الشرح الموسع لمسائل الحج الدرس ( 21 ) ( صفة الحج ) الجزء الثالث

الشرح الموسع لمسائل الحج الدرس ( 21 ) ( صفة الحج ) الجزء الثالث

مشاهدات: 893

بسم الله الرحمن الرحيم

فقه الحج ـ الدرس ( 21 )

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

 

فلما غربَت الشمس واستحكم غروبها أردَفَ النبي أسامةَ بن زيد خلفه وقد قال قبل الغروب بقليل:

 ( لم يبقَ من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه )

 يريد أن يوقِفَ الناس على قُربِ زوالِ الدنيا.

 

ومن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج ويترتبُ عليه أشياء

 ولا يلتبس الفوات بالإحصار، فمن اُحصِرَ وصُدَّ عن عرفة فإنه كما سبق ذِكْرُهُ:

 يتحلل بعمرة ولا هديَ عليه.

 أما هنا لم يُصد وإنما فاته الوقوف فيلزَمُهُ أشياء:

  1. يتحلل بعمرة. 2. يذبح هديَه إن كان معه.

وهذا الهدي الذي معه لا يُجزئُ عن هديِ الفَوات فعليه أن يهديَ في سنةِ القضاء،

 فإن لم يجد هديا: فيصومُ عشَرَةَ أيام

 وإن شاء أن يُخرِجَ هديَ الفَوات في عامِه فله ذلك

وإنما أُجِّلَ إلى سنةِ القضاء تخفيفاً عليه،

 ودليل هذا/ أنَّ عمرَ رضي الله عنه أمَرَ هَبَّارَ بنَ الأسود لما فاته الحج أن يتحللَ بعمرة وأن يذبحَ هدياً ويَحُجَّ من قابل فإن لم يجد هدياً صام.

 قال بعضُ الفقهاء: لو شاء ألّا يتحللَ بعمرة ويبقى على إحرامِهِ حتى يأتيَ العامُ القادم فلهُ ذلك.

والذي يظهر: أنه ليس له ذلك لأنه لو بقي صار إحرامُه هذا في غيرِ أشهُرِ الحج.

 

 

 

 

ولو قال قائل: لو أن الناسَ أخطؤوا وقت الوقوف؟

فيقال: إن وقفوا في اليوم الثامن وعلِموا قبلَ زوالِ اليومِ التاسع فيقفون،

وإن لم يعلموا، أو وقَفوا في اليومِ العاشر يظنون أنه التاسع فحَجُّهُم مُجزئ.

قد قال شيخُ الإسلام رحمه الله: إنَّ الوقوفَ بعرفةَ مرتين بدعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ثم أفاض إلى مزدلفةَ وعليه السكينة

 فإذا رأى فجوةً أسرَع، ولما سَمِعَ ضرباً وصوتاً قال:

 ( عليكم السكينة فإن البر ليس بالإيضاع ) أي: ليس بالإسراع .

 ويستحبٌّ الذكرُ والتلبيةُ في هذه المواضع لقوله تعالى:

{ثمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:199]

قال قبلها:

{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } [البقرة:198]

 

فلما كان في الطريق وقف ( فبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً) فقال أسامةُ: (الصلاةُ يا رسول الله، قال :الصلاةُ أمامَك )

ولما عَلِمَ الناسُ بإردافِهِ لأسامة قالوا: ( سيخبرُنا صاحبُنا عما صنَعَ رسولُ اللهِ) .

 

فإذا وصل إلى مزدلفة

 وسميت بهذا الاسم: لازدلاف الناس وقُربهم من مِنى للتحلل.

 وتسمى بـ [جمع]: لاجتماع الناس فيها.

 وتسمى بالمشعر الحرام: لوجود المشعر الحرام وهو: جبل قد أُزيحَ الآن وَوُضِعَ مَقامَهُ مسجدُ مزدلفة.

 

 

فيصلي فيها العشاءين جمعاً وقصراً

وذلك الجمْعُ جمعُ تأخير، ولذا أخَّرَ النبي الصلاةَ إلى مجيئهِ إلى مزدلفة.

 لكن إن خَشِيَ الحاج من خروج وقتِ صلاةِ العشاء: “وهو نصفُ الليل على الصحيح”

 فيقف ويصلي، فإن لم يتيسر له الوقوف يصلي وهو في الحافِلَة “على راحلته” على قدرِ استطاعته يأتي بما يستطيع من الواجبات والأركان.

 

والسُّنَّةُّ أن ينام في مزدلفة لفعله

وهو سُنَّة، فالمراد من المبيت في مزدلفة: المُكث

 فينبغي للحاج ألا يشتغلَ في مزدلفةَ بشيء لا بذكرٍ ولا صلاةٍ ولا تذكير ولا محاضرة فإن النبي لم يصلِ بين المغرب والعشاء شيئا ولا حتى بعدَ العشاء.

حتى إن العلماء اختلفوا/ هل أوتر تلك الليلة أو لم يوتر؟

فمن نظر إلى حرصه على الوتر قال: إنه أوتَر.

 ومن نظر إلى قولِ جابر: (إنه لم يُصَلِّ بعد العشاءِ شيئاً) قال: إنه لم يوتر.

 

وهذا يدعونا إلى خطأِ ما يفعَلُهُ البعض من التحلُّق بعد صلاةِ العشاء للتذكيرِ ونحوه!

 فهذه النومَة يستعينُ بها الحاجُّ على أعمالٍ ستكونُ في أعظمِ الأيام وهو: يومُ النحر.

 

والوقوفُ بمزدلفة قد اختلف فيه العلماء/ هل هو ركن أو واجب؟

فبعضهم قال: إنه ركن ولا يصح الحج إلا به، ودليلهم: قول النبي ﷺ:

” من شَهِدَ صلاتَنا هذه ووقفَ معنا حتى ندفعَ، وقد وقفَ قبل ذلك بعرفةَ ليلًا أو نهارًا فقد تمَّ حجُّه وقضَى تفثَه “

وهذا هو موضِعُ الشاهد: “فقد تمَّ حجُّه” فَفُهِمَ من ذلك أنَّ من لم يقف بمزدلفة أنَّ حجَّهُ غيرُ تام.

والصحيح هو القول الثاني: أنه واجب لقول النبي ﷺ:

” الحجُّ عرفةُ فمن أدرك ليلةَ عرفةَ قبلَ طلوعِ الفجرِ من ليلةِ جَمْعٍ فقد أدركَ “

 

 

ومن دلالةِ اللزوم أنه قد يأتي قُبَيل الفجر إلى عرفةَ بدقيقة فهل يمكن أن يَصِلَ إلى مزدلفة؟

الجواب: لا يمكن أن يصل إلى مزدلفة.

هل حجُّهُ غيرُ صحيح؟ الجواب: حَجُّهُ صحيح.

 

أما ما استدل به أصحاب القول الأول فإننا نقول:

أوجبوا أيضا صلاةَ الفجرِ بمزدلفة بل اجعلوها ركناً لأنه قال في الحديث السابق:

 ” من شَهِدَ صلاتَنا هذه” فلماذا تفرقون بين هذا وهذا؟!

 

وعلى القولِ المُرَجَّح: ( أنَّ المبيت بها واجب ) إذاً ما هو القدرُ المُجزئُ في الواجبِ في المبيتِ بها ؟

اختلف العلماء/ فبعضهم يرى: أنَّ الواجبَ على القادرِين البقاءُ حتى ينتهيَ الليلُ كلُّه.

 وبعض العلماء يرى: أنَّ الواجبَ أن يبقى إلى نصفِ الليل.

 وبعضُهم يرى: أنه إلى ثُلُثَي الليل، أي: الثُّلُثان وذلك حين يغيبُ القمر.

 

أما بالنسبة للضعفاء والعاجزين والنساء: فيجوزُ لهم أن يدفعوا بعدَ منتصفِ الليل.

  وبعض العلماء يقول: لا يدفعون إلا بعد مُضي ثُلُثَي الليل.

 

 ودليل من قال بالنصف: لأن النبي ﷺ: أمَرَ ضَعَفَةَ أهلِهِ أن يَفيضوا بليل،

 وكلمة: ( ليل ) مُطلقة فيكونُ الواجبُ: أكثر الليل.

ومن قال بثلثي الليل قال: لأنَّ أسماءَ بنتَ أبى بكر رضي الله عنهما أمرَت مولاها أن يَنظُرَ إلى القمر هل غابَ أم لم يَغِب؟ فلما غاب أفاضَت، قالت: “إنَّ النبي أذِنَ للظُّعن”.

وهذا هو القول الراجح.

 

 

 

 

والأدلةُ على جوازِ دفعِ هؤلاء الضَّعَفَة

 أنَّ سودةَ استأذنت النبيَّ أن تفيضَ قبل حَطْمَةِ الناس، وكانت امرأةً ضعيفة فأذِنَ لها عليه الصلاة والسلام.

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتِ:

“اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً فَأَذِنَ لَهَا “

وكذلك فِعلُ أسماء وقولُها: ( أُذِنَ للظُعن ).

 

أما أدلة من قال بعدم جوازِ إفاضَةِ الأقوياء

فلأن النبي لم يأذن إلا للضَّعَفَة.

 

وهل للأقوياء المُصاحِبِين للضعفاء أن يدفعوا معهم؟

الجواب: نعم لهم، ذلك فابنُ عباس رضي الله عنهما قد دفَعَ مع ضَعَفَةِ بيتِ النبيِّ ، وكَيسان مولى أسماء فد أفاضَ معها أيضا.

 

وأما دليل من قال بجوازه حتى للأقوياء

 أنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانت تتأسفُ فيما بعد تقول:

” نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً، فَأَذِنَ لَهَا فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ”

 

تقول: ( لو أنني استأذنت رسولَ الله كما استأذنته سودة أحبُّ إليَّ من مفروحٍ به )

ولأنَّ قول أسماء: ( أُذِنَ للظُّعن ) يدل على الجواز لأنَّ بعضَ النساء قد تكونُ أقوى من بعضِ الرجال.

 

ولذا لما ذكرَ ابنُ القيم رحمه الله القولَ بأنَّ المُصاحبين للضعفة لا يرمون إلا بعد طلوعِ الشمس قال:

” إنَّ فعلَ وقولَ أسماء: ( أذِنَ للظُّعن ) قضيةُ عَين لا عمومَ لها “.

 

والأدلةُ كما ترون فيها مجالٌ للسَّعَة ولا سِيَّما في مثلِ هذا الزمن الذي تحصُلُ فيه المشقة.

والقاعدة الشرعية: [ المشقة تجلبُ التيسير ].

 

فالأقوياء يُتأكد في حقِّهِم البقاء ولا شك، كيف وقدوتُهُم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بقي.

لكن لا يُضَيَّق على الناس، وأيضاً لا يُفتَح لهم:

 فمن سألَ فلا يُشَدَدُّ في هذه المسألة مع تبيينِ الأفضلِ له،

 ولا يُؤمَرُ الناسُ بهذا ابتداءً بهذا، يكفي أنه لو أمَرَهَم أو أجازَ لهم من غيرِ سؤالٍ يكفي أنه يُضيعُ على الناس سُنَّةً فعلها النبيُّ ﷺ.

 

سأل سائل فقال: من استدل بجواز الدفع للأقوياء استدل بقول عائشة رضي الله عنها:

” فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ َ كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ”

ما هو وجه الدلالة من ذلك؟

الجواب/ وجهُ الدلالة من ذلك: أنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانت قوية في ذلك الوقت فلو كانت العلة هي الضعف مطلقاً لما كان لها أن تتمنى أنها استأذنت النبي ، ولما أذِنَ النبي لجميع النساء، فإذنه لهن كلهن دل على أن الأمر فيه سَعَة.

 

وهل لهم أن يرموا ولو قبل الفجر؟

هذه المسألة أيضاً مُتنازع فيها/ فبعض العلماء يقول:

لا يرمي ولو كان ضعيفاً ولذا النبي قال لأغيلمة بني عبد المطلب وهو يضربُ على أفخاذهم: ( لا ترموا حتى تطلع الشمس ) .

 

 

والقول الآخر يقول: يجوز وذلك لأنَّ إفاضَتَهم من غيرِ أن يرموا ليس فيه فائدة لأنَّ العلةَ أن يتخلصوا من الزِّحام، فلو انتظروا لوقعوا في الزِّحام وتحطيمِ الناس.

ولأنَّ أسماء رَمَت كما في سنن أبى داود: ( رمت قبلَ الفجر) ومعها مولاها كَيسان قد رمي أيضاً، وهو رجلٌ قوي فسألها: فقالت: ( أُذِنَ للظُعن ) .

وابن عمر رضي الله عنهما أهلُه يدفعون ويرمون مع الفجر.

 ولأنَّ أمَّ سلمة افاضت بالليل كما جاء عند أبي داود فرمَت ثم ذهبت فطافت.

قال ابن حجر رحمه الله: أخرجه أبو داود بإسنادٍ على شرطِ مسلم، كما في بلوغ المرام. وهذا هو الصواب.

 

أما حديث: ( لا ترموا حتى تطلعَ الشمس ) فمتنازع فيه، ولذا أعلَّهُ ابنُ حجر بالانقطاع مع أنه صححه في موضعٍ آخر، ولذا قال في الفتح: يُحمَل حديث:

 ( لا ترموا حتى تطلعَ الشمس ) على الندب جمعاً بينه وبين فعلِ أمِّ سَلَمَة.

 

وأما فِعلُ أمِّ سلمة فقد ضَعَّفَهُ بعضُ العلماء، ولو قيل بتضعيفه ففِعلُ أسماء وقولُها:

 ( أذِن للظُعن ) لما أجابت مولاها هو الفيصل في هذه المسألة.

 

وأما قولُ ابنُ القيم رحمه الله: ( إنها قضية عين )  ففيه نظر، لأنَّ قضيةَ العين لو أُخِذَت بهذا المأخَذ ما أبقينا حكماً، فقضيةُ العين تُؤخَذ إذا كانت هذه القضية تُعارِضُ النصوص الكثيرة، أما هنا فالمسألةُ الأدلةُ فيها ما بين أخذٍ وتَرْك.