بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الثانية من فوائد ونوادر علمية من دعاء
(اللهم أصلح لي ديني وأصلح لي دنياي)
9-11-1437هـ
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري حفظه الله
دعاء “اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ” هذا الحديث سبق وأن ذكرنا التعليق على الجملة الأولى وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم.
الجملة الأولى: “اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي“ بيَّنَا ما هي العصمة وما هو الأمر وكيف يصلُح دين المسلم، وهنا لطيفه تذكرها رواية الزبير يذكرها حديث الزبير عند البزار (اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي) من التوفيق إذا أصلح الله لك دينك أن يبارك لك في هذا الدين، وأن ترى بركته في دنياك، في حياتك، أو أنه جل وعلا يجعل هذه البركة بعد وفاتك، فترى الخير العظيم من الله جل وعلا بعد مماتك.
البركة فضيلة زائدة على صلاح الدين، ولا يمكن أن تَحصُل البركة في الدين إلا عن طريق صلاح الدين، وأضرب لك مثلا أو مثلين من جنس الرجال، ومن جنس النساء فيما يتعلق ببركة دين المسلم إما من الرجال، وإما من النساء:
ابن تيمية رحمه الله عالم له فضله في الإسلام كم بيننا وبينه من السنين أكثر من سبعمائة سنة، نحسبه والله حسيبه، نحسبه ولا نزكى على الله أحدًا أن الله جل وعلا بارك في دين هذا الرجل وفي علمه، بل كما قال محمد بن عبد الله في كتابه (الرد الوافر) المشهور بابن ناصر الدين ذكر أن أحمد بن راشد المَلْكاوي بفتح الميم وإسكان اللام كما ضَبَطَه السخاوي، المَلْكاوي الدمشقي الشافعي كان مفتي المسلمين في وقته سبحان الله ابن تيمية رحمه الله كان يُعادى في زمنه حتى إن عِلمه وكتبه لا تنتشر، بينما كتب الأشاعرة بلغت آفاق الدنيا، لكن ما الذي بقي اسأل الله جل وعلا أن يبارك لي ولكم في ديننا ما الذي بقي؟
فأحمد بن راشد الملكاوي رحمه الله بينه وبين شيخ الإسلام خمس وسبعون سنة، يقول السخاوي رحمه الله كما في الضوء اللامع يقول: كان رجلًا يحسن الإفتاء حتى أصبح مرجع الناس، وكان يلازم الصلوات كلها في الجامع الأموي، وكان له حلقة من العلم يعلم الناس، فكان أحمد بن راشد الملكاوي كما قال السخاوي: يعتقد رجحان كثير من آراء ابن تيمية رحمه الله.
قال السخاوي: مع أن هناك نَفْرَة وحِدَّة من كثير من الناس على ابن تيمية سبحان الله، الرجل هذا ابن تيمية ما رأيت أعظم من أخلاقه إذا قُرِيء له ولا سيما في الردود على مخالفيه سبحان الله، لكن ما الذي جرى في (الرد الوافر) أتى شهاب الدين أحمد الحلبي إلى شهاب الدين أحمد بن راشد الملكاوي وقال: إني سمعت اليوم أمرًا عظيمًا شق علي، فقال الملكاوي: وما هو؟
قال: سمعت أنك بعت نسخة من شرح صحيح مسلم للنووي، واشتريت بالمال كتاب (الرد على النصارى) لابن تيمية فماذا قال أحمد بن راشد الملكاوي؟
قال: إن عندي نسختين بِعت إحداهما، واشتريت كتاب ابن تيمية (الرد على النصارى) قال: ولو لم يكن عندي إلا نسخة واحدة لبعتها، وليس هذا بعيب، لأني أعرف ما في شرح مسلم، لكنني محتاج إلى كتاب ابن تيمة في الرد على النصارى، ثم قال: والله –يقول الملكاوي– لأنه كان في عصره كان هناك من يَنْفُر من شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ووالله إن تقي الدين بن تيمية شيخ الإسلام يقول: والله إنه شيخ الإسلام.
شيخ الإسلام؛ ليس معنى ذلك أنه شيخ للإسلام، الإسلام ليس له مشيخة.
ولذلك بعض الأهواء يقولون: كيف تقولون شيخ الإسلام؟
أولًا: هذا اللفظ لم يطلق على شيخ الإسلام ابن تيمية وحده، بل أطلق على علماء آخرين، الإضافة لتعلم عبد الله أنها ثلاث أنواع، إما على تقدير اللام كما تقول: هذا قلم زيد يعني قلم لزيد، وهذا ليس مرادًا هنا، ليس شيخًا للإسلام، وإنما المراد إما الإضافة على تقدير (من) أو على تقدير (في) على تقدير (من) لو قلت: هذا خاتم من حديث يعني هذا شيخ من شيوخ الإسلام، أو بتقدير (في) كما لو قلت: كتاب التوحيد يعني هذا كتاب في التوحيد، صوت الليل يعني هذا صوت في الليل، كما لو قلت: شيخ بارع مجتهد في الإسلام.
فيقول الملكاوي: والله إن تقي الدين بن تيمية لشيخ الإسلام يقول: والله لو دروا علمه والله لأحبوه ووالوه لكن ماذا قال؟
لأن من يحاربه أهل البدع قال: والله من ما صاحب بدعة يأتي ببدعته ويناصره من يناصره من أهل الأهواء، قال: ولو ظهر أمره وكثر أتباعه، فإن أمره إلى خمود، وإلى تلاشٍ ثم قال: انظر –هذا موضع الشاهد؛ البركة– قال: وانظروا يقول الملكاوي يقول: وانظروا إلى ابن تيمية كلما مضت الأيام كلما ظهر محبوه ومتابعوه نعم، بيننا وبينه أكثر من سبعمائة سنة ومع ذلك انظروا سبحان الله البركة في الدين، أن تكون مباركًا.
ولذلك من قول عيسى عليه السلام كما ذكر عز وجل عنه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] حينما تكون مباركًا في أي زمن تكون فيه، في أي مكان هنا تأتي إليك الخيرات، وإذا كانت هذه البركة في الدين، أتت إليك الخيرات والرفعة والشرف في الدنيا وفي الآخرة.
والبركة أيها الأحبة ليست محصورة في جنس، البركة في الدين ليست محصورة في جنس الرجال، قد تكون في جنس النساء، بعض النساء تقوم ما لا يقوم به الرجال نعم يذكر ابن حجر رحمه الله كما في (الدرر الكامنة) عن أم زينب وهي فاطمة البغدادية من أنها تتلمذت على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال ابن حجر: وكان يعجبه يعني ابن تيمية يعجبه ذكائها وشدة فهمها.
قال رحمه الله: ونفع الله جل وعلا بهذه المرأة نساء أهل الشام لمَ؟
قال: لصدق وعظها –الصدق؛أصدق مع الله– قال: لصدق وعظها، قال: فانتقلت إلى مصر فنفع الله بها أهل مصر.
قال ابن حجر رحمه الله: وما أقل ما أنجب النساء مثلها.
يقول ابن كثير رحمه الله في البداية: كان شيخ الإسلام ابن تيمية يثني عليها ثناء عاطرًا، وكانت تحضر مجلسه، هي في معزل ليست مختلطة بالرجال كما قد يُتبادر إلى الذهن، فكانت تحضر درسه.
يقول ابن كثير: وكان يستعد ابن تيمية لها، لأنها كانت تحفظ كتاب (المغني) لابن قدامه أو تحفظ أكثره، فكان ابن تيمية يستعد لها لكثرة أسئلتها وحسن سؤالاتها، وفرط ذكائها، فكان يستعد ابن تيمية رحمه الله لها، لما لها من المكانة.
قال ابن كثير: وقد حفَّظَت نساء كثيرًا القرآن، منهن أم زوجة عائشة بنت الصديق انظر، ولذلك يقول ابن كثير رحمه الله يقول: ونصر الله بها السنة، كما أن الملكاوي كما قال السخاوي: نصر الله به السنة، يقول ابن كثير: فنصر الله بها السنة وقمعت البدع.
قال: وكانت تقوم بنشر العلم، وبقمع البدع، ما لا يقوم به كثير من الرجال.
فأسال ربك أن يصلح الله لك دينك وأن يبارك لك في دينك.
“اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي” وأصلح لي دنياي: صلاح الدنيا كيف يكون؟
يقول الطيبي رحمه الله: صلاح الدنيا أن يعطيك الله الرزق الحلال الكفاف الذي تستعين به على طاعة الله، هذا ملخص صلاح الدنيا، أن يرزقك الله المال الحلال الكفاف ليس الزائد كما يطلبه كثير من الناس، الكفاف الذي يعينك على طاعة الله هذا هو صلاح الدنيا لمَ؟
“وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي“ التي فيها معاشي: مجرد معاش، في حديث الزبير عند البزار ” دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا بَلَاغِي” مجرد بُلغة لأنها ليست دار قرار، وإنما دار زوال تنتقل من هذه الدنيا إلى دار أخرى.
“ التي فيها بلاغي“ بُلغة: كما يتبلغ المسافر بشيء من الزاد لكي يصل إلى ما يريد، هكذا الدنيا كما قال ﷺ لابن عمر عند البخاري “كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ“ يعني في بلد غريب عنها “أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ“ عابر سبيل مسافر وتأمل معي “وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي“ أي عيشة؟ ليست أي عيشة بعض الناس يريد أن يعيش أي عيشة، ولو توفرت له الأموال الطائلة لا، العبرة بالعيش المبارك الهنيء أن تعيش في هذه الدنيا عيش كرامة، ليس عيش تعب، وهم، وقلق، وركض وراء الدنيا، فَهَمٌّ بالليل، وهموم بالنهار لا، عيش كريم.
ولذلك في حديث الزبير عند البزار لما قال: “اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَفِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَصِيرِي وَفِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا بَلَاغِي“وفي دنياي:
يعني البركة تكون في الدنيا، كم من إنسان قليل المال، ومع ذلك ماله فيه بركة، تراه في بعض المجالس إذا جلس تقول: سبحان الله إذا تحدث أو رأيت تقاسيم وجهه قلت سبحان الله، إذا لم تعرفه تقول: سبحان الله هذا الرجل يملك ملايين؛ من السعادة، وهو لا يملك إلا النزر اليسير، أهم شيء السعادة التي تكون في القلب، ليس أي عيش كما يطلبه بعض الناس، فتراه في هموم وفي غموم، وفي متاعب لا.
والله إذا كنت في عيش وأنت به سليم من الأمراض، ومن البلاء، ومن الفتن التي تفتك بدينك، وأنت بصحة وعافية، وقمت بحقوق الله عز وجل هذا هو العيش الكريم الهنيء، ولو كانت الدنيا كلما جُمِعَت لو كانت كلما جُمِعَت كان لها من الشرف ما لها، لكان نبينا ﷺ أغنى البشرية كلها جمعاء،
لا بُلْغَة فقط.
“وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي” لأن النظرة السائدة ولا سيما في هذا الزمن مع توسع وسائل التواصل ونظر كثير من الناس بالليل وبالنهار إلى ما في أيدي الآخرين عبر وسائل التواصل مما يسمى بالسناب شات أو الاستجرام أو ما شابه ذلك؛ علَّقت الناس بالدنيا سبحان الله، وكلما تعلق الإنسان بالدنيا، كلما زادته هذه الدنيا عذابًا، وإن كان يظن في ظاهر الأمر يظن أنه سعيد، فالسعادة في الدنيا لا تحصر، والعيش الطيب الهنيء في الدنيا لا يحصر بكثرة المال، ولا بالمنصب، ولا بالجاه، لا.
يقول ابن القيم رحمه الله: الحريص على المال، والذي شغف قلبه به يعذب ثلاث مرات بهذا المال أعوذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية، يُعذَّب –لأنه يهتم– يُعذَّب من أجل أن يجمعه، فإذا جمعه تعذَّب من أجل أن يحفظه، ثم يتعذب عذابًا ثالثًا، يتعذب من أجل أن ينيمه وأن يزيده.
ولذلك كان من دعاء النبي ﷺ: “اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا“ تبينها الرواية الأخرى: “ كفافا “ وكان من دعائه كما في حديث أم سلمة عند أحمد، ولا بأس بإسناده قبل أن يُسَلِّم من صلاة الفجر قبل السلام في التشهد يقول: “اللهمَّ إنِّي أسألُك علمًا نافعًا ورزقًا طيبًا وعملًا متقبلًا“ ورزقًا طيبًا:
أهم شيء رزق طيب، لا تتوسع عيناك، {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} اقرأ ما بعدها {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} هذه الحياة، هذه هي السعادة في الدنيا قبل الآخرة {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] يقول القرطبي في (التفسير): نحن نرزقك دل هذا على أن الصلاة والمحافظة عليها سبب من أسباب الرزق، وللحديث إن شاء الله تتمة فيما يتعلق بجمل هذا الدعاء الذي هو وبلا شك كما قال الشوكاني: من جوامع الكلم.