الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس( 148)
قوله تعالى ( يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ) الجزء الثالث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى : }قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ }
وقال في آية النساء :
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكأن فيه إشارة إلى ما قالوه من القول الباطل سواء كان هذا القول لليهود أو للنصارى فإن ما قالوه في عيسى هو الباطل وليس هو الحق
ولذا قال : ((إِنَّمَا الْمَسِيحُ )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و ” إنما “ أداة حصر ، وهي من الطرق الأربع التي يؤكد بها الكلام
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كأن المعنى : ما المسيح ابن مريم إلا رسول الله
وهذا المعنى موجود في سورة المائدة قبل الآية التي شرحناها :
(( يا أهل الكتاب لا تغلو ))
قبلها :
((مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ))
فجاء هذا المعنى : يرد عليهم إذ قال الله عن هؤلاء :
((لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ ))
والمسيح :
ــــــــ
هو عيسى عليه الصلاة والسلام سمي بهذا الاسم لأمور ذكرها العلماء لكن من أظهرها : أنه كان يمسح على المرضى فيشفيهم الله عز وجل
وهو مسيح حق
لأن هناك مسيحا للضلالة وهو المسيح الدجال وسمي بهذا الاسم لأمور ذكرها العلماء : منها أنه يمسح الأرض أو أنه ممسوح العينين كما جاءت بذلك الأحاديث
وقد نقل ابن حجر في الفتح أنه إذا أطلق المسيح فالمراد منه عيسى
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عيسى ابن مريم هو آخر أنبياء بني إسرائيل
ولذا قال النبي : (( أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي ))
وقال : (( ابن مريم ))
لكي يرد على من قال أنه ابن لله من أنه ليس ابنا له جل وعلا إنما هو ابن لمريم
ولذا لم يصرح باسم امرأة في القرآن ما عدا مريم إنما جاء التصريح باسمها لهذا الغرض :
وهو الرد على من زعم بأن عيسى ابن لله عز وجل :
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي هذا حصر بأن عيسى رسول الله ،
ومن ثم : فإن هذه الكلمة يرد بها على اليهود والنصارى :
فإن فيها ردا على النصارى القائلين : بأنه ابن الله
ولتعلم :
أن النصارى اختلفت أقوالهم في عيسى :
ــــ طائفة منهم تقول : أنه ابن لله :
((وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ))
ــــ وطائفة تقول : بأنه ثالث ثلاثة :
قال تعالى :
{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
ـــــ طائفة تقول: أنه هو الله
كما قال عز وجل في سورة المائدة :
((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ))
ـــ مرة يقولون : مضافا إلى عيسى في اعتقادهم مضافا إليه أمه ، زعموا فيها الألوهية :
كما قال عز وجل في آخر سورة المائدة :
((وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ))
” والشبهة التي أوقعت النصارى في هذا :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن الله عز وجل خلقه من غير أب ، ولذا رد جل وعلا عليهم في بيان لحقيقة عيسى وحقيقة أمه :
قال :
((مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ))
والله جل وعلا قال عن نفسه :
((وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ))
وعلى أحد أقوال المفسرين في الصمد : هو الذي لا جوف له : (( قل هو الله أحد الله الصمد ))
ولذا بين جل وعلا أن شأن عيسى ليس شأنا يدعو الإنسان إلى أن يتخذ معه هذا الاعتقاد لأن هناك من هو أعظم منه في هذا الخلق
قال عز وجل في بيان الرد على نصارى نجران :
((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{59} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ{60} ))
ثم قال عز وجل في نهاية ما ذكر :
((إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{62} فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ{63} ))
ثم دعاهم آمرا نبيه عليه الصلاة والسلام فقال :
((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ{64} ))
ولذا لما استغربت مريم أن يكون لها ولد لأنها تعلم أن الولد إنما يأتي إما عن طريق نكاح وإما عن طريق زنى :
قالت :
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً }
وقال عز وجل في سورة آل عمران :
((وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ{46} قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ{47} ))
وقال في سورة مريم :
((قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ))
ثم قال : ((وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ))
وعيسى هو النوع الرابع من أنواع خلقه عز وجل في الخلق :
وذلك أنه جل وعلا خلق الناس على أربعة أنواع :
ــ النوع الأول : إما ان يكون مخلوقا من غير أم وأب وذلك كآدم
النوع الثاني : وهو أن يكو ن مخلوقا من أم دون أب وهو عيسى
ــ النوع الثالث : وإما ان يكون مخلوقا من أب دون أم وهي حواء
النوع الرابع: من أم وأب وهو سائر ما خلقه الله من البشر
ثم قال عز وجل :
((وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه مرت معنا في حديث ” عابدة بن الصامت “
في صدره :
(( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه …….. الحديث))
والقول فيها هنا كالقول فيها هناك
((وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا )) :
ـــــــــــــــ
يعني : أنه خلقه بكلمة ” كن ”
((أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلنا : إن هذه الكلمة وهي روح منه قد أضلت النصارى ومن ضهاهم وسبق الحديث عن هذا عند حديث عبادة .
ثم قال : (( فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال : (( رسله )) مع ان السياق في عيسى
من ثم : فإن فيه فائدة وهي :
أنه لو رفع رسول فوق منزلته كما رُفع عيسى عليه الصلاة والسلام فالحكم هو هو
أو من انتقصه فالحكم هو هو
فلا تفريق بين الرسل
ومن ثم فإنه يرد بهذه الآية وغيرها من النصوص على من أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام واستشفع به ودعاه وسأله واستغاث به .
وقوله : ((فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ )) يشمل الكل
والإيمان بالله ورسله ركنان من أركان الإيمان الستة
ما هي أركان الإيمان الستة ؟
الإيمان بالله
وملائكته
وكتبه
ورسله
وباليوم الآخر
وبالقدر خيره وشره
والتنصيص على كلمة الجمع (( ورسله )) هنا بعد ما ذكره جل وعلا عن أهل الكتاب موضح في نفس هذه السورة
وهذا يدل على أن السورة فيها وحدة في الموضوع لمن تأملها وتدبرها
ولذا قال تعالى في هذه السورة :
((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً{150} أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً{151} وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{152} ))
ولذا ذكر عز وجل في آخر سورة البقرة ذكر ما عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قوله تعالى :
((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ{285} ))
((فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
((وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا خبر لمبتدأ محذوف ــــــــ ما تقديره ؟
تقديره نرجع إلى الآية الأخرى التي في سورة المائدة : ((لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ))
فيكون التقدير : ولا تقولوا : الله ثالث ثلاثة
أو تقولوا : الآلهة ثلاثة
أو المعبود : ثلاثة
ثم قال تعالى : ((انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ ))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ