العلماء / إن سبب الوضوء من لحم الإبل ” لأن لحم الإبل فيه دسومة وغلظة ” فكان الماء مناسباً لإزالة هذه الدسومة .
وهذه الحكمة فيها ما فيها ، لم ؟
لأن لحم الغنم أعظم دسومة من لحم الإبل ، يستقر لهم هذا الأمر فيما لو كانت الحكمة هي ” غلظة لحم الإبل ” والغلظة يناسبها الماء ، ومعلوم أن لحم الإبل أغلظ ، حينما يطهى أو يطبخ أو يشوى فهو أغلظ من لحم الغنم .
وقال بعض العلماء / ” لأن الإبل خلقت من الشياطين “
لقوله صلى الله عليه وسلم عن الإبل : ( إنها خلقت من الشياطين )
ما معنى قوله ( خلقت من الشياطين ) ؟
يحمل على محملين :
المحمل الأول / أن بها صفة الشيطنة ، وصفة الشيطنة هي ” الغضب ” وهذه صفة إبليس ، ومعلوم أن الشيطان خلق من نار ، فإذا كانت به الشيطنة ، فإن المناسب لما هو مخلوق من النار ” أن يطفئ بالماء “
وليس معنى هذا أن أصل مادة خلقها من الشيطان – لا – وإنما لما غلبت عليها صفة الغلظة ، وصفت بهذا الوصف ، بدليل / أن الله جل وعلا قال عن الإنسان :
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ}الأنبياء37
هل خلقنا من عجل ؟
لا ، وإنما من طين ، لكن قال عز وجل {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ }الأنبياء37 ، لأن صفة البارزة الواضحة فينا هي العجلة .
المحمل الثاني / أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم ( خلقت من الشياطين ) أي نوع من أنواع الشياطين ، وهي ” شياطين بهيمة الأنعام “
في حديث أبي ذر رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( يقطع صلاة الرجل المسلم إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل ” المرأة والحمار والكلب الأسود ) قال أبو ذر رضي الله عنه : ( يا رسول الله ما بال الكلب الأحمر من الأسود ؟!
قال صلى الله عليه وسلم ” ذاك شيطان )
ليس هو شيطان ، وإنما هو ” شيطان كلاب “
إذاً / شيطان بهيمة الأنعام هي ” الإبل “
ولذلك يوجد فيها من النفور ما لا يوجد في غيرها من بهيمة الأنعام .
( ومن الفوائد )
” أن الوضوء من لحم الإبل لكونه لحم إبل لا لكونه مسته النار “
لو أنه أكل لحم الإبل نيئاً لم تمسه النار ، فينتقض وضوؤه .
ويرد بهذا على من قال إنه لا يلزم الوضوء، فنقول في مثل هذه الحال نقض الوضوء من لحم الإبل لكونه لحم إبل ، لا لكونه مسته النار ، ولذلك لو أكله غير مطبوخ فإن الوضوء ينتقض .
( ومن الفوائد )
” أن الجواب منه صلى الله عليه وسلم هنا قال ( نعم ) “
يستفاد منه / أن المفتي له أن يختصر في الجواب ، فجوابه هنا في الإبل ( نعم ) وفي الغنم ( إن شئت )
ومن المناسب في شأن المفتي أن ينظر إلى ما هو مناسب للأشخاص وللأحوال ، فإن كانت الحاجة داعية للتفصيل باعتبار الحال أو باعتبار الشخص فليفصل ، وإن كانت الحاجة لم تدع للتفصيل لا من حيث الحال ولا من حيث الشخص فيختصر ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
( لما أتته المرأة الخثعمية فقالت يا رسول الله إن فريضة الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحة ، أفأحج عنه ؟ قال نعم )
( ومن الفوائد )
أن ( نعم ) أداة جواب ، ” وجواب الصريح صريح “
لكنه لا يدل هنا على الوجوب ، فالسائل سأله :
( أيتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال نعم )
إذاً من أين أتينا بالوجوب ؟
من حديث في المسند ( توضؤوا من لحوم الإبل )
فـ ( نعم ) جواب صريح في السؤال الصريح .
مثال / لو قال شخص لشخص ” هل طلقت زوجتك ” ؟ قال نعم “
تطلق ، لأن ( نعم ) في السؤال الصريح هي جواب في الصريح .
مع أنه يمكن أن يقال : إن في قوله :
( أيتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال نعم )
دلالة على الوجوب باعتبار الجملة الأخرى في لحوم الغنم ، فإنه علَّق الحكم في الوضوء من لحم الغنم بالمشيئة ، فدل على أن لحم الإبل ليست به مشيئة .
( ومن الفوائد )
” أن السؤال هنا منصب على اللحم “
فما سوى اللحم من ” الكبد والكرش والشحم والطحال والرئة ” أينقض أكلها الوضوء أم لا ؟
خلاف بين العلماء / بعض أهل العلم – وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد – أنه لا ينقض إلا اللحم خاصة ” الذي هو الهبر ” أما المصران المسمى ” بالحوايا ” أو الشحم أو الكبد ، فإنه لا ينتقض الوضوء به ، لم ؟
قالوا لأنه صلى الله عليه وسلم نصَّ على اللحم .
وقال بعض العلماء : إن كل أجزاء الإبل ناقضة للوضوء “
لم ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر اللحم إنما ذكره لبيان الغالب ، والقاعدة :
[ أن النص إذا جاء في سياق الغالب فلا مفهوم له ]
ولذلك قال عز وجل :
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ }المائدة3 .
لما قال { وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } هل يعني أن ما سوى لحم الخنزير من جنس الخنزير ككبده وطحاله وشحمه يجوز ؟
الجواب / لا ، لكن نصَّ على اللحم لأنه غالب ما يؤكل .
ويؤكد ذلك / أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا هذا ، ولذلك سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم :
( أتوضأ من لحوم الإبل وألبانها ؟ قال نعم )
وقوله هنا ( نعم ) للاستحباب في شأن الحليب ، فكونه يذكر اللحم مع الحليب، يدل هذا على أن جميع أجزائها ناقض للوضوء، لكن الحليب خرج بحديث آخر .
فخلاصة القول / أن جميع أجزاء الإبل ناقضة للوضوء .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل / ما حكم مرقة لحم الإبل ؟
نقول / هذه المرقة تابعة لما ذُكر من خلاف ، لأن المرق إذا وضعت فيه اللحم يكون له تأثير ، ولذلك في صحيح مسلم :
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه :
( إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك )
كون المرقة يزاد في مائها ، يدل على أن الماء لا يبقى على حاله ، فدل على أن ما في هذه المرقة مؤثر في هذا الماء .
ومن قال بأن المرق لا ينقض الوضوء سواء تأثر أم لا / لأن طعمه ورائحته لم يبق منها شيء ، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم ( أكلوا من جبن المجوس ) وهم يضعون فيها ( أنفحة الميتة ) لأنه لا يمكن أن يتجمد إلا بالأنفحة وهي مادة صفراوية تكون في كرش صغار البهائم ، فيأخذون هذه الأنفحة – ومعلوم أن ذبائح المجوس ولو ذبحت على الطريقة الشرعية فهي ميتة – ومع ذلك لما كانت النسبة قليلة لا تؤثر واستحالت ولم يبق منها شيء جاز أكلها .
( ومن الفوائد )
أن حليب الإبل جاءت فيه روايتان في مذهب الإمام أحمد “
قال بعضهم : إنه ينقض الوضوء ، لم ؟
قالوا / لأن الحليب يتغذى به كما يتغذى باللحم.
ولكنها علة مردودة ، لا شك أن الحليب له في تغذية البدن ما يكون كاللحم أو أعظم ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن قال :
( إذا أكل أحدكم طعاما فليقل ” اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيرا منه ” وإذا شرب لبناً فليقل ” اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه
فليس هناك شيء يغني عن الطعام والشراب سوى اللبن )
إذاً / شرب حليب الإبل لا ينقض الوضوء .
والدليل / أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين في قصة العرنيين لما اجتووا المدينة ولم يناسبهم جو المدينة وتعبت بطونهم ، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ( أن يذهبوا إلى إبل الصدقة حيث ترعى في الصحراء وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها )
فاستصحوا ، ولم يأمرهم عليه الصلاة والسلام بأن يتوضؤوا إذا شربوا اللبن .
إذاً / الأمر هنا ( أتوضأ من لحوم الإبل وألبانها ؟ قال نعم )
الأمر هنا للاستحباب .
( ومن الفوائد )
أن التفريق بين لحم الإبل وبين لحم الغنم لأن الغنم لا يوجد فيها من الغلظة ما يوجد في لحم الإبل “
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( الفخر والخيلاء في أهل الإبل ، والسكينة والوقار في أهل الغنم )
وهذا شيء مشاهد .
وقال صلى الله عليه وسلم عن الغنم :
( إنها بركة )
( ومن الفوائد )
أن ” الغنم ” سميت بهذا الاسم / لأنه ليس فيها عضو تدافع به عن نفسها ، فصارت غنيمة لكل طالب .
وكلمة ” الغنم ” اسم جنس لا واحد لها من حيث اللفظ ، لا يصح أن تقول ” غنمة ” تقول ” شاة ”
جمعها ” أغنام “
كذلك الإبل اسم جنس ، لا تقل ” إبلة ” تقول ” بعير – ناقة ” .
وجمعها : ” آبال “
( ومن الفوائد )
” بيان شمولية الدين ، وأنه ما ترك شيئا إلا بينه “
حتى في أدق الأشياء ، ويكون هذا الحديث وأشباهه ردا على من يقول وينكر على العلماء لذكرهم لمسائل ، يقولون لا داعي لذكرها ، فهي مسائل دقيقة وخفية .
ونحن نقول / الشرع أتى بمثل هذه الأشياء في أدق ما يكون ، ولذلك عند مسلم لما :
( قال ذلك الكافر لسلمان الفارسي رضي الله عنه إن نبيكم علَّمكم كل شيء ، قال نعم ، علمنا كل شيء حتى الخراءة )
يعني علما حتى كيف نقضي حاجتنا من بول أو من غائط ، وهذا يدل على أن الشرع يدخل في كل شيء من أمور الناس ، كالأمور الأخلاقية والاجتماعية والمالية والاقتصادية من وجه عام ، كيف وقد قال عز وجل :
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }المائدة3
حتى قال أبو ذر رضي الله عنه كما في المسند :
( ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائر يقلِّب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما )
( ومن الفوائد )
أن هناك قصة تتناقل من أن سبب الوضوء من لحم الإبل : أن الصحابة رضي الله عنهم أكلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لحم إبل وأتوا إلى المسجد ، وكان صلى الله عليه وسلم يخطب ، فخرجت ريح من أحدهم ، فأحب ألا يحرجه فقال :
( من أكل لحم إبل فليتوضأ )
فهذه القصة قصة باطلة ولا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنها تهدم ما جاء من حكم في نقض الوضوء من أكل لحم الإبل ، لو ثبتت للأخذ بها ، لكنها لا تصح أبدا ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .نأ