بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
أما بعد :
تحدثنا في مضى عن عقبة الصغائر والتي ثنيا بها عقيب الكبائر ، ولعلي في هذه الليلة أن أذكر بعض الصور من الأقوال ومن الأفعال التي وردت عن سلف هذه الأمة والتي أوضحت مدى ذلك الخوف من عذاب الله جل وعلا ، فإذا طالعنا سير هؤلاء العظماء الأجلاء الصالحين الأبرار وجدنا فيها من العجائب والغرائب ما يذهل العقل عن تصوره ، بل إن البعض من الناس إذا ذكرت له سيرة من سير السلف الصالح أو قصة ثابتة عن هؤلاء الأطهار الأبرار ، إذا به يتصور أن هذا الأمر نوع من الخيال وليس هذا بصحيح بل هو والله حق وحقيقة وصدق لكن نفوسنا أعيتنا وأعجزتنا حتى تأخرنا عن هذا المقام ، ولا أدل من قول ابن مسعود رضي الله عنه رضي الله عنه لما قال له رجل يا أبا عبد الرحمن إني لا أستطيع أن أقوم الليل ، فقيام الليل علي شاق ، لا أستطيع أن أؤدي هذه النافلة وهذه العبادة ، فقال رضي الله عنه ( نعم ، قد أقعدتكم وقيدتكم ذنوبكم )
الحسن البصري رحمه الله كان كثير البكاء ، قيل له نراك كثير البكاء ، فقال رحمه الله – انظروا إلى وجَلِه وإلى خوفه من الله جل وعلا ، بخلاف ما عليه البعض من الناس ، فهو يعصي الله جل وعلا ، يخطئ ، يزل ، يذنب ، وكأن الأمر شيء طبيعي ، كأنه يعصي مخلوقا من المخلوقين ، قيل له نراك كثير البكاء ، فقال رحمه الله ( أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي )
وقد ذكرت لكم ما وصفه به أحد طلابه في دروس سابقة إذ قال ( كان الحسن البصري رحمه الله إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حبيب ) إذا أقبل الإنسان من دفن جنازة وليست هذه الجنازة قريبة منه ، ماذا يظهر عليه من الخشوع ومن الخضوع ومن التأثر ؟ يظهر عليه شيء عظيم ، فكيف إذا كان هذا الدفين أحد أقربائه ( كان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حبيب ، وإذا جلس فكأنما أُمر بضرب عنقه ، خائفا وَجِلا ، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له ، ثم نخرج من عنده لا نعد ولا نعتبر الدنيا شيئا .
ولهذا قال ( ما أمن الله إلا منافق وما خافه إلا مؤمن )
قال بعض السلف ، وأنا أذكر هذه الصور وهذه الأقوال النيرة الطيبة حتى تدخل في قلوبنا لعلها أن تتعظ ، لعلها تستيقظ من غفلتها ، قال أحد السلف ( من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم ، لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا ) النبي صلى الله عليه وسلم قال في حد السرقة ( تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ) الربع دينار يعتبر ثلاثة دراهم ، لأن الدينار في ذلك الوقت عبارة عن اثني عشر درهما ، وثبت في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قطع يد رجل سرق مِجنَّا قيمته ثلاثة دراهم ) فقال هذا العالم الجليل قال ( من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم ، لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا )
وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله ( احذره ولا تغتر به ، فقد عذَّب امرأة في هرة حبستها ، واشتعلت الشملة على الشهيد نارا لما غلَّها )
ولهذا قال بعض السلف ( رُبَّ مستدرج بنعم الله وهو لا يعلم وربَّ مفتون بستر الله وهو لا يعلم ، وربَّ مغرور بثناء الناس عليه وهو لا يعلم )
يقول إبراهيم التيمي رحمه الله وهو من التابعين يقول ( ما عرضت عملي على قولي إلا خشيت أن أكون كاذبا )
فما ظنكم بأحوالنا ؟ ما ظنكم بسيرتنا ؟
يقول ابن أبي مليكة رحمه الله كما في صحيح البخاري يقول ( أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كل منهم يخشى النفاق على نفسه ، ما يقول أحد منهم إني على إيمان جبريل أو ميكائيل ) هؤلاء الصحابة الأجلاء الذي أثنى الله عز وجل عليهم في كتابه ، هذه هي حالتهم وهذه هي سيرتهم ، كل منهم يخشى على نفسه من النفاق (ما يقول أحد منهم إني على إيمان جبريل أو ميكائيل ) .
أبو بكر الصديق رضي الله عنه – لعلي أذكر نبذة مختصرة عن شيء من سيرته رضي الله عنه ، أبو بكر رضي الله عنه كان كثير البكاء ، لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته الذي توفي بعده ، أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فماذا قالت عائشة رضي الله عنها ؟ ( قالت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ) يعني كثير البكاء ( إذا صلى بالناس لا يسمع الناس قراءته من كثرة البكاء )
فماذا كان يقول ؟ كان يخرج لسانه ويقول هذا هو الذي أوردني المهالك ، من هو المتحدث ؟ أبو بكر رضي الله عنه ، يقول عن لسانه ( هذا الذي أوردني المهالك ) وهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي يدخل الجنة من جميع أبوابها الثمانية ، المشهود له في الدنيا ، نطق بذلك اللسان المطهر ، لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة له في الدنيا بأنه من أهل الجنة ، وهذا هو كلامه .
أتي له في ذات يوم من الأيام بطير قد صيد ،فماذا قال ؟ ما صيد طائر إلا بما ضيع من التسبيح ، قال تعالى وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }الإسراء44 ، فهذا الطير ما صيد إلا بتضييعه لتسبيح وتنزيه الله جل وعلا .
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسيرته من العجائب ، يقول أنس رضي الله عنه تبعته ذات يوم حتى حال بيني وبينه حائط ، وهو لا يعلم بمكاني ، وإذا به وأنا أسمعه من وراء الحائط يحدث نفسه يقول ” أمير المؤمنين ابن الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك ” سبحان الله العظيم ! يجلس مع نفسه يحاسبها ، يناقشها ” لتتقين الله أو ليعذبنك “
هذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ، حتى قيل من كثرة بكائه كان في خديه خطان أسودان من كثرة البكاء ، هذه هي أحوال صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، هذه هي سير السلف الصالح ، وكيف لا تكون هذه سيرهم وأحوالهم والنبي صلى الله عليه وسلم كان كثير البكاء ، دخل عليه عبد الله بن الشخير ذات يوم وهو يصلي وإذا ( لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء )
تقول عائشة رضي الله عنها ( يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فلماذا هذا القيام ؟ ) تتفطر قدماه عليه الصلاة والسلام من طول القيام ، فتقول له عائشة لم يا رسول الله ؟ فقول يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا ؟
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذاً الذنوب من الخطورة بمكان ، فالواجب علينا أن نحذر من الذنوب كلها كبيرها وصغيرها .
قد يقول قائل : هذه الذنوب مرت بنا أربع عقبات ( الشرك ) ولا شك أنه أعظم الذنوب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لما سئل أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) وذكرنا البدعة والكبائر والصغائر ، بقي ثلاث عقبات لا علاقة لها بالذنوب ، لكن هذه الأربع كيف يدخل الشيطان على ابن آدم فيوقعه في هذه الذنوب الأربعة ؟
يدخل عليه الشيطان من أربعة أبواب ( من النظرة ، من اللفظة ، من الخطرة ، من الخطوة ) يعني ( من العين ، من اللسان ، من الهوى ، من القدم ) هذه أربعة أبواب متى ما سدها ابن آدم سد خزي الشيطان في نحره ، ولهذا قال بعض السلف إذا وجدت فيك هذه الأمور الأربعة وهي ( النظرة واللفظة والخطرة والخطوة ) فاحث على رأسك الرماد فقد شقيت وخسرت وهلكت .
وقد ذكرها الله عز وجل في كتابه في موضعين ، فجمع الله جل وعلا بين اللفظة وبين الخطوة في قوله جل وعلا {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً } هذه خطوة .
{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً } هذه اللفظة
بقيت النظرة والخطرة التي هي في القلب ، قال تعالى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }غافر19 ، هذه أربعة أبواب متى ما أغلقت هذه الأبواب أحرزت دينك وحفظته ، هذه الأربع لعلنا أن نتحدث عن بعضها في الليلة القادمة إن شاء الله تعالى ، ولعلنا أن نبتدئ بالنظرة التي يكون مصدرها العين ، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد