بسم الله الرحمن الرحيم
الخُطبة الرابعة عن أحكام الصلاة بعنوان:
(ثلاثة أحكام فقهية مختصرة بأدلتها الشرعية عن الصلاة)
[مِن محتوى هذه الخُطبة: المواضع التي لا تصح فيها الصلاة.
ومن شروط صحة الصلاة: استقبال القبلة]
لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري- 21/4/1440هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحدثنا في الجمعة الماضية عن أحكام مختصرة فقهية بأدلتها الشرعية عن الصلاة،
وفي هذا اليوم نذكر شيئاً من ذلك:
أولاً / الصلاةُ تصح في كل موطن لقول النبي ﷺ في الصحيحين:
” جُعِلت لي الأرضُ مسجدًا وطهورا “
إلا ما استثناه الشرع، ومما استثناه الشرع:
المقبرة: فالمقبرةُ لا تصح فيها الصلاة سواءٌ كان المدفونُ فيها شخصاً واحداً؛ أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر، فإن المقبرة لا تصح فيها الصلاة، لقول النبي ﷺ كما ثبت عنه في المسند وسنن الترمذي:
” الأرضُ كلُّها مسجِدٌ إلَّا المقبرةَ والحمَّامَ “
[وهذا الحديثُ ثابتٌ صحيحٌ بطرقٍ متعددة؛ ولا يضر إرسال الثوري له؛ فقد وَصَلَه خمسة؛ معظمُهُم من الثقات كحمّاد بن سَلَمة، ومِن ثَم: فإن هذا الحديثَ مَن تتبع طُرُقَه وَجَدَ أنه حديثٌ صحيح؛ ولا يضر عنعنة ابن اسحاق في المسند؛ فقد تُوبِع.
الشاهد مِن هذا: أن هذا الحديثَ ثابتٌ صحيحٌ مِن طرقٍ متعددة، وأما قول الترمذي (فيه اضطراب) فمقصودُه الإرسال والوصل، وقد بيَّنا أن الوصلَ أرجحُ مِن الإرسال بهذه الطرق].
العلة من النهي عن الصلاة في المقبرة:
النهي عن الصلاة في المقبرة لا يُظَن أنه مِن أجل النجاسة، لا! وإنما لأن الصلاةَ بها وسيلةٌ مِن وسائل الشرك؛ إلا ما استثناه الشرع وهو: [الصلاةُ على الجنازة] بعدما تُدفَن، كما ثبت بذلك الحديثُ عن النبي ﷺ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما يستثنى: الحمّام
لهذا الحديث، لكن ليس معنى الحمّام هو الحمام المعروف لدينا.
كانوا في السابق هناك حمّامات يدخلونها ساخنة، كلما دخلوا وتوغَّلُوا فيها كانت أكثرَ سخونة؛ فإن الشرع نهى عن الصلاة فيها لأن بها كشْفًا للعورات، فإذا كانت هذه الحمّامات في ذلكم العصر قد نُهيَ عن الصلاة فيها، فمن بابِ أولى الأماكن المُعَدّة الآن لقضاء الحاجة؛ فهي من باب أولى، ولذلك ثبت في السنن قولُ النبي: ﷺ ” إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ “، يعني: تحضُرُ فيها الشياطين.
وهي الأماكن التي عندنا الآن نسميها بـ (الحمّامات) التي يقضي الإنسانُ فيها حاجتَه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما يستثنى أيضاً: مبارك ومعاطِنِ الإبل
المَبارِك وهي: الأماكن التي تأوي إليها الإبل.
والمعاطن هي: التي تذهبُ إليها بعدما تشرب.
ولذلك نهى النبيُّ ﷺ كما عند مسلم وعند غيره: عن الصلاة في مَبارِك الإبل، وأذِنَ بالصلاة في مَبارِك الغنم، ولذا جاء في السنن:
أن هذه الإبل خُلِقَت مِن الشياطين، ولكن لا يُظَن أنها خُلِقَت مِن مادة الشيطَنَة! لا، إنما كما قال عزوجل عنا نحن البشر: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: ٣٧] فهل نحن خلقنا مِن عَجَل؟! لا، لكن لما كانت صفة العَجَلَة فينا أظهر؛ قال تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ}،
كذلك الإبل لما كانت الشيطنة والنفور والشدة فيها، قال ﷺ خُلِقَت مِن الشياطين.
-وقد مر معنا: [كل ما يُؤكَل لحمُه فبولُه ومنيّه وقيؤه وروثُه طاهر]
وذلك لأن النبي ﷺ كما في الصحيحين: أذِنَ لمَن أصابه المرض في جوفه أن يشرب من أبوال وألبان الإبل، فدل على طهارتها.
أما مبارِك الغنم: فلا إشكال في الصلاة فيها.
لو سأل سائل: هل يُصلَّى في مبارك البقر؟
(هي لا توجد عندنا بكثرة لكن في البلدان الأخرى)
ج/ الأصل أنه يُصلّى في مبارك البقر، بناءً على عدمِ الدليل؛ وما ورد مِن حديثٍ مِن النهي عن الصلاة في مبارك البقر فهو حديثٌ ضعيف لا يصح عنه ﷺ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه الأشياء، أيصح أن تكون في قبلة الإنسان؟
الشرح/ لو صلى الإنسان مثلاً وأمامَه مَبارِك إبل في قِبلته، أو الحمّام، أفتصح الصلاة؟
ج/ نعم؛ لعموم قول النبي ﷺ في الصحيحين: ” جُعِلت لي الأرضُ مسجدًا وطهورا “
إلا المقبرة: لا يصح أن تستقبلَ المقبرة في صلاتك؛ لورود النهي في صحيح مسلم:
قال ﷺ: ” لاَ تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ”، وهذا يُؤكد ما ذَكَرناه مِن عِلّة:
أن الصلاةَ في المقبرة؛ أو الصلاة إلى المقبرة؛ وسيلة من وسائل الشرك.
لكن لو قال قائل: لو كان بيني وبين جدارِ المقبرة جدار أو مسافة بعيدة؛ بحيث لا يصدُق أنني مُستَقبِلٌ لها؟
ج/ فتصح الصلاة، لكن استقبال القبلة دون جدارٍ آخَر غير جِدار المقبرة؛ أو غير مسافة بعيدة فإن الصلاةَ لا تصح، وقد نهى النبيُّ ﷺ عن ذلك.
أما ماعدا ذلك: فلا إشكال، مثلا: لو أنه لو كان أمامك حمّام؟ الصحيح أنه تصح الصلاة.
ولذلك بعض الناس الآن يقولون: أنه لو كان أمامك مثلاً حمّام بأنك لا تصلي!
نقول: لا دليل على ذلك، بل الصحيح أنه تصحُّ الصلاة، خلاف ما يتوهمون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من شروط صحة الصلاة: استقبال القبلة
اللهُ عزوجل أمَرَنا أن نستقبلَ القبلة في الصلاة، قال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
لكن ليتنبه: أنك إذا كنت في الحرم: فيجب أن تُصيبَ عين الكعبة، ما تنحرف عنها ولو شيئاً يسيراً؛ فإن انحرفتَ عنها: فصلاتُك باطلة، فليتنبه لذلك.
لكن مَن كان بعيدًا عن الكعبة: فإن الواجبَ عليه فقط أن يُصيبَ جِهةَ الكعبة، بخلاف مَن كان قريباً منها، فمن قريبا منها لا بد أن تكونَ صلاتُه متجهة مباشِرَة دون انحراف إلى الكعبة.
لكن من كان بعيدًا، فنحن مثلاً في الرياض: قبلتُنا جهة الغرب، الجهة فقط، ولذلك لو أن الإنسان انحرف عن جهةِ الغرب -هذا كتمثيل على الرياض بحيث يكون مثالاً في جميع المناطق على حسب جهة القبلة لديها – لو انحرف يسيراً عن الغرب: فصلاتُه صحيحة، لما ثبت في السنن قول النبي ﷺ: ” ما بين الْمَشْرِق وَالْمَغْربِ قِبْلَةٌ “، هذا فيما يتعلق بالجهة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاستقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، لكن ليُعلَم أنه قد يسقط ذلك في حالات:
1/ فيما لو كان الإنسانُ مريضاً والسرير على غيرِ جهة القبلة:
لا يقُلْ سأؤخر الصلاة حتى أتوجه إليها!
إنما نقول: صلِّ على حسبِ حالك، ولا تُخرِج الصلاة عن وقتها.
2/ أيضاً ممن يُعفى عن استقبال القبلة: الخائف:
حضرت الصلاة على المسلم وهناك مَن يُطارِدُه، وهو خائف مثلاً مِن سَبُع؛ خائف مِن سيل؛ خائف مِن إنسان؛ وحضرت الصلاة؛ فليصلِّ وهو ماشٍ أو وهو مُسرِع على حسبِ حاله، ولو لم يكن مستقبلاً للقبلة، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، على أي حالةٍ تكون.
3/ أيضاً هناك حالة فيما يتعلق بالنفل [النافلة] وهو خاص بالسفر:
لو أن الإنسان مثلاً في سفر -هذا خاص بالسفر على الصحيح ولا يتعدى للحضر-
مثلا: إنسان مسافر وهو يسير، لأن المسافر وهو ماكث في مكان لا بد أن يستقبلَ القبلة.
دليل هذه المسألة: النبي ﷺ كما في الصحيحين: ” كان يسبّح ” يسبح: يعني يصلّي النافلة.
” ويوتر، على راحلته، فيومئ ﷺ بالركوع والسجود “
مثلا: نحن الآن لدينا هذه السيارات، قد يكون الإنسان مثلاً مسافر وهو راكب لا يقود السيارة، لأن الصلاة صلاة النفل، أي صلاة يؤثر على الإنسان فيما يتعلق بقيادته للسيارة، لكن قد يكونُ الإنسانُ راكبًا، وهو جالس على الكرسي يقول: سأتنفل، أريد أن أصلي الليل، أريد أن أوتر؟
فنقول: صلِّ وأنت على كرسيك ولو كنتَ غيرَ متجهٍ للقبلة، لِفعل النبي ﷺ، وتومئ بالركوع وتومئ بالسجود، ويكونُ السجود أخفض مِن الركوع.
وهذا مِن بابِ تشجيعِ المسافر على كثرةِ النوافل، فهذا متيسر ولله الحمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثاً: معرفة اتجاه القبلة
الإنسانُ إذا كان في مكان لا يعرِفُ القبلة فإنه حينَها يسألُ غيرَه ممن هو ثقة، يسأله عن اتجاه القبلة
ولذا لو أن الإنسان صلى مِن غيرِ أن يَعلمَ بالقبلة، ومن غيرِ أن يسأل، وهذا يحصل بعض الناس في سفره يسكن في شقق أو في فندق ويصلي دون أن يسأل! فهنا لو صلى؟ فصلاتُه باطلة، لم؟
لأنه افتقد شرطاً مِن شروط صحة الصلاة وهو: استقبال القبلة وكان مُفَرِّطاً.
لكن: لو كان الإنسان ليس عنده أحد ليسألَه؟
فنقول: اجتهد على حسب وُسعِك، لأن بعضَ الناس قد يكون عنده اجتهاد يفهم الجهات هذا لا إشكال فيه، لكن:
إن لم يكن ذا اجتهاد، وليس هناك مَن يسألُه؛ وصلى ثم تبين أن صلاتَه إلى غير القبلة؟
ج/ فصلاتُه صحيحة، لأنه اجتهد، وهذا حسب وسعه.
وقد يصدق أيضاً: بعضُ الناس ربما تكون معه البوصلة، فيظن أن جهة القبلة مع هذه الجهة؛ فيصلي، فإذا به يتبين خلاف ذلك،
أو يأتي إنسان إليك ويقول: يا فلان، أين القبلة؟ فيقول: مِن هذه الجهة، فيصلي،
أو أنه يسكن في فندق أو في شقق ويسأل وإذا به يُقال له: جهة القبلة كذا، فيصلي،
فيتبين له أن مَن أخبره قد أخطأ، سواء كان في صحراء أو في فندق أو في شقة، تبين أن من أخبره قد أخطأ!؟ ج/ فصلاتُه صحيحة، لعموم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، وقد وردت أحاديث فيما يتعلق بهذا الأمر.
إذاً/ مَن صلى مِن غيرِ اجتهاد، ومِن غيرِ أن يسألَ غيرَه: فصلاتُه باطلة.
لكن لو اجتهد أو سأل فتبيَنَ خطأ مَن سُئِلَ: فصلاتُه صحيحة، ولا يلزمُه أن يُعيدَ هذه الصلاة، ولو كانت تلك الصلواتُ كثيرة في أيامٍ عديدة.
أسألُ اللهَ لي ولكم العلمَ النافِعَ والعملَ الصالح.