بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن والعشرون من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد البحري
باب خصال الفطرة: حلق العانة – ونتف الإبط – وتقليم الأظافر- وقص الشارب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: [الصحيح أنه يجب حَلْقُ العانة ونَتْفُ الإبط وتقليمُ الأظافر وقَصُّ الشارب فلا تُترَكُ أكثرَ من أربعين يوماً، ولا يلزم فعل ذلك قبل الاربعين ولو طالت على الصحيح]
الشرح:
قولنا: [الصحيح أنه يجب] ذلك لأن الفقهاء قالوا: بالسنية وأطلقوها، فقالوا: يسن حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب،
فإن كان المراد السنية مطلقاً: فهو قول مرجوح،
وإن كان المراد من قولهم بالسنية قبل أربعين يوماً: فهو قول صحيح
فإن هذه الأشياء لا يجوز تركُها أكثرَ من أربعين يوماً: لما جاء في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (وُقِّت لنا في حلق العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط ألا ندعها أكثر من أربعين يوماً) وجاء بيان المؤقِّت في السنن بلفظ: ” وَقَّتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ “
فيستحبُّ في هذه الأشياء أن تُؤخَذَ قبلَ أربعين يوماً،
والتوقيتُ بالأربعين يدل على الوجوب وإلا فما الفائدة من هذا التوقيت.
ومِن ثَم/ فقد اختلف العلماء: هل الحكم منوط بالإطالة بقطع النظر عن المدة ولو لم تصل إلى أربعين يوماً؟ أو أن الحكم منوط بهذا التوقيت؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: تؤخذ إذا طالت ولو لم تمضِ عليه هذه المدة، فإن لم يأخذها فهو آثم.
القول الثاني: أنه لا يأثم إلا بتجاوز هذه المدة ولو طالت قبلها، وهذا هو الأقرب، وذلك لعلمه ﷺ أن مثل هذه الأشياء ولاسيما الأظافر تطولُ في الغالب في أقل من هذه المدة بكثير،
فالإثمُ غير والأولَى غير، فالأولى له إذا طالت أن يأخذها وإن تركها فلا يأثم مع ترْكِه للأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــ
فقولنا [يجب حَلْقُ العانة] جاء في الصحيحين: ” خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ ” وذَكَر منها: ” الِاسْتِحْدَادُ “
والمرادُ منه: حَلْقُ العانة؛ فالفطرة تقتضي أخْذَ هذا الشعر
وهذا الشعر هو: الشعرُ الخشن النابتُ حول ذَكَرِ الرجل وفَرْجِ المرأة.
ونباتُه علامةٌ مِن علاماتِ بلوغِ الذَّكَرِ والأنثى.
والأولى فيه أن يُحلَق.
وبعضُ العلماء نظر إلى المعنى، والمعنى هو: إزالة الشعر فيحصُلُ ولو بالنتف،
ولكن لم يستحسن بعضَ العلماء النتف لاسيّما للمرأة لأنه يؤدي إلى استرخاء هذا المَوضِع.
ومثلُ الحلْق: التنوير، وهي المادةُ التي تستأصلُ الشعر من غير حَلْق، وهي معروفةٌ في القديم وقد تطورت في هذا العصر.
وبعضُ العلماء لا يستحسنُه لمن جلده رقيق خيفةً من أن يؤثرَ عليه،
وعل كل حال: فإزالةُ هذا الشعر مطلب بأي صورة كانت هذه الإزالة.
وقد عدّى بعضُ العلماء هذا الحكمَ إلى الشعرِ النابتِ حولَ الدبر، بينما قال آخرون: يحرم أخذ الشعر النابت حول الدبر،
والصحيح: أن هذا الشعر وهو شعر الدبر مسكوتٌ عنه، وهذا الشعر قد يَعلَقُ به بعضُ النجاسةِ أثناء الاستنجاء؛ بل إن هذا الشعرَ قد يسبب (الناسور) كما ذكر ذلك الأطباء، ولذا فلا معنى للنهي في أخْذِهِ لاسيما مع هذه العلل المطلوبة شرعاً.
والشعور بوجه عام تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
ومِن ثَم: فإن الأمر في هذا المسكوت أمْرٌ واسع، لكن إن ترتبَ على أخذه محظورٌ شرعيّ كمشابهة الكفار أو النساء أو نحو ذلك فيحرُم
فالرسول ﷺ أخبر أن النامصة ملعونة “لعن الله النامصة والمتنمصة”
وهذا النمص قد حصره بعض العلماء في شعر الحاجبين، وحصْرُه في شعر الحاجبين يدل على أن ما عداه ليس محرماً.
وبعض العلماء: جعل شعرَ الوجه أخْذُه نمص، ولذا لو نبتت لحية للمرأة أو شارب لها فيمتنع أخذه،
وقال آخرون: بل تأخذ هذا الشعر.
والمشهور أن النمص يكونُ للحاجبين وما يتبعهما كما لو اتصل شعرُ الحاجبين بعضه ببعض، للقاعدة [يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً].
وعلى هذا القول: يكون شعر الوجه ليس داخلاً في النمص.
وهل حكم النمص يشمل الرجل؟
حكم النمص يشمل حتى الرجل، لأن ما ثبت من الأحكام في حق النساء فهو للرجال، وما ثبت من الأحكام في حق الرجال فهو للنساء ولا يُستثنى أحدُ الجنسين إلا بدليل.
والنمص هو: النتف، ولذا حَصَرَه البعضُ بالنتف، ولكن الصحيح أن الحلق داخل.
وكذا/ صَبْغُه بلون يشبه لونَ البشرة حتى تُرى المرأةُ كأنها قد انتمصت، وذلك بالنظر إلى آخر الحديث قال النبي ﷺ “المغيرات خلق الله” أما لو علم مع وجود هذه المادة انها صابغة فلا يدخل في النمص والله أعلم،
ولا عبرة لقول بعض فقهاء الحنابلة أنه يجوز أن تتنمص المرأة بإذن زوجها للتجمل!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولنا [يجب نتف الإبط] نتف الإبط هذا هو الأفضل مِن حلقه لمن يقوى عليه، ولو حَلَقَ فلا حرج
والعلة في التنصيص على النتف: لأن النتف يُبطّئ من خروج ومن نبات الشعر، لأن هذا الشعر يسبب الرائحة الكريهة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[وتقليم الأظافر] وقد جاء النص بعبارة تقليم الأظافر، وجاء في رواية ” قص الأظافر”
وما يؤخذ من الأظافر هو الموضع الذي لا تبقى فيه الأوساخ حيثُ لا ضرر على الإنسان فيأخذ من أظافره ما يمنع بقاءَ الأوساخ حيث لا ضرر.
وقد استحب الإمام أحمد: أن يُبقيَ شيئا من أظافره إن كان مسافراً ليستعين بها في فك حباله وفي ربطها وفي حمل متاعه،
ولكن الصحيح: أن الحديث عام ولم يخصص مسافراً دون غيره فنحن مرتبطون بهذه المدة.
وقد استحب الإمام أحمد: أن يدفن الإنسان أظافره، وقد ذكر فقهاء الحنابلة أدلة على هذا:
أولاً: أن النبي ﷺ قال “ادفنوا قِلاماتِكم” لكن ضعفه ابنُ حجر.
ثانياً: أن النبي ﷺ أمر بدفنها فقال “حتى لا تتلاعب به سَحَرَة بني آدم” قال ابنُ حجر رحمه الله قد روى البيهقي نحوه، وسكت عنه ابن حجر فلم يذكُر تضعيفاً ولا تصحيحاً، وقاعدته رحمه الله كما نَصَّ في أول الكتاب: على أنه لا يَذكُرُ إلا حديثاً مقبولاً فهو إما صحيح أو حسن،
ولا يعني أنه صحيح أو حسن عن غيره فهناك أحاديث سكت عنها وهي ضعيفة عند غيره.
ثالثاً: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يفعله.
رابعا: أنه جزء من أجزاء الميت وقد قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس:21]
فإن كان ما ذكره ابن حجر ثابتا فيستحب هذا الفعل، ويقويه فعل ابن عمر إن ثبت،
ولذا بعض العلماء كأن هذه الآثار لم تثبت عنده، فقال (يستوي الأمران)
ولْتعلم أنه لم تثبت صفة في تقديم الأصابع في تقليمها:
هل يبدأ بالسبابة أم بغيرها؟ لم يأت دليل صحيح على ذلك، وما ذكره بعضُ العلماء فلا دليلَ عليه
وما ورد أن النبي ﷺ (يقلم أظافره يوم الخميس) ففيه راوٍ مجهول كما قال ابنُ حجر في الفتح
وما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن الرسول ﷺ كان يقلم أظفارَه كلَّ جمعة) فلا يصح مرفوعاً كما قال الألباني، إنما يصح موقوفاً عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
و [قص الشارب]:
ولم نقل (حفّ الشارب) وذلك لأنه إذا أتى بالقص فقد أتى بالواجب، وأما الحف فقد وردت به الروايات الأخرى، فقد أمر النبي ﷺ (بقص الشارب، وأمر بإحفائه)
ومما يدل على الوجوب: أن النبي ﷺ قال: ” مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا ” صححه ابن حجر والترمذي، وهذا يدل على الوجوب.
والروايات الواردة في الشارب: (القص)
وورد “احفوا الشوارب” وورد “أنهكوا الشوارب”
وورد “جزوا الشوارب” وورد “احلقوا الشوارب”
فرواية “قص الشارب” تكون بأخْذِ شيء دون المبالغة فيه، وأما الإحفاف فهو مأخوذ من الإحفاف في المسألة، أي: المبالغة فيها.
ورواية “جزوا” أيضا تدل على المبالغة.
ورواية “أنهكوا” كذلك، لقول الرسول ﷺ لأم عطية “اخفضي ولا تُنهكي”
وأما رواية (الحلق) فقد رواها النسائي
وجميع مَن روى هذا الحديث من رجال النسائي رووه (بالقص) ما عدا راوياً، ولذا يُحكم عليها بالشذوذ، فتكون رواية (الحلق) شاذة.
قال ابن حجر: وقد جاء ما يدل على أنها قد تكون محفوظة وهي رواية “جزوا”
ولكن هذا الاستظهار غيرُ واضح وذلك لأن (الجز) يختلف عن الحلق، فنحن مأمورون بقص الشارب أو بإحفائه، فيا ترى: ما هو الحف؟
قال بعض العلماء: الحف هو أخذ ما زاد من شعر الشفة العليا مما يلي الفم دون أخْذ شيءٍ آخر، فأخذ ما زاد على الشفة العليا من الشعر مما يلي الفم هذا هو الحَفّ، ويستدلون على ذلك بأدلة:
وقال بعض العلماء: أن الحف هو القص لشعر الشفة العليا مع المبالغة فيه ويستدلون على ذلك بأدلة منها “أنهكوا الشوارب” “جزوا الشوارب”.
ومنها أن ابن عمر رضي الله عنهما كما عند البخاري معلقا بصيغة الجزم:
(كان يأخذ من شاربه حتى يُرى بياض شفته)
قد جاء في رواية أخرى في غير الصحيح (أنه كان يأخذ من أعلاه ومن أسفله) وهذا هو الصحيح لوضوح الأدلة.
وأما حديث المغيرة رضي الله عنه: فلا يقوى مع معارضة ما جاء في الصحيح
ثم إنه وُجِّه بتوجيه آخر وهو: أن النبي ﷺ قص شارب المغيرة بعد ما تسوك، يعني قصه على إثر سواك، ويرد هذا التوجيه: حديث آخر يبين خلاف ما ذكروا.
ومِن ثم: فإن هذا الفعل من النبي ﷺ فعل للمجزئ لاسيما مع طول شعر شفة المغيرة، ولا يدل على عدم استحباب الحف لأن النبي ﷺ قد يترك الأفضل أحياناً لبيان الجواز، أو لأن شعر شارب المغيرة طويل لكلمة (وفى) قد يستغرق في حفه وقتاً طويلاً فتركه وهذا احتمال قوي يبطل الاستدلال بالحديث على حصر الحف لما نزل من الشفة مما يلي الفم.
وأما فعل عمر رضي الله عنه: فهو فعل صحابي ولا يدل على عدم استحباب الحف الذي هو الأخذ من جميع الشعر مبالغة واستقصاء، فقد يكون رضي الله عنه اقتصر على المجزئ منه،
وهذا فِعلٌ منه ولا يدل فعلُ الرسول ﷺ وهو فعله لا يدل على الوجوب فيكف بغيره،
ثم إنه رضي الله عنه معارَض فعله بفعل ابنه
وأما ما كره الإمام مالك من المبالغة في القص وقال (أرى من بالغ فيه أن يوجَع َضرباً) فهو قول مخالف للسنة الصريحة مع جلالة قدره رحمه الله، وقد قال (كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ﷺ) وحَكَم رحمه الله على الحلق بأنه بدعة.
فالصواب إذاً/ أن يبالغ في قصه: خلافاً للألباني رحمه الله الذي يرى القول الأول وذلك لأن النبي ﷺ أمر بالحف والإنهاك وجعل موضعها الشارب، و(أل) إذا دخلت على الكلمة تدل على العموم فما هو المخصص لهذا العموم وجعلوا الحكم منوطاً بما نزل من الشفة مما يلي الفم.
وقد ذَكَر بعض العلماء علة في ذلك وحكمة وهي: أن هذا الموضع مما يلي حاسة الشم، فحتى يكون أنقى وأحسن للشم أن يُزال هذا الشعر،
ومِن ثم: رَتّبَ بعضُ العلماء على هذه الحكمة أن يؤخذَ شيءٌ من شعرِ الأنف.
وهناك ما يسمى بالسِّبَال: والسبال هو ما نَزَلَ من شعر الشفة العليا إلى اللِّحيَيْن
وقد قال بعض العلماء: لا يجوز أخذ السِّبالَين لأنهما من اللحية، ويدلُّ لذلك قولُ جابر رضي الله عنه (كنا نوفر سِبالَنا إلا في حج أو عمرة) وهذا دليلٌ سيأتي معنا في حكم أخذ شيء من اللحية
ولذا قد يكون فعل عمر في تركه لهذين السبالين لكونهما من اللحية.
وقال بعض العلماء: أنهما من الشارب.
والقول الأول قول قوي: لاسيما أن شعر اللحية في اللغة (ما نبت على الذقن والعارضين والخدين)
وقد يقول قائل: إنهما لم ينبتا على الخدين ولا على اللحية، إنما نبتا على الشفة ونزلا على الذقن واللِّحيَيْن
فالقول الأول قول قوي لولا ما يعارضه من حديث صريح وهو قول النبي ﷺ:
“خالفوا المجوس إنهم يوفُّون سِبالاتهم ويحلقون لحاهم” فدل على أن السبال من الشارب وليس من اللحية، لكن ليُعلم أن السبال كما سبق هو ما نزل من الشعر النابت على الشفة العليا لا ما اتصل به مما نبت على اللِّحيَيْن.
ولا يقال (شنب) لأن الشنب للمرأة، وأما الشاربُ فللرجل هكذا قال أهل اللغة،
ولذا يتغزلون فيقولون: أنتِ وفوكِ الأشْنَبُ.