أما بعد : فيا عباد الله :
ما زال الحديث يتتابع عن العلامات الكبرى للساعة ، وذكرنا فيما ذكرنا في الجمعة السالفة ، ذكرنا ( نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ) ثم يتلو ذلك خروج يأجوج ومأجوج ، وخروج يأجوج ومأجوج ثبت في صحيح مسلم ، فقد ذكر عليه الصلاة والسلام ( أن من علامات الساعة أن يخرج يأجوج ومأجوج ) ويصح أن ينطقا بهذا اللفظ ( ياجوج وماجوج ) بدون همز ، وقد قرأ الجمهور بذلك .
ويأجوج ومأجوج قبيلتان من بني آدم ، وقد ذكر أهل اللغة أن يأجوج ومأجوج إن كانا لفظين عربيين فإنهما يكونا من ” أجّت النار ” أي إذا التهبت ، وهذا معنى موجود في يأجوج ومأجوج .
أو من ( الأُجاج ) وهو الماء المالح شديد الملوحة ، لأنه يُحرق صاحبه إذا شربه ، ولا شك أن هؤلاء يحرقون الناس إذا خرجوا إليهم .
أو من ( الأَج ) وهو سرعة العدو ، وهذا أيضا معنىً موجود في يأجوج ومأجوج ، لأنهم سريعو العدو .
أو من ( ماج ) يعني إذا اضطرب ودخل بعضهم في بعض ، وهذا يدل عليه قوله تعالى على أحد وجوه التفسير { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً }الكهف99 .
ويأجوج ومأجوج من ذرية آدم وحواء عليهما السلام ، أبوهم آدم وأمهم حواء ، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في الفتح ناسبا هذا القول إلى النووي في فتاويه ” أن يأجوج ومأجوج من آدم فقط وليس من حواء ” وزعموا أن آدم احتلم فاختلط مَنيّه في التراب فنجم من هذا يأجوج ومأجوج ” قال ابن حجر رحمه الله ” وليس عليه دليل وليس له أثر عن السلف ، بل لم يقل به أحد من السلف ، وإنما هو موروث من كعب الأحبار “
وكعب الأحبار كثيرا ما يسمعه الناس ، كعب الأحبار من كبار التابعين ، ولم يدرك زمن النبي عليه الصلاة والسلام ، هو رجل من كبار علماء أهل الكتاب أسلم في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقدِم المدينة في زمن عمر رضي الله عنه ، وسكن الشام ومات في خلافة عثمان رضي الله عنه ، وكان كثيرا ما يذكر إسرائيليات لأنه من بني إسرائيل ، لكن كثيرا منها – كما في تذكرة الحفاظ – لكن كثيرا منها لا تصح نسبته إليه ، وليس له حديث في صحيح البخاري ، وليس له حديث عند مسلم إلا عن أبي هريرة رضي الله عنه .
الشاهد من هذا أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم وحواء .
ومعلوم أن يأجوج ومأجوج من ذرية نوح ، وقطعا نوح عليه السلام من ذرية حواء ، ولذا ذكر ابن كثير رحمه الله في النهاية ، قال ” هما من ذرية يأفث أبي الترك ، ويافث من ولد نوح “
وعدد هؤلاء كبير كثير ، جاء في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يقول الله عز وجل يوم القيامة يا آدم ، فيقول يا رب لبيك وسعديك ، فيقول الله عز وجل أخرج بعث النار ) يعني أخرج نصيب النار ( فقال وما بعثُ النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، حينها يشيب الولدان{ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } فقال الصحابة يا رسول الله أينا ذلك الواحد ؟ ) إذا كان سيُخرج من الألف تسعمائة وتسعة وتسعين ( أينا ذلك الواحد ؟ قال : أبشروا فإن منكم رجلا وإن من يأجوج ومأجوج ألفا )
ويؤيده ما جاء عند الطبراني ورواته ثقات كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد واستغربه ابن كثير رحمه الله ، حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ( ولن يموت أحد منهم ) يعني من يأجوج ومأجوج ( ولن يموت أحد منهم إلا ترك ألفا فصاعدا ) يعني أن سلالة الواحد منهم تصل إلى الألف بل تزيد على ذلك .
ويأجوج ومأجوج يُشبهون أبناء جنسهم الترك المغول الذين تحدثنا عنهم في جُمع سالفة من العلامات الصغرى للساعة من أنهم صغار العيون فطس الأنوف ، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند ، وقال عنه الهيثمي في المجمع رجاله رجال الصحيح ، قال ( إنكم تقولون لا عدو وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يخرج يأجوج ومأجوج عِراض الوجوه صغار العيون شُعْف الرؤوس) يعني أن مقدمة رؤوسهم فيها شُهْب ( من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة ) وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في صفات هؤلاء ولكنها لا تصح ، ذُكر من الآثار التي وردت وهي لا تصح ، لأن بعضا من الناس تنطلي عليه هذه الآثار فيسمعها فيظن أنها صحيحة ، من هذه الآثار ( أن صنفا منهم كالأرز ) وهو شجر كبير
( وصنف منهم أربعة أذرع في أربعة ، وصنف منهم يفترشون أذنا ويلتحفون بالأخرى ، وصنف منهم شبر في شبرين أو في ثلاثة أشبار ) قال ابن كثير رحمه الله ” ولقد تكلف ما علم له ، وذكر هذه الصفات وليست بصحيحة ، وقد ذكر البيهقي حديثا رواه حذيفة عند الطبراني ولكن هذا الحديث ضعيف كما بيَّن ذلك ابن حجر رحمه الله .
ويأجوج ومأجوج – عباد الله – ذكر الله عز وجل حالهم في كلامه سبحانه وتعالى { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ }الأنبياء96 ( الحدب ) هو المكان الغليظ المرتفع ( ينسلون ) يعني يسرعون بشدة .
وقال عز وجل أيضا عن ذي القرنين ، وسمي بهذا الاسم لأنه بلغ مغرب الشمس ومشرقها حيث يطلع قرنا الشيطان ، وقيل غير ذلك ، الشاهد من ذلك أن ذا القرنين ذكر الله عز وجل حاله حينما بنى السد الذي يحول بين القوم وبين يأجوج ومأجوج ، قال تعالى
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ }
دل هذا على أن السد موجود في جهة المشرق ، أين مكانه ؟ أين تحديده ؟ الله تعالى أعلم ، جاء عند البخاري معلقا ( أن بعض الصحابة رآه فوصفه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قد رأيتَه ) وهذا المكان اجتهد بعض المعاصرين فقال إنه محدد ، وليس هناك دليل في تحديد مكان هذا السد ، وذكر ابن كثير رحمه الله في التفسير ولم يذكر له سندا ، ذكر رحمه الله أن أحد الخلفاء العباسيين أرسل قوما يبحثون عنه ، وهو هارون بن محمد بن هارون الرشيد ، فقطعوا البلاد حتى استمروا أكثر من سنتين يبحثون عنه حتى وجدوه ، ووجدوه سدا منيعا وأن هناك أثقالا وأحمالا وأن هناك ثغورا ، الشاهد من هذا أنهم رأوا أعاجيب كثيرة ، ولكن ليس هناك دليل يحدد مكانه ، لكنه من جهة المشرق .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً{90} كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً{91} ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً{92} حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً{93} قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } يعني جُعْلا من المال { عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً{94} قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } يعني ما أعطاني الله عز وجل من القوة والعلم والتمكين خير – والصحيح أنه رجل صالح وليس بنبي
{ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً{95} آتُونِي زُبَرَ } قِطَع { الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } وهما حافتا رأس الجبلين { قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً{96} يعني نحاسا { فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً{97} قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } في هذه الدنيا ، لكن { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً{98}
وهذا السد فُتح في عصر النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء يسير جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ( دخل على زينب بنت جحش فقال ويل للعرب من شر قد اقترب فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج من هذه – وحلَّق بالإبهام والتي تليها – قالت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث )
وجاء حديث عند ابن ماجة وغيره، وصححه الألباني ( أنهم يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا أن يخرقوه قال الذي عليهم ) يعني زعيمهم ( قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا ، فيعيده الله عز وجل أشد ما كان ، ثم إذا رجعوا حفروا ، حتى إذا قضى الله عز وجل بخروجهم ، قال الذي عليهم ستحفرونه غدا بإذن الله ، فيعودون إليه من الغد فيجدونهم كما هو فيخرجون على الناس ويفر الناس منهم )
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث النواس ( إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى أني قد أخرجت عبادا لا يُدان لأحد بقتالهم فحرِّز عبادي إلى الطور ) يعني إلى الجبل ، وسيأتي معنا إن شاء الله تعالى اسم هذا الجبل في رواية أخرى عند مسلم ( فبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أولهم ببحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، فيأتي آخرهم فيقولون لقد كان بهذا مرة ماء ) يعني كان هنا ماء ، وقد جاء في بعض الروايات ( أنهم يشربون مياه الأرض حتى يتركوا البحر يبسا ليس فيه قطرة من ماء ) ويُحْصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب إلى الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النَغَف ) وهو دود يكون في دواب البهائم من الغنم والإبل ( فيصبحون فرْسى ) يعني موتى ( كموت نفس واحدة ، ثم يُهبط بنبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البُخْت ) هناك جمال جميلة لها أعناق طويلة ، فيرسل الله عز وجل بطيور أحجامها كأعناق هذه الإبل البخت ( فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ) وسيأتي معنا إن شاء الله أنهم يطرحون في البحر .
ورواه مسلم وزاد في رواية ( ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخَمَر ) وهو الشجر الملتف الذي يستترون فيه ) قال النبي صلى الله عليه وسلم ( وهو جبل بيت المقدس ) فيقول يأجوج ومأجوج ( لقد قتلنا من في الأرض فلنقتل من في السماء ، فيرسلون نشابهم ) يعني سهامهم ( إلى السماء فتعود إليهم مخضوبة بالدماء )
وجاء في المسند وصححه أحمد شاكر وأيضا صححه الحاكم ووافقه البيهقي ، والألباني رحمه الله لا يرتضي ذلك فيرى أن فيه ضعفا ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به التقى بموسى وعيسى وهارون فتذاكروا أمر الساعة حتى ذكر الحديث عن عيسى وذكر ما يجري له مع الدجال ، قال عيسى فيجأرون إليّ ) يعني حينما يموت يأجوج ومأجوج ( فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم فيقذف بأجسامهم في البحر )
وجاء عند الترمذي ( والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرا وتسكر سكرا من لحومهم ) يعني أن طعام البهائم يكون من لحوم هؤلاء فتسمن ، والسَكَر هو الخمر ويطلق على الغضب والامتلاء .
وجاء عند مسلم من حديث النواس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ثم يرسل الله عز وجل قطرا ) يعني مطرا ( لا يُكنّ ) يعني لا يمنع ( منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض فتصبح كالزلقة ) يعني كالمرآة الصافية ، فإذا ذهب بأجسام هؤلاء وأُكل جزء منها من البهائم ، يكون كما مر معنا ( يقال للأرض أنبتي ثمرتك ودري بركتك وتأكل العصابة من الرمانة ) إلى آخر ما جاء في الحديث المذكور في الجمعة السالفة .
وجاء في المسند وسنن ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ويشربون ماء الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربونه حتى يتركوه يبسا ، فيرسل الله عليهم نغف كالجراد فيصبحون موتا لا تسمع لهم حِس ، فيقولون المسلمون ألا رجل يشري نفسه لنا فينظر ماذا صنع هؤلاء ؟ فيخرج رجل منهم قد احتسب نفسه وقد وطَّنها على أنه مقتول ، فيهبط فيراهم موتى بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين أبشروا فقد كفاكم الله عدوكم فيخرجون وتسرح مواشيهم فما يكون لهم مرعى إلا لحومهم فتشكر عنه كأحسن ما شكرت من شيء من النبات أحسن منه ) يعني أنها تأكل من أجسامهم كأحسن ما أكلت من نبات الأرض .
هذا ما يتعلق بخروج يأجوج ومأجوج ، وهناك بعض العلامات ،ولعلها تنتهي في الجمعة القادمة والتي بعدها إن شاء الله تعالى .
الخطبة الثانية
الخاتمة :………………..