الخطبة رقم ( 1 ) عن
( فضل العلم وضرورة تعلمه وتعليمه ونشره في هذا الزمن )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحدثنا في الجمعة الماضية عن فضيلة الإنفاق من المال، وهناك إنفاق من نوع آخر هو أفضل من إنفاق المال، من لديه هذا الشيء، فيتعين عليه في هذا الزمن أن ينفقه، ومن لم يجد هذا الشيء، فيتعين عليه أن يتحصله؛ لينفقه، ألا وهو العلم….
العلم بما جاء عن الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صح عنه على فهم سلف هذه الأمة…
الناس بحاجة إليه في مثل هذا الزمن، في هذا الانفتاح في وسائل التواصل، ومع تنوع القنوات، ومع كثرة من يمتهن العلم الشرعي، ومع كثرة ما يبثه اهل البدع لبدعهم في وسائل التواصل، أو لمحاورات في برامج تشكك أهل السنة في دينهم، ومن هنا يظهر في مثل هذا الزمن قول النبي صلى الله عليه وسلم يتأكد قال ـ كما عند ابن ماجه وغيره وله طرق ـ ” طلب العلم فريضة على كل مسلم”، قيل للإمام أحمد: ما هو النوع الذي يكون العلم به فريضة ويكون واجبا على كل مسلم؟ قال: ” ما لا يسع الإنسان أن يجهله”
في مثل هذا الزمن كثر الجهل، وكثر المتعالمون، وكثر المنتحلون للعلم وكثر أهل البدع، وبالتالي فإنه يتعين عليك يا مسلم أن تحفظ دينك، وذلك بأن تتعلم العلم الشرعي، ومن لديه علم شرعي، فيجب عليه أن ينفقه..
لكن ما هو هذا العلم الشرعي؟
العلم الشرعي: يقول ابن القيم كما في كتابه مفتاح دار السعادة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: ” من فارق الدليل ضل السبيل” من فارق الدليل، الدليل الشرعي، ما هي يوميات، ولا حكايات، ولا قصص، ولا ذهبت ورجعت، ولا فعلت، ولا صنعت، ولا إتيان بنص شرعي على غير الفهم الصحيح، أو الإتيان بأحاديث ضعيفة، كلا، قال: ” من فارق الدليل فقد ضل السبيل” قال: ” ولا دليل إلا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “
قلت: على ما فهمه سلف هذه الأمة….
ولذلك، قال الحسن: ” إن الجهال يفسدون أكثر مما يصلحون” بعض الناس قد تكون نيته حسنة، يريد أن ينفع الناس في وسائل التواصل، لكنه يأتي بأحاديث مختلقة موضوعة، أو ضعيفة، أو ربما يأتي بنص صحيح، أو بآية، وإذا به يعبث بها من فهمه وسوء الفهم، ولو كنت حسن النية، سوء الفهم يودي بالإنسان إلى مهالك عظمى في دينه وفي دين المسلمين، قال الحسن البصري رحمه الله: ” إن الجهال يفسدون أكثر مما يصلحون”، قال: ” فاطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، واطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، وإن قوما طلبوا العبادة، وتركوا العلم، فخرجوا على المسلمين بأسيافهم” يقصد بذلك الخوارج أهل عبادة، لكن سوء فهم، لم يتعلموا العلم الشرعي، قال: ” ولو تعلموا العلم الشرعي لما خرجوا على المسلمين بأسيافهم”
قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة قال: ” وحاجة الإنسان إلى العلم حاجة ضرورية”، قال: ” بل يتوقف كماله وتتوقف سعادته في الدنيا وفي الآخرة وفي معاده وفي معاشه على هذا العلم”
وكما أسلفت بين قوسين ” العلم الشرعي الدليل الشرعي ما جاء في شرع الله على ما فهمه سلف هذه الأمة”، فأعظم ما يبذل، أعظم ما يبذل في أي زمن، ولا سيما في هذا الزمن أن يبذل العلم الشرعي، الحسن البصري رحمه الله ماذا قال في قوله تعالى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى قال: ” ومن أعظم النفقة أن تنفق العلم”، وقال أبو الدرداء رضي لله عنه: ” ما تصدق عبد بصدقة أعظم من أن يجتمع مع إخوانه، فيلقي عليهم موعظة، فيخرجون وقد انتفعوا بها” العلم النافع، ما هو أي موعظة، قال: ” وقد خرجوا وقد انتفعوا بها”
معاذ بن جبل رضي الله عنه أعلم الأمة بالحلال والحرام يقول لنا كلاما نحتاج إليه، ماذا قال؟ قال: ” طلب العلم عبادة، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لأهله ـ يعني لأهل العلم ـ قربة، وتعليمه لمن يجهله صدقة”
ولذلك قال شيخ الإسلام، يقول كما في مجموع الفتاوى يقول: ” العالم لماذا يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر؟ والله عز وجل وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، لم؟ قال: ” لأن العلم يحتاج له في كل شيء، ففضله بهذا الفضل، صلاة من الله ومن الملائكة، واستغفار من جميع المخلوقات حتى الحيتان في البحر”، قال: ” على النقيض من ذلك من كتم العلم يلعنه الله ويلعنه اللاعنون”
ولذلك يقول بعض السلف عبارة: ” إن البهائم لتلعن عصاة بني آدم إذا منع القطر من السماء يقولون: إنما هذا بشؤم معصيتهم” ما السبب؟ يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ” لأنه إذا كتم العلم فعلت المعاصي، وإذا فعلت المعاصي هنا يمنع القطر من السماء، فالبهائم تلعن عصاة بني آدم إذا منع القطر من السماء”
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ” وكل يعرف من نفسه أنه عالم” يقول من غير واسطة أحد، إذا تعلمت العلم الشرعي أنت من نفسك تعلم أن هناك علما أحسست به دون واسطة أحد. قال: ” فحصول العلم في القلب كحصول الطعام والشراب في البدن” قال: ” فإنه ـ يعني الطعام والشراب ـ كما يتلذذ به صاحب البدن كذلك العلم يتلذذ به صاحبه في قلبه” قال: ” فهذا ـ يعني العلم الشرعي ـ وقوت القلوب كما أن الطعام والشراب قوت الأبدان والأجسام”
فالعلم الشرعي الإنفاق منه متعين ولا سيما في مثل هذا الزمن، أنت يا مسلم يتعين عليك أن تتعلم العلم الشرعي؛ لكي تحصن نفسك بعد حفظ الله، ولكي تبلغ شرع الله على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولذلك من فضائل العلم ومن فضائل أهله ما قاله عز وجل {شَهِدَ اللَّهُ} هذه دعوة من خلال هذه الخطبة أن نحرص على تعلم العلم الشرعي، وأن نتعلم العلم الشرعي من أهله، ولذلك ماذا قال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}
تأمل معي ما قاله ابن القيم رحمه الله تحت هذه الآية من فوائد كما في مفاح دار السعادة:
قال: يدل على فضيلة أهل العلم أن الله عز وجل قرن شهادتهم بشهادته على ماذا؟ على التوحيد، على توحيد الله، أيضا قرن الله شهادتهم بشهادة الملائكة، أيضا استشهدهم، والله لا يستشهد إلا بعدول، دل على أنهم عدول لكن متى؟ إذا قاموا بهذا العلم الشرعي تعلما وعملا، ولذلك يدل عليه حديث اختلف فيه اختلافا كثيرا بين أئمة الحديث: ” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”
وذلك قيل لأن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري ليس بصحابي، فيكون مرسلا، لكن قال الإمام أحمد كما ذكر الخلال في كتابه العلل قال:” سألت الإمام أحمد قلت كأن هذا الحديث موضوع، قال بل هو صحيح، ثم سرد الأدلة الموصولة والمرسلة على هذا الحديث، فهو حديث ثابت عند الإمام أحمد وغيره.
الشاهد: أن الله استشهد بأهل العلم، فدل على أنهم عدول متى ما قاموا بشرع الله.
أيضا تأمل قال {وَأُولُو الْعِلْمِ} قال: لأنهم أهل العلم، صفة العلم فيهم.
يقول ابن القيم رحمه الله: ” ليست صفة مستعارة” التي ابتلينا بها ابتلينا بأوصاف ظهرت في هذا الزمن غررت البعض، واغتر بها البعض صفات على أنه من أهل العلم، ” ليست صفة مستعارة، لا، بل لأنهم أهل العلم”
تأمل أيضا، قال مما يدل على فضيلة أهل العلم أنه جل وعلا قال {شَهِدَ اللَّهُ} أتى بالفعل لم يكرره، فدل على أن شهادة أهل العلم مقارنة لشهادة الله ولشهادة الملائكة.
أيضا تأمل: الله جل وعلا استشهدهم على أعظم مشهود، ما هو أعظم مشهود؟ ما هو أعظم ما أمر الله به؟ هو التوحيد، ولا يستشهد على القدر العظيم إلا من هو عظيم وشريف.
أيضا تأمل: قال إنما استشهدهم؛ لأنهم بمثابة الحجة على عباد الله إذا نشروا هذا العلم ونشروا هذا التوحيد، فيكونون بهذا الاعتبار من آيات الله، ودلائل الله على توحيد الله.
أيضا تأمل: قال رحمه الله قال: ” فشهادتهم هذه شهادة على المنكرين لهذا التوحيد، فيقول رحمه الله: ” فإذا قاموا بهذا الفضل قال رحمه الله: فكان ذلك كمال سعادتهم في الدنيا وفي الآخرة، لم؟ قال: ” لأنهم إذا نشروا هذا العلم نشروه بهذه الشهادة، نشروا هذا العلم، كل من نالته هذه الشهادة عن طريقهم، فلهم أجرهم من غير أن ينقص من أجر هؤلاء شيئا، ومن تلقى هذه الشهادة، ونشر العلم عن طريقهم كان لهؤلاء أهل العلم من الأجر مثل أجور من نقل عنهم هذا العلم من غير أن ينقص من أجور هؤلاء المبلغين الذين أخذوا العلم عنه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا”
آية عظيمة تدل على فضل العلم وأهله…..
الناس يتسابقون على جمع المال، فلماذا لا تتسابق على جمع العلم الشرعي، وأنت في زمن تتخطف الفتن الناس يمنة ويسرة، فتن الشبهات، فتن الشهوات..
سبحان الله! الناس في مثل هذا الزمن لما كانت الحاجة إلى العلم حاجة ضرورية عزفوا عنه، ومع هذا كله لم يعزفوا عن طلب المال، بل أصبح معظم أو جل هم الناس الدنيا، إن نام نام على الدينا، إن استيقظ استيقظ على الدنيا، إن ركب سيارته فللدنيا، إن ذهب يمنة ويسرة فللدنيا، حتى لو أكل أكلة مع أهله فعقله مشغول بهذه الدنيا.
لا حرج أن تبتغي فضل الله من هذه الدنيا، لكن ليكن الإنسان معتدلا، الجهل يعظم، والعلماء يقبضون، ويقل أهل العلم، ويكثر أهل الجهل، وأهل البدع، والناس في عزوف عن العلم الشرعي، وفي إقبال على هذه الدنيا، ماذا قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
يقول ابن القيم: أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأمر أهل العلم بأن يحرصوا على جمع العلم، وليفرحوا به، فإنه خير مما يجمعه أهل الدنيا من دنياهم؛ لأنه قال {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} فسر الفضل بأنه الإيمان، وفسرت الرحمة بأنها القرآن، والإيمان والقرآن قال: هما العلم النافع والعمل الصالح، وهما الهدى وطريق الحق {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}
{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، لم؟ لأن الدنيا زائلة وذاهبة، لكن إذا بقي الدين، فسلم الدين، وانتشر العلم عن طريقك، كم من الخير، وكم من الحسنات، وكم من الأجور تتحصل عليها، بل إن الله لما عدد نعمه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ذكر أن من أجل هذه النعم أنه علمه ما لم يكن يعلم {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}
ولذلك فصورة أهل العلم أبهى صورة، أبهى صورة ما ميز الله مع ما لآدم من الفضائل كما قال ابن القيم مع ما له من الفضائل التي فاق المخلوقات في زمنه لديه فضائل، لكن ميزه على الملائكة بماذا؟ بالعلم، {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
قال: تأمل يقول: نظير هذا تأمل قصة يوسف، كان من أجمل الناس، وفي أحسن صورة، ومع ذلك ماذا صنع الملك به؟ سجنه، مع أنه في أجمل كما هو معروف، وجاء في الحديث: ” أنه أعطي شطر الحسن نصف الجمال عليه السلام”، قال: فلما أظهره الله بما لديه من علم التعبير، تعبير الرؤى مما عجز عنه من في عصر هذا الملك، ماذا صنع به؟ أخرجه من السجن، أخرجه من السجن، وملكه خزائن الأرض؛ ليتصرف فيها، لم؟ قال: لأن صورة العلم أبهى وأجمل من الصورة الحسية، لما علمه تعبير الرؤى الذي لعب وعبث به في هذا الزمن، إما من أجل الشهرة، أو من أجل المال، أو ما شابه ذلك، وسبق بيان ذلك، ونبهت على خطورة العبث بالرؤيا، وأنا أقول في مثل هذا المقام من لا يقرأ أو من لم يقرأ كتاب التعبير في صحيح البخاري مع شرحه لابن حجر في فتح الباري عن تعبير الرؤى لن يكون تعبيره سليما، ولن يكون صوابا، لم؟ لأن تعبير الرؤى مبني على أصول على الكتاب، وعلى السنة وعلى ما يتعلق بكلمات عربية، وما شابه ذلك، فله أصوله، أما أن يأتي شخص، قد يأتي شخص من الشارع، ويخرج في قناة، أو ما شابه ذلك، فيقول أنا مفسر رؤى، ما الذي أدراك أنت يا مسلم أنه صادق أنه يعرف الرؤى، ولذلك عظم البلاء عند كثير من الناس بسبب تفسير الرؤى من بعض أولئك جعلوا الناس يعكفون في بيوتهم خوفا من الموت..
والحديث عن أهل العلم يطول، سبحان الله! فضائل العلم أنا ما ذكرت ذلك إلا من أجل أن نحرص، والله إننا في زمن بحاجة ماسة، موسى عليه السلام كليم الله، وأفضل من الخضر كما تقرأون يوم الجمعة سورة الكهف، تجشم المصاعب من أجل أن يذهب إلى الخضر، ولم يقر له قرار كما قال ابن القيم رحمه الله حتى وصل إليه؛ ليتعلم كم؟ ثلاث مسائل، ما جاء ممتحنا، ولا مختبرا كما قال رحمه الله، إنما جاء متعلما مستزيدا بالعلم، فما الذي أخرج موسى عليه السلام إلا لأمر عظيم..
وكما سلف: احرصوا بارك الله فيكم على تعلم العلم الشرعي من أهله..
والعلم الشرعي أكرر: هو ما جاء عن الله عز وجل، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ـ قيد ـ مما صح عنه، قيد آخر: على فهم سلف هذه الأمة، لا بفهمي ولا بفهمك، ولا بفهم فلان، لا بعقل فلان، لا بأفكار فلان، لا بفلسفة فلان..
وكما قال الإمام مالك: ” لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها”، تأمل حال أول هذه الأمة: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)…