تأملات في آيات الصيام (11 )
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (3 )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توقفنا عند قول الله :
((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ))
وأوضحنا في الدرس الماضي كيف كان هذا القرآن هدى للبشرية جمعاء وذكرنا من القصص التي دلت على أن هذا القرآن أثر حتى في نفوس الكفار لو كانت لهم آذان تسمع ، ولو كانت لهم أعين تبصر ، ولو كانت لهم قلوب تعي
ثم قال جل وعلا :
((وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ))
يعني :
في هذا القرآن آيات بينات
يعني :
واضحات هي هدى وفرقان
ومعنى الفرقان :
هو الذي يفرق بين الحق والباطل
والمجتمع إن لم يأخذ بكتاب الله حكما وتحكيما سادته أحكام البشر
وإذا سادته أحكام البشر:
أصبح بعضهم ينهش بعضا
لكن الله أنزل هذا القرآن ليتحاكم الناس إليه لأن فيه الهداية وفيه بيان الحق من الباطل .
ولذا :
كان المنافقون يعلمون أن هذا القرآن مشتمل على الحق وأثناء التحاكم لا يتحاكمون إليه
قال تعالى :
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ))
هذه الآية لها سبب نزول
وذلك أن منافقا كان بينه وبين أحد اليهود خصومة:
فقال اليهودي : تعال بنا لنحكم محمدا
لعلمه بأنه عليه الصلاة والسلام لا يأخذ الرشوة
ليست هناك مداهنات ولا تنازلات في أحكام الله جل وعلا
فأبى المنافق وقال : لا لنتحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي
لعلمه أنه يأخذ الرشوة فيحكم له بالباطل
فلما عظم التنازع بينهما اتفقا على أن يأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فلما أخبراه بالخبر قال عمر للمنافق : أهكذا كان ؟
قال : نعم
فقام رضي الله عنه فضرب عنقه
فقال جل وعلا :
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ )) الذي هو كعب بن الأشرف
((وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ )) أن لا يوالوه وأن لا يحبوه
((وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً{60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً{61} فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ))
يعني : ما حالهم ؟
ما شأنهم لو أنزل الله بهم عقوبة وعذابا أين ينصرفون ؟
أين يتولون ؟ أين يذهبون ؟
((ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً{62} ))
ولذا :
النبي عليه الصلاة والسلام أقسم جل وعلا بنفسه للنبي عليه الصلاة والسلام بعد هذه الآيات ان أحدا لا يدخل قلبه الإيمان إلا إذا حكَّم النبي عليه الصلاة والسلام :
((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً{65} ))
وقد كان هذا هو شأنه عليه الصلاة والسلام اتخذ هذا القرآن منهجا وحكما
ولذا لما آتاه أسامة بن زيد :
يشفع في المرأة المخزومية التي سرقت لكي يرفع عنها النبي عليه الصلاة والسلام حد القطع
فقال عليه الصلاة والسلام : أو تشفع في حد من حدود الله ؟! وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد لقطعت يدها
إذاً :
هذا القرآن فيه الحكم الفاصل بين الحق والباطل
ولذا :
قال جل وعلا : (( وأنزل الفرقان ))
ومن يعرض عن هذا القرآن فقد ناجى النبي عليه الصلاة والسلام ربه فيتحسر على ما فعلته أمته حينما تتولى وتعرض عن هذا النور فقال جل وعلا :
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } الفرقان30
يقول ابن القيم :
” إن الهجر لكتاب الله أنواع “
هجر كتاب الله أنواع :
هجر تلاوته
هجر تدبره
هجر الاستشفاء به والتداوي به
هجر تحكيمه
هجر التحاكم إليه
ثم قال رحمه الله :
(( وبعض الأنواع أقل من بعض لكن يصدق على هذه الأوصاف أنها هجر لكتاب الله جل وعلا ))
ثم قال عز وجل :
((فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ))
هذه الآية أو هذا الجزء من هذه الآية نسخ لما تقدم في أول آيات الصيام :
ماذا كان حكم الصيام في أول الإسلام ؟
كان للقادر أن يدع الصوم وأن يطعم بديلا عن إفطاره فجاء النسخ بهذه الآية :
((فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ))
وهذا إن دل يدل على رحمة الله وتخفيفه على خلقه لما شرع الصيام شرعه بالتدرج من باب التخفيف
كما هو الشأن في الخمر :
الخمر كان متداولا في مجالس القوم في أيام الجاهلية ويقدمونه ويفتخرون به فلما جاء التحريم جاء متدرجا
لما جاء النهي جاء متدرجا :
أول آية تشير إلى ذم الخمر قوله تعالى :
((وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ))
الخمر يؤخذ من ثمرات النخيل والأعناب من التمر والعنب الزبيب
فلما وصف السكر تركه هكذا مطلقا بينما الرزق قال :
(( وَرِزْقاً حَسَناً ))
قال :
((وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ))
يعني :
هذه الثمار يتخذ منها للسكر ويتخذ منها للرزق ولكن هذا الرزق هو حسن
ثم جاءت آية وهي قوله تعالى :
((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ))
فيهما منافع يتلذذ ويطرب شاربه بها
من منافعها :
أنه يستفيد الأموال لكنها أموال محرمة
فلما قال جل وعلا :
((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ “))”
وصفه بأنه كبير:
((إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ))
ففهم بعض الصحابة أن هذا ذم للخمر فتركها بعضهم
بل إن العقلاء من كفار الجاهلية تركوها لأنهم يعلمون أن هذه الخمر تجعل الإنسان في مقام المجنون
ثم جاء التشديد فيها فنهاهم جل وعلا أن يشربوا الخمر قبل الصلاة
وكم صلاة ؟
خمس صلوات
فهنا فيه تحريم لشربهم للخمر :
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ))
ثم جاء التحريم القطعي النهائي :
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ{91} ))
فقال الصحابة رضي الله عنهم :
” انتهينا يا ربنا انتهينا يا ربنا “
حتى إن الكأس كان في راحة بعضهم فرمى به، بل إن البعض وصل الكأس إلى شفتيه ثم ألقى به استجابة إلى أمر الله عز وجل
فهذا من لطف الله بخلقه بل بهذه الأمة
ولذا الأمم السابقة يأتيهم الأمر بالتحتيم افعل
ولذا:
لما أتى الله عز وجل اليهود التوراة أبوا ان يعملوا بما فيها
فماذا قال تعالى ؟
{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } الأعراف171
يعني :
اعملوا بما فيها فهدد الله هؤلاء اليهود إن لم يعملوا بهذه التوراة أن يسقط عليهم هذا الجبل
((وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ))
فانظروا إلى هذا التدرج في الصيام
ثم جاء النهي بالإفطار وتحتيم الصيام قال :
((فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ))
الأصل :
من شهد منكم الهلال لأن الذي يشاهد الهلال وليس الشهر لكن لماذا عبر بالشهر لماذا قال :
((فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ ))
لمَ لم يقل : فمن شهد منكم الهلال ؟
إنما قالها جل وعلا – والله أعلم – لإعادة كلمة الشهر مرة أخرى لتعظيمه وتفخيمه وبيان فضله كما في سور أخرى : ((الْحَاقَّةُ{1} مَا الْحَاقَّةُ{2} )) كررها لم ؟
لتعظيم هذه الحاقة
(( الْقَارِعَةُ{1} مَا الْقَارِعَةُ{2} ))
فقال جل وعلا :
((فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ))
والشهر يثبت دخوله بواحد من أمرين
أحدهما مقدم على الآخر :
أولا :
برؤية الهلال :
فإذا رئي الهلال فيجب على المسلمين أن يصوموا ولا يجوز أن يعتمد على الحساب وقد نص شيخ الإسلام أن العلماء قد أنكروا وعظموا النكير على من اعتمد على الحساب في الأحكام الشرعية
فقال عليه الصلاة والسلام :
(( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ))
إن لم يتبين:
حصل غيم : سحاب قتر غبار فهنا نكمل شعبان ثلاثين يوما
فقال عليه الصلاة والسلام :
(( فإن غمّ عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما ))
وفي رواية :
(( فأكملوا العدة ثلاثين يوما))
وقد:
قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين :
(( إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وأشار عليه الصلاة والسلام بأصابعه أن الشهر الهجري لا يكون إلا تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما ))
أما بالنسبة إلى التاريخ الميلادي:
فإنه يزيد وينقص ولا يجوز للمسلمين أن يقدموا هذا التاريخ الميلادي على التاريخ الهجري
لأن التاريخ الهجري من شعائر المسلمين
أما التاريخ الميلادي فمن شعائر الكافرين
لا بأس أن يستخدم لكن إذا ذكر يذكر بعد التاريخ الهجري فهذا من إعلان وإشهار شعيرة من شعائر المسلمين التي اتفق عليها المسلمون في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فقال :
((فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ))
مرت بنا هذه الآية
أين ؟
في مطلع آيات الصيام
لماذا أعيدت ؟
ألم نقل لكم أن الصيام في أول الإسلام كان على التخيير
ثم ماذا جاء ؟
جاء النسخ والأمر بالصيام فكررت وذكرت حتى لا يتوهم متوهم ان الآية منسوخة أيضا
فيه آية في أول آيات الصيام :
((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ))
فهنا أعيدت مرة أخرى :
حتى لا يتوهم ولا يظن ظان بأن هذه الآية نسخت بل بقيت وبقي حكمها
فمن هنا بعد تحتيم ووجوب الصيام لو أن الإنسان كان على سفر أو ألمَّ به مرض له أن يفطر وعليه عدة من أيام أخر
فقال تعالى :
((وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ))
شرع لنا هذا التخفيف ورفع عنا وجوب الصيام في حالة السفر والمرض لأنه يريد بنا جل وعلا اليسر ولا يريد بنا العسر
ولي حول هذا الجزء من الآية تعليق قد يطول فنرجئه إلى الدرس القادم حتى لا نطيل عليكم