خطبة حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح [2]
( أبواب الجنة – وهل جنة آدم هي جنة الخلد) ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح”
هذا الكتاب كما سبق يتحدث فيه ابن القيم رحمه الله عن الجنة، الجنة التي دخلها آدم عليه السلام، هل هي جنة الخلد، أم أنها جنة أخرى في السماء، أم أنها جنة في الأرض، أم يتوقف المسلم للتعارض فيما يظهر من الأدلة؟
أربعة أقوال ذكرها ابن القيم رحمه الله، وذكر حجج كل فريق، ولم يرجح رحمه الله، والذي يظهر فيما يظهر لي أن الجنة التي دخلها آدم عليه السلام ثم أخرج منها هي جنة الخلد؛ لأدلة كثيرة منها:
أولا: أن أول ما يتبادر إلى الذهن والعقل والفطرة حينما تذكر جنة آدم إنما ينصرف إلى جنة الخلد.
ثانيا: ما جاء في صحيح مسلم إذا قيل لآدم استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟
ثالثا: ما جاء في الصحيحين لما حصلت المحاججة بين آدم، وبين موسى قال موسى: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)
رابعا: أن الله عز وجل لما أمرهم بالهبوط قال {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}
خامسا: أن الله عز وجل قال لآدم عليه السلام {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)}، وإنما هذه الصفات لا تكون إلا في صفة جنة الخلد.
إلى غير ذلك من الأدلة، وتأمل قال {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} قابل بين الجوع والعري؛ لأن الجوع ذل الباطن، والعري هو ذل الظاهر ظاهر البدن {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} قابل بين الظمأ وبين الضحى؛ لأن الظمأ هو حر الباطن باطن بدن الإنسان، والضحى هو حر ظاهر بدن الإنسان، وإن كان لأولئك أدلة قوية إلا أن هذا هو الأظهر.
أما كون إبليس كذب في الجنة، والجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، وأن آدم أخرج منها وما شابه ذلك من هذه الأدلة، فإنما يقال حصل هذا في الدنيا؛ لأمر يريده الله عز وجل، أما اللغو والتأثيم والكذب وما شابه ذلك، وإذا دخلها أهلها إنما يكون ذلك في يوم القيامة، ولا ينفي أن يحصل مثل هذا في الدنيا قبل يوم القيامة لأمر أراده الله عز وجل.
أبواب الجنة :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الجنة لها ثمانية أبواب كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الكثيرة في الصحيحين وفي غيرهما حتى قال عليه الصلاة والسلام مصرحا عند البخاري: (إن للجنة ثمانية أبواب منها باب يقال له الريان يدخله الصائمون)، وهذه الأبواب لها أسماء ذكرت بعض أسمائها في الصحيحين: ” باب الصلاة، باب الصدقة، باب الجهاد، باب الريان الذي هو الباب الذي يدخل منه الصائمون” وأهل الجنة إذا أتوا إلى الجنة لم يجدوا أبوابها مفتوحة، لا.
ولذلك: تأمل كما قال ابن القيم رحمه الله إلى اختلاف الألفاظ والكلمات حينما يساق أهل الجنة، وحينما يساق أهل النار، أهل النار ماذا قال عز وجل؟ {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} أي جماعات جماعات يقرن بعضهم مع بعض على حسب العمل الخبيث والنفوس الخبيثة، لم؟ من أجل أن يحصل بينهم التلاعن والذم واللوم والتقبيح، فيلعن بعضهم بعضا بخلاف ما لو سيقوا وحدانا {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} {إِذَا} تحتاج إلى جواب شرط {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} هذا هو جواب إذا، الجواب مترتب على الشرط بمعنى من حين ما يأتي إليها أهلها تتفتح مباشرة من أجل أن يفاجئهم العذاب بغتة فيحصل لهم الهم، ولذلك مع ذلك يحصل لهم التقريع {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} لم يقل قيل ادخلوها صرح بجهنم {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} لأن أبوابها فيها من الهم والغم الشيء العظيم، فهذا أول الغم والهم؛ لأن ما بعده ما هو أعظم وهو الدخول والخلود الأبدي في جهنم.
لكن أهل الجنة حينما يساقون {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} جماعات يقرن بعضهم ببعض على حسب ما كان منهم من عمل صالح توافقوا عليه، واجتمعوا عليه جماعات؛ لأنهم اجتمعوا في الدنيا على عمل صالح فاجتمعوا أيضا, وأيضا يفرح بعضهم ببعض، ويسر بعضهم ببعض {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ} قال هنا بالواو {وَفُتِحَتْ} ليست هي واو الثمانية باعتبار أن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة، لا، لأن هذا قول ضعيف، وليست زائدة وإنما {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} معطوفة على قوله {جَاءُوهَا} فالجواب محذوف للعلم به بمعنى أنهم إذا أتوا إلى أبواب الجنة لا يجدونها مفتوحة، لابد من شفاعة شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنها ليست كدار أي دار فلشخص أن يدخلها متى شاء، لا، هي دار الله، دار السلام، وهي دار غالية عظيمة، وأيضا يظهر فضل النبي عليه الصلاة والسلام بتفضيل الله له على الناس في ذلك الوقت، ولذلك أول من يستفتح الجنة هو عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم، حتى إنه إذا طرقها طرق الباب قال الخازن ـ وهذا في صحيح مسلم ـ (من أنت قال أنا محمد قال بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) وعند الترمذي يقول (آخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها)، قال ابن القيم إذن لها حلقة ويتحرك، للباب حلقة تتحرك وتتقعقع (فيقول من أنت فيقول أنا محمد، فيرحبون به، ويخر لله ساجدا، فيقال يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، وقل بقولك يسمع) كما ثبت عند الترمذي.
فيدخلونها، ولذلك انظر إلى قوله عز وجل لهؤلاء أهل الجنة {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} سلمتم ما بعد هذا اليوم ما بعد هذا اليوم شر، مرت بكم شدائد من حين ما عقلتم في الدنيا إلى أن وصلتم في هذه الجنة، وأنتم في شدائد في معاناة، وإذن هذه الجنة غالية، فلابد من أن يجاهد الإنسان نفسه أمام هذه المصاعب وهذه المشاق وهذه الأطباق حتى يصل إليها، فجنة الله غالية ليست بالأماني {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} سلمتم من كل شر ومن كل أذى {طِبْتُمْ} بطيبكم دخلتم الجنة لأنه لا يدخلها إلا الطيبون {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} بخلاف اللفظ؛ لأن هؤلاء بشروا بالدخول في الجنة حيث النعيم المقيم العظيم الأبدي بينما أهل النار {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} صرح بالأبواب، وصرح بجهنم لشدة ما يعانون، ولبداية شدة ما سيعانونه بعد ذلك حينما يدخلون هذه الأبواب.
وهذه الأبواب درجات بعضها فوق بعض:
يقول ابن القيم يقول وذكر أثرا أيضا في تأييد ذلك أثرا لعلي رضي الله عنه كما أن الجنة درجات بعضها فوق بعض، كذلك الأبواب الباب الأعلى هو أعلى من الذي دونه وهكذا، فيقول كلما علت الجنة اتسع الباب، وكلما اتسعت الجنة كلما اتسع بابها، فهي بعضها فوق بعض، الباب الأعلى أوسع من الذي دونه وهكذا، وكلما اتسعت الجنة كلما اتسع الباب، يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث الشفاعة حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين فيقول عند الشفاعة (أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ أدْخِلْ مِن أُمَّتِكَ مَن لا حِسَابَ عليهم مِنَ البَابِ الأيْمَنِ مِن أبْوَابِ الجَنَّةِ، وهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيما سِوَى ذلكَ مِنَ الأبْوَابِ) أما ما جاء عند الترمذي من أن هناك بابا باب أمتي الذي يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة أربعين سنة، فهو حديث ضعيف، إذن فيقال (يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب)
قال عليه الصلاة والسلام قال: (ما بين المصراعين كما بين مكة وهجر، أو مكة وبصرى) من حيث المسافة.
وجاء حديث عند أحمد (ما بين المصراعين أربعون سنة) لو أن الإنسان سار بخيل لمدة أربعين سنة (ما بين المصراعين)، والمصراعان هما جانبا الباب (أربعون سنة) ما بينهما الأربعون سنة (وإنه ليأتي يوم وإنه كظيظ من الزحام)
ولعل ما يؤيده ما ذكره عتبة بن غزوان في صحيح مسلم موقوفا، فيكون هذا الباب يكون هذا الباب يكون الباب الأعظم، أعظم أبواب الجنة هو هذا الباب الذي ما بين المصراعين أربعون سنة، هذا إذا كان الحديث مرفوعا، ولعله هو الأقرب، وإن كان موقوفا، فيرجع في ذلك إلى المسافة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام (ما بين مكة وهجر، أو ما بين مكة وبصرى)
وليعلم وهذه قاعدة أن أي حديث يأتي في الأبواب مما صح ما بين المصراعين كذا وكذا، واختلفت المسافة قال ابن القيم: ولعله حسب سعة الجنة إذ يتسع الباب على حسب سعة الجنة.
وأبواب الجنة إذا دخلوها تكون مفتوحة {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} بينما أبواب النار مغلقة {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} مغلقة ومؤصدة بأعمدة من الخارج كما يوضع الحجر الثقيل خلف الباب حتى لا ينفتح، فلا يدخل إليهم خير، ولا يخرج منهم شر فيجتمع عليهم الهم والغم، ولا يدخل عليهم خير.
أما أبواب الجنة قال تعالى {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ}، لم؟ هذا يدل على أنهم يتنقلون في الجنة، ويتبوؤن منها منازل حيث شاءوا، وأيضا تدخل عليهم الملائكة بالأوقاف وبالأرزاق من رب العالمين، وأيضا هم في دار أمن ليسوا كدار الدنيا يحتاجون إلى أن يغلقوا الباب؛ لأنها دار خو، لا، هي دار أمن، فلذلك كانت الجنة مفتحة الأبواب.
وما ورد من أن ابن القيم أحيانا يجمع، وأحيانا لا يبين من أن أبواب الجنة تتكلم وتكلم وتخاطب وتفهم انفتحي وانغلقي، فهذا إنما هو قول قتادة رحمه الله، وليس من قول النبي عليه الصلاة والسلام.
وما ورد من حديث في كتاب صفة الجنة لكل مؤمن أربعة أبواب باب يدخل منه زواره من الملائكة، وباب يدخل عليه أزواجه من الحور العين، وباب بينه وبين أهل النار مغلق، فإذا أراد أن ينظر إليهم لتعظم عليه نعمة الله، وباب بينه وبين دار السلام يدخل فيه إلى الله متى ما شاء، لكنه حديث لا يصح.
وأما ما بين كل باب وباب آخر، فلا أعلم حديثا صحيحا ثابتا عنه عليه الصلاة والسلام، ما بين المصراعين مر، لكن ما بين كل باب وباب الله أعلم، اللهم إلا أنه ورد حديث طويل عند أحمد والطبراني قال: (إن لجهنم سبعة أبواب ما بين كل بابين مسيرة سبعين سنة، وإن للجنة ثمانية أبواب ما بين كل بابين مسيرة سبعين سنة) لكنه حديث ضعيف لا يصح عنه عليه الصلاة والسلام.
إذن هذه الجنة وهذه أبوابها نسأل الله الكريم من فضله، ونسأله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهلها.