خطبة
تقريب نافع ومفيد وميسر عن ( أنواع الغربة ودرجاتها ) لابن القيم رحمه الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن القيم رحمه الله كما في مدارج السالكين يبين لنا أنواع الغربة ودرجاتها، وقد أوضح تلميذه ابن رجب كما بينا ما يتعلق بحال أهل الغربة، وقبل ذلك ذكر شيخه ابن تيمية قواعد تتعلق بحديث: ” طوبى للغرباء”
ابن القيم رحمه الله كما في مدارج السالكين يقول: ” إن شيخ الإسلام ـ يعني شيخه ابن تيمية رحمه الله ـ استدل في حال أهل الغربة، واستدل على أهلها بقوله تعالى {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} قال ابن القيم رحمه الله : وهذا يدل على رسوخه في العلم، وفي الفقه، وفي فهم كتاب الله، فإن المذكورين هنا في الآية هم حال أهل الغربة في العالم، وهم الذين قال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : ” بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء”، قال رحمه الله: وقد ذكر الإمام أحمد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أنه لما سئل عليه الصلاة والسلام قال عن هؤلاء الغرباء: ” الذين يزيدون إذا نقص الناس”، قال ابن القيم رحمه الله قال: ” إن كان هذا الحديث محفوظا، ولم ينقلب على الراوي فإن معنى هذا الحديث أنهم يزيدون من الخير إذا قل الناس منه”
قلت: لم أر هذا في مسند الإمام أحمد، لعله في بعض النسخ، لكنه في أحاديث إسماعيل بن جعفر، وأيضا هو من رواية المطلب بن حنطب قال أبو حاتم وعامة أحاديثه مرسلة، فدل هذا على أن هذا ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله قال: ” وإنما كانوا غرباء لقلتهم في الناس” قال: فأهل الإسلام غرباء بين الناس، والمؤمنون غرباء في أهل الإسلام، وأهل العلم غرباء عند أهل الإيمان، والعارفون بالبدع والأهواء، ويميزون بينها وبين الحق هم غرباء قال: والداعون إلى السنة، وقمع البدعة، والصبر على ما يلاقونه من أهل البدع قالوا: هؤلاء أشد أشد وأعظم هؤلاء غربة، قال رحمه الله: ” ولكن لا وحشة عليهم” لا وحشة عليهم، فإنهم غرباء بالنسبة إلى ما قاله جل وعلا {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
قال ابن القيم رحمه الله: وأنواع الغربة ثلاثة، قال رحمه الله: ” غربة أهل الحق، غربة أهل الحق وهم المذكورون في حديث النبي عليه الصلاة والسلام : ” طوبى للغرباء”، قال: وهذه الغربة تحصل لهؤلاء في مكان دون مكان، وفي وقت دون وقت، وعند قوم دون قوم آخرين، قال رحمه الله قال: فهؤلاء لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلا بما جاء عن الله، فهؤلاء تركوا الدنيا ومتعها أحوج ما كانوا يحتاجون إليها، فإنهم مع قلتهم إذا استوحش فهم آنس ما يكون من الأنس.
قال رحمه الله: ومن هؤلاء الغرباء من قال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم: ” رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره”، رب أشعث، أشعث الرأس ما عنده مال حتى يصلح شعره، مدفوع بالأبواب لو أراد حاجة عند من هو رفيع ليشفع لغيره أو لحاله دفع بالأبواب ما يعرف، هذه منزلته عند الناس، لكن كما قال عليه الصلاة والسلام عند الله ” لو أقسم على الله لأبره” لو قال أقسم يا الله أن يتحقق هذا الأمر، أو يتحقق لي هذا الشيء لأبر الله قسمه؛ لأنه ما أقسم على الله إلا حسن ظن بالله، وتأميل الخير من الله، قال ابن القيم ومن صفات هذا النوع، قال رحمه الله: تمسكوا بالسنة عند انصراف كثير من الناس عنها، وجردوا التوحيد مع عزوف كثير من الناس عن ذلك، وإن كانت البدع أظهر وأوضح من ذلك؛ لكنهم جردوا التوحيد، ولم ينتسبوا لم ينتسبوا لا إلى شيخ، ولا إلى طريقة، ولا إلى مذهب، وإنما أرادوا أن يرفعوا، وأن يظهروا دين الله.
قال ابن القيم رحمه الله قال: ” فالإسلام بدأ غريبا، فكان يدخل في الإسلام من القبيلة الواحد تلو الآخر، حتى انتشر الدين، ثم بعد ذلك بدأ يقل، قال: وغربة أهل الدين المتمسكين بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وما كان عيه أصحابه قال: غربتهم في آخر الزمن أعظم من غربة الإسلام في أول الإسلام، قال: مع أن معالم الإسلام بارزة وظاهرة، لكن يقول: غربتهم أعظم وأشد، كيف؟ قال رحمه الله: وكيف لا تكون غربتهم أشد، وهم فرقة الفرقة الناجية التي كان عليها النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، قال: وكيف لا تكون غربتهم أشد في سوق فيها ثنتان وسبعون فرقة لها أموال ولها ولايات، ولها شهرة، ولها معرفة، ولها سلطة، وهؤلاء أصحاب الفرق المنحرفة قال: لا يقوم سوقهم إلا على بدعهم، ولا يقوم إلا على انحرافهم، فإنهم قدموا أهواءهم، وشح نفوسهم على مراد الله.
قال ابن القيم رحمه الله: وهؤلاء الغرباء في هذا الزمن هم من قال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام في الزمن الذي يأتي والمؤمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، والذي له خمسون أجرا من الصحابة رضي الله عنهم فيما عملوه، العامل فيهم له أجر خمسين صحابيا من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال ابن القيم رحمه الله قال: ” ومن رزقه الله عز وجل هداية في العلم، وفهما في شرع الله، وفهما في كتاب الله، ولديه معرفة بين البدعة وبين السنة، وبين الحق وبين الباطل، فإنه عليه أن يوطن نفسه على ما يقوله هؤلاء فيهم من جهالهم من القدح والتعيير أو التنفير أو التحذير منه، لم؟ لأن الدين يأتي ليس على رغبات الناس، قال: فإنما يأتي ما يأتي به؛ لأنه يعارض أهواءهم، ويعارض رغباتهم في هذه الدنيا.
النوع الثاني من أنواع الغربة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال رحمه الله: ” غربة أهل الباطل” أهل الباطل لهم غربة، وهذه غربة مذمومة قال رحمه الله: ولو كثر أتباعهم، ولو كثر من يعرفهم، قال: فهم في وحشة، ولو كثر من يؤانسهم، فهم في وحشة في نفوسهم، وإن كثر من كثر عندهم، قال: لأنهم يعرفون عند أهل الأرض، ولكنهم لا يعرفون عند أهل السماء.
قال وأما الدرجة الثالثة من أنواع الغربة، قال رحمه الله: “غربة لا تحمد ولا تذم” وهي غربة الإنسان عن وطنه، ثم قال: بل كل عبد غريب كما قال عليه الصلاة والسلام عند البخاري: ” كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل” قال فالعبد مسافر، لا ينحط عن رحله في هذه الدنيا إلا وهو بين أهل القبور، فهو مسافر على جناح سفر، وهو مسافر على صورة قاعد.
قال ابن القيم رحمه الله: وأما درجات الغربة فهنا ثلاث، درجات الغربة ثلاث، الدرجة الأولى: قال: ” غربة من بعد عن بلده، وهي السابقة، من ابتعد عن بلده، اغترب عن البلد، قال: هذه الغربة من مات فيها، فله أجر، ما هو هذا الأجر؟ إذا دفن في تلك المنطقة التي بعدت عن موطن ولادته، فإنه يقاس له في قبره من مدفنه الذي في تلك البلدة إلى موطنه في قبره، لما جاء في السنن بإسناد لا بأس به مات رجل في المدينة فقال عليه الصلاة والسلام: ” لو مات في غيرها لكان أفضل قالوا لم يا رسول الله؟ قال: ” إن العبد إذا مات في غير مولده قيس له في قبره من مولده إلى منقطع أثره في الجنة”
الدرجة الثانية من درجات الغربة: قال: غربة الوصف، غربة الوصف
من؟ قال: شخص صالح بين قوم فاسدين أو عالم بين جاهلين، أو صديق صادق مع منافقين مع كذابين، قال: فهذه غربة، فإنه غريب بين هؤلاء الجهال، وبين هؤلاء الفاسدين، وبين هؤلاء الكذابين المنافقين.
قال: وأما الدرجة الثالثة فهي غربة الهمة
قال: وهذه هي أعلى وأعظم، وإن كانت الثانية لها مدخل في هذا، قال لكن هذه أعظم غربة الهمة، همة من؟ همة طالب العلم، والعالم الذي همه أن يحقق في العلم الشرعي حتى يصل إلى صواب العلم الذي يريده الله، والذي يريده عليه الصلاة والسلام، فإنما همه هذا الأمر قال ابن القيم رحمه الله: فهذا غريب عند العلماء لقلة هؤلاء، لندرة هؤلاء، قال: فهو قليل بالنسبة إلى هؤلاء العلماء؛ لأن بعض هؤلاء إنما يستمعون إلى ما قاله ذلك الشيخ، وما فعله ذلك الشيخ، وما أدلى به ذلك الشيخ، بل قال رحمه الله: ” يقدمون أقواله على النصوص الشرعية”
إذاً هذا ملخص وتقريب لما ذكره ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين عن أنواع الغربة، وعن درجاتها.
أسأل الله أن يتوفاني وإياكم على التوحيد والسنة.