خطبة تقريب سهل وممتع لـرسالة
( كشف الكربة في وصف أهل الغربة ) للحافظ ابن رجب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“كشف الكربة في وصف أهل الغربة”
هذه رسالة من ضمن رسائل ابن رجب الحنبلي، وهو أحد طلاب ابن القيم رحمه الله، لازمه سنة، أو تزيد قليلا، فنفعه الله بعلم ابن القيم رحمه الله.
هذه الرسالة نحتاجها في هذا الزمن، وفي آخر الزمن، أقرب كلامه بأسلوبي، قال ابن رجب رحمه الله لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس إلى الإسلام لم يدخل من القبيلة إلا الواحد بعد الواحد، كانوا مضطهدين يعذبون يهربون بدينهم حتى هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم بعد ذلك هاجروا إلى المدينة، فلما هاجروا إلى المدينة قوي الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فأصبح للأمة قوة، ولم يزل الأمر على ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت الأمة متناصرين لكن قال رحمه الله: ” أدخل الشيطان مكايده على الأمة بفتنتين: بفتنة الشبهة، وبفتنة الشهوة، فمنهم من وقع في فتنة الشبهة، ومنهم من وقع في فتنة الشهوة، ومنهم من وقع في الشبهتين كلتيهما، وهاتان الشبهتان كما قال رحمه الله حذر النبي صلى الله عليه وسلم منهما، ففتنة الشبهة قال صلى الله عليه وسلم في أحاديث: ” من أن هذه الأمة تفترق على أزيد من سبعين فرقة” على حسب اختلاف الروايات، تلك الفرق كلها في النار إلا الفرقة الناجية، وهي التي كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
أما فتنة الشهوة فحذر منها صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم: ” كيف بكم إذا فتحت عليكم فارس والروم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: نكون كما أمرنا الله، قال أو غير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون” وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين في فتنة الشهوة قال صلى الله عليه وسلم: ” والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم”
بل إنه صلى الله عليه وسلم جمع في التحذير للأمة من هاتين الفتنتين فتنة الشبهة، وفتنة الشهوة، ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قال: ” إني لأخشى عليكم من شهوات الغي من شهوات الغي شهوة البطون والفروج”
هذه فتنة الشهوة ” ومضلات الفتن” وفي رواية ” ومضلات الهوى” هذه فتنة الشبهة.
قال ابن رجب رحمه الله قال: “أما فتنة الشهوة، فقد عظمت بالأمة، فأصبح هم الكثير الدنيا هي مقصدهم لها يرضون، ومن أجلها يسخطون، ولها يوالون، وعليها يوعدون، حتى قطعت الأرحام، وسفكت الدماء، وطلبت الدنيا بمعاصي الله عز وجل.”
قال: ” أما فتنة الشبهة، فإنها فرقت أهل القبلة، كانوا متناصرين، قال: فإنها فرقت أهل القبلة، فجعلتهم أحزابا وفرقا يبدع بعضها بعضا، ويكفر بعضها بعضا بعد أن كانوا متألفين، ولم ينج من هذه التبديعات والتكفيرات، كما قال رحمه الله: لم ينج من ذلك إلا أهل السنة، وهي الفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم قال وهم قلة وهم من؟ الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحاح: ” لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله”
قال: وهم الغرباء كما جاء في صحيح مسلم: ” طوبى للغرباء”، قال: ” بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء” ولذلك هم قلة، ولذا قال الحسن البصري كما نقل عنه قال: ” يا أهل السنة رفقا بإخوانكم فإنكم من أقل الناس”، وقال الثوري: ” استوصوا بأهل السنة خيرا، فإنهم غرباء”
وأهل السنة المقصود منهم: من سلم من فتنة الشبهة، ومن فتنة الشهوة، ولذلك: كان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: ” من عرف ما يدخل في بطنه من حلال فهو من أهل السنة”
قال ابن رجب رحمه الله قال: ” لأن من خصال النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أنهم كانوا يحرصون على ألا يدخلوا في بطونهم إلا الحلال”
إذن السنة من سلم من فتنة الشبهة ومن فتنة الشهوة، لكن قال رحمه الله: لما عظمت فتنة الشبهة، وكثرت الفرق والاختلاف في الاعتقادات ألف علماء السنة في مسائل الاعتقاد التي خالفت فيها الفرق في مسائل الإيمان في مسائل القدر في مسائل فضائل الصحابة، قال: لماذا ألفوا في هذا الباب فقط؟ قال: ” لأنهم يعلمون خطر هذا الأمر، وأن المخالف فيه على شفا هلكة” لكن يقول: السنة الكاملة من سلم من فتنة الشبهة، ومن سلم من فتنة الشهوة. من سلم من تلك الفتنتين، قال: ” وأهل السنة قليل في آخر الزمن؛ لأنهم غرباء، ولذلك في مسند الإمام أحمد قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه: ” طوبى للغرباء، قيل: من يا رسول الله؟ قال: قوم صالحون قليلون في قوم كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم”
قال ابن رجب رحمه الله قال: وأهل السنة هؤلاء الغرباء هم صنفان: صنف أصلح نفسه، والصنف الثاني هو الذي سعى لأن يصلح غيره، فيقول: هذا الصنف الثاني الذي سعى لإصلاح غيره، قال: هو أعلى الفئتين وأفضلهما، قال: “من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم”، قال: فدل هذا على أنهم قلة، ومع قلتهم فالمخالفون لهم كثر، والمتابعون لهم قلة، وذلك لأنهم لا يجدون على الخير أعوانا وأنصارا، وقد وردت بعض الأحاديث، وإن كان فيها ضعف لكنها تدل على هذا المعنى، منها ما عند البطبراني لكنه ضعيف فيه ضعف قال: ” يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه من القبيلة أذل من النقد” يعني أذل من صغار الغنم.
ولذلك: كما نقل ابن رجب عن أحد العلماء لما أدرك غربة في زمنه فيما مضى كما ذكر أبو نعيم قال: إني وجدت غربة الإسلام، قال: وأهل العلم مشغفون بحب الدنيا، وبحب تعظيم أنفسهم بالمال وبالرئاسة، ورأيت عبادا قد خدعهم الشيطان، فاغتروا بعبادتهم مع قلتها، فخدعهم الشيطان، وهم لم يدركوا أعلى هذه العبادة، قال: ” والبقية همج رعاع”
قال ابن رجب رحمه الله: هذا في زمنه فكيف لو رأى الأزمان التي أتت بعده، ولذلك الحسن البصري كما نقل عنه من أن ابن المبارك قال عن الحسن البصري لما ذكر من يأخذ المال الحرام ويقول لا حساب علي هذا من؟ صاحب فتنة الشهوة.
وذكر أيضا من قرأ القرآن، ورفع سيفه على أهل الملة يقصد بذلك الخوارج أصحاب فتنة الشبهة، فقال: هذه سنتكم، فوالله الذي لا إله غيره هي بين الجافي والغالي، وبين المترف والجاهل، قال: فأهل السنة لم يكونوا مع أهل الترف في ترفهم أصحاب فتنة الشهوة، ولم يكونوا مع أهل البدع في أهوائهم يعني أصحاب فتنة الشبهة، فقال رحمه الله قال: فتمسكوا بالسنة حتى لقوا ربهم، قال: فكونوا أنتم كما هم إن شاء الله.
ولذلك: ذكر ابن رجب رحمه الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال ذكره أبو نعيم علي بن أبي طالب صنف الناس إلى ثلاثة أصناف قال: صنف عالم رباني تعلم العلم الشرعي، وعمل به ودعا إليه وتحمل الأذى بشتى أنواع الأذى في سبيل تبليغه، هذا عالم رباني.
قال: ومتعلم على سبيل نجاة، أناس ليس عندهم من العلم الشيء الكثير لكنهم يتعلمون من هؤلاء العلماء الربانيين، فهم على سبيل وطريق نجاة إن استمروا على ذلك.
قال: وصنف همج أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستنيروا بنور العلم، يقول: هؤلاء الطائفة الثالثة، قال: هم أصحاب كل ناعق، كل من ينعق ويتكلم، وهذا يطبق في واقعنا في وسائل التواصل، وفي غيرها، في القنوات الفضائية، كل ما نعق ناعق يميلون معه. قال: يميلون مع كل صائح، ولم يستنيروا بنور العلم، بمعنى أنهم بمجرد أي شبهة تقذف عليهم إذا بهم يستجيبون لها، وإذا بهم بعد ذلك يدخلون في هذه الأهواء، وفي هذه البدع، لم؟ لأنهم يتبعون كل ناعق، ويميلون مع كل صائح، فلم يستنيروا بنور العلم، قال رحمه الله قال: ومن هذا القبيل تصنيف الحسن البصري لقراء القرآن، أولئك من يطلب العلم، تصنيف قراء القرآن، قال الحسن البصري رحمه الله قال: هم ثلاثة أصناف: صنف يقرأون القرآن يأكلون به يبحثون طريق القرآن للتكسب لتكسب الدنيا، جعلوا القرآن بضاعة لهم يأكلون الدنيا به، أصحاب من هؤلاء؟ أصحاب فتنة الشهوة.
قال: وقوم قرأوا القرآن فأقاموا حروفه، وضيعوا حدوده، قلت: لعله يقصد الخوارج، وضيعوا حدوده قاموا على أهل بلدهم؛ ليقصدوا الولاية فتنة الشبهة، قال: وهؤلاء كثر لا كثرهم الله.
قال: وقوم جعلوا دواء القرآن يعني علاج القرآن على داء يعني على مرض قلوبهم، فقرأوه في المحارب، قال: فهؤلاء في ضمن القراء أقل من الكبريت الأحمر بين قراء القرآن.
إذاً: ما السلامة حتى يسلم المسلم، ويكون من أهل السنة ولو كانوا قلة؟
قلت: كن غريبا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري لابن عمر رضي الله عنهما لما وضع يده على منكبه، وقال: ” كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل” فليست هذه الدنيا باقية حتى تسلم بإذن الله عز وجل؛ لأن من وضع نصب عينيه إقبال الآخرة وإدبار الدنيا سلم بإذن الله إذا تعلم العلم الشرعي الصحيح سلم من فتني الشبهة والشهوة.
قال ابن رجب رحمه الله قال: ” والحقيقة أن المؤمن غريب في هذه الدنيا” كيف؟ قال: لأن أباه آدم لما أخرج من الجنة، وأهبط إلى الأرض كان همه أن يعود إلى وطنه الأول، كما قيل حب الوطن من الإيمان، وليعلم أن هذا ليس بحديث، ولي كلام في اليوتيوب في خطبة سابقة تكلمت عن الوطنية وعن الوطن بين الجافي عنها، والغالي فيها بأدلة شرعية واضحة قلّ والعلم عند الله أن تجد مثل هذا الكلام في موطن آخر عن هذه الوطنية التي هي بين الغالي فيها والجافي عنها.
قال رحمه الله: والحقيقة أن المؤمن غريب في هذه الدنيا؛ لأن أباه آدم لما أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض كان همه أن يعود إلى وطنه الأول إلى الجنة كما قيل حب الوطن من الإيمان، وكما قيل:
كم منزل يألفه الفتى … وحنينه أبدا لأول منزل
وهذا الشعر أتى به رحمه الله، وإن كانت هناك مفارقة لكن دل هذا على أن المؤمن يكون غريبا، وهو غريب في هذه الدنيا، وإضافة إلى ذلك عليك أن تزكي نفسك، كيف تزكي نفسك؟
أجاب صلى الله عليه وسلم كما عند البيهقي وعند الطبراني في المعجم الصغير كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر وقال وزكى نفسه قال يا رسول الله وكيف يزكي الإنسان نفسه؟ قال: تزكية النفوس أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان.
هذه درجة الإحسان التي عرفها النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وفي غيرها قال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لك تكن تراه فإنه يراك”
قال: ” تزكية النفوس أن يعلم أن الله معه حيث كان” يعني الله جل وعلا في العلو، لكنه معنا بإحاطته وبعلمه وليس معنى ذلك أنه مختلط بالناس تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما هو جل وعلا في العلو، واستوى على العرش، في العلو، وهو معنا المعية العامة بعلمه وبإحاطته يعلم كل شيء لا يخفى عليه شيء من أعمال القلب.
إذاً: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
وليعلم: أن قوله: ” كن في الدنيا ولم تكن وفي الآخرة ولم تزل”
هذا يورد عند البعض على أنه حديث، لكنه كما قال السيوطي لا أراه مرفوعا، وإنما هو من قول عمر بن عبد العزيز عند أبي نعيم، فدل هذا على أن المسلم مأمور بأن يجتنب فتنتي الشبهة والشهوة.
وهذه رسالة لابن رجب رحمه الله، وهذا الرجل كما سلف من العلماء، وهذا يدل على أن من درس في مدرسة ابن تيمية ومن سار على طريقته حتى هذا في العصر بإذن الله يكون على خير، فابن رجب لم يلازم ابن القيم إلا في آخر حياته سنة أو تزيد من ذلك، فنفعه الله عز وجل بعلم ابن القيم، ولهذا الرجل شروحات غريبة وعجيبة، سبحان الله! ابن القيم كان صوفيا، لكن في آخر حياته لازم ابن تيمية ستة عشر عاما، فسبحان الله! يقول ابن حجر: لو لم يكن لابن تيمية حسنة إلا ابن القيم لكفت هذه الحسنة.
وانظروا إلى الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب أنقذ الله هذه الجزيرة بجهود هذا الرجل، فانتفع أهل هذه الجزيرة، وانتفع من انتفع ممن في أقطار الدنيا وهكذا من سار على طريقة هؤلاء؛ لأن طريقتهم لا من أجل أنها طريقة ابن تيمية، لكنه كان حريصا على تتبع الدليل، ومن تتبع الدليل فقد نجا، ومن اتبع السنة فقد نجا، الإمام مالك رحمه الله ماذا كان يقول؟ يقول: “السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن لم يركبها فقد هلك”