خطبة حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
[ 3] ( مكان الجنة وطريقها ومنشورها ودرجاتها )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح”
الجنة أين مكانها؟ مكانها كما قال عز وجل {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)}، قال ابن القيم وثبت أن سدرة المنتهى فوق السماء، وسميت بهذا الاسم؛ لأنه ينتهي إليها ما ينزل من عند الله، وينتهي إليها ما يصعد إلى الله عز وجل، إذن الجنة فوق السماء، ويؤكد ذلك ويقرره ما جاء في صحيح البخاري قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن)
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: الأكثر بفتح القاف (فوقَه) اسم مكان، وضبط (وفوقُه) بالضم، وغلط، لكن قال ابن القيم قال: اختار شيخنا أبو الحجاج المزي أنه بالضم، فيكون اسما، يعني وفوقُه عرش الرحمن أي وسقفه عرش الرحمن، فدل هذا على أن العرش فوق الفردوس، والفردوس تحت العرش، وهذا يؤكد أن الجنة فوق السماء السابعة.
قلت: وما ورد من أحاديث تختلف عن هذا، فهي غير صحيحة، أو أنها آثار أشبه ما تكون بالإسرائيليات، ولو ثبتت تنزلا، فإنها موجهة، ولذلك من بين الآثار ما جاء عند ابن أبي شيبة أن عبد الله بن عمرو قال: “الجنة مطوية بقرون الشمس تنتشر كل عام مرة”
قلت: أشبه ما يكون هذا الأثر من الإسرائيليات؛ لأنه ليس قولا للنبي عليه الصلاة والسلام، لكن معنى هذا الحديث: أن ما يحدثه الله بسبب الشمس من نبات وثمار ونحو ذلك يذكر بالجنة كما أن نار الدنيا تذكر بنار الآخرة، وإلا فجنة عرضها السموات والأرض لا تكون معلقة بقرون الشمس.
ما هو الطريق إلى الجنة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطريق إلى الجنة طريق واحد، بينما الطريق إلى النار طرق متعددة توصل صاحبها إلى الجحيم، نسأل الله السلامة والعافية، فالطريق إلى الجنة هو طريق واحد، وهو طريق الله، قال ابن القيم رحمه الله: ولذلك اتفق على هذه الرسل من أولهم إلى محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء.
ولذلك انظر: إذا ذكر الله عز وجل طريق الشر جمعه “سبل”، لكن إذا ذكر طريق الخير جعله موحدا، قال عز وجل {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} مفردة موحدة {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} وهي سبل الشياطين، ولذلك ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا النبي عليه الصلاة والسلام خطا مستقيما، وخط خطوطا، فقال: هذا صراط الله، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
لكن لو قال قائل: لماذا جمع الله سبل الخير في هذه الآية {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} قال {سُبُلَ} ولم يقل سبيل؟ يقول ابن القيم رحمه الله يقول: هذه طرق متعددة من طرق الخير يجمعها طريق واحد، وهو الطريق الأعظم، فهي شعب الإيمان، يجمعها الإيمان، قال: كما يجمع ساق الشجرة أغصانها وأوارقها ونحو ذلك.
قلت: مما يؤكد ذلك أنه أضاف السبل إلى السلام.
إذن هي طرق متعددة هي طرق سلام موصلة إلى ماذا؟ إلى الطريق الواحد الأعظم وهو طريق النجاة.
ما مفتاح الجنة ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مفتاح الجنة هو التوحيد، ولذلك جاء عند أحمد من حديث معاذ رضي الله عنه: (مفتاح الجنة لا إله إلا الله) وإن كان الحديث منقطعا بين معاذ وبين شهر بن حوشب إلا أن معناه صحيح، فقد دلت الأدلة الكثيرة التي رواها معاذ، ورواها غيره أن لا إله إلا الله مفتاح الجنة.
التوحيد هو مفتاح باب الجنة، ولذلك: لما سئل وهب بن منبه كما عند البخاري: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ فقال: بلى، لكن من أتى بمفتاح له أسنان فتح له الباب، وإلا لم يفتح له.
نعم، على حسب الأسنان الأعمال الصالحة. مفتاح الجنة لا إله إلا الله، التوحيد لكن لابد من العمل، ولذلك إذا كانت الأسنان قوية كان الفتح أعظم وأسرع، وإن كانت ضعيفة فبحسب ذلك.
أهل الجنة كما قال ابن القيم: يعطون منشورا، يعني مكتوبا وموقعا به لهم عند موتهم، وعند دخولهم الجنة، قال رحمه الله: هذا المنشور الذي وقع به لأهل الجنة يكون عند موته، قال عز وجل {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)}
{كِتَابٌ مَرْقُومٌ} قال مكتوب كتابة حقيقية، ووقع لهم في هذا المنشور، ويشهده من؟ {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} الملائكة، والنبي عليه الصلاة والسلام وسادات المؤمنين، قال ولم يذكر شهادة المقربين في كتاب الفجار قال: وهذا من باب التمييز والتعظيم لهذا المنشور، وهذا التوقيع، ولأهل الجنة، يقول كما تعظم الملوك من تعظمه بين خواصهم من الأمراء والوزراء، يعظم بعض الأشخاص، ويكتب له منشورا أو توقيعا من باب إبراز فضل هذا المنشور وفضل صاحبه عند خواص مملكته.
فيقول رحمه الله: وهذا المنشور وهذا التوقيع بشهود هؤلاء المقربين نوع من صلاة الله عز وجل على عبده، ونوع من صلاة الملائكة على العبد، ولذلك في حديث البراء عند أحمد لما تصعد روح المؤمن ويشيعه من كل سماء مقربوها يقول الله: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين).
أما المنشور الثاني الذي به التوقيع يكون عند دخول الجنة كما قال ابن القيم قلت: إن صح الحديث؛ لأن الحديث رواه سلمان من طريقين، لكن الحديث به ضعف، لكن هذا الحديث لفظه (لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفوها دانية) والنص الآخر (يعطى على الصراط جوازا بسم الله الرحمن الرحيم أدخلوا فلان بن فلان جنة عالية قطوفها دانية)
درجات الجنة
ــــــــــــــــــــــــ
درجات الجنة يقول ابن القيم من سعة الجنة ولعلو منزلتها ولارتفاعها يكون لها درج، ولذلك ذكر رحمه الله عن الضحاك كما رواه ابن المبارك عند قوله تعالى عن أهل الإيمان {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4} {لَهُمْ دَرَجَاتٌ} قال: يرى أصحاب الدرجة العالية ما فضله الله به من هذه الدرجات بينما الذي دونه يرى أنه ليس هناك أحد من الناس فضل عليه.
درجات الجنة هل هي مائة درجة أم أنها أكثر؟
النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين قال: (الجنة مائة درجة ما بين كل درجة كما بين السماء والأرض)، قال (الجنة) في لفظ الآخر (إن في الجنة مائة درجة)
قال ابن القيم: فإن كلمة (في) ثابتة، وهي محفوظة إن كانت هي المحفوظة، فتكون هذه المائة من ضمن درجات كثيرة في الجنة، وإن لم تكن محفوظة، فإن هذه المائة مائة درجة هي الدرج الكبار، ويدخل فيها درج آخر قال: وهذا مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة) قال لا ينفي أن تكون هناك أسماء أخرى غير هذه الأسماء بدلالة الأحاديث الأخرى.
قلت: مما يؤكد هذا أن الجنة أكثر من مائة درجة أنه جاء عند البيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام (درج الجنة كعدد آي القرآن) صححه الحاكم.
قلت: يشهد لهذا الحديث حديث عائشة الحديث الذي ثبت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام كما عند أحمد قال: (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارتق، فإن منزلتك عند آخر تقرأها)
ما معنى هذا الحديث؟
قال ابن القيم: معناه أن منزلتك عند آخر ما حفظت من آي القرآن، أو أن منزلتك قال: إن منزلتك عند آخر ما تلوته من محفوظك من القرآن.
فالجنة مائة درجة ما بين كل درجة كما بين السماء والأرض، وثبت (ما بين كل درجة والأخرى مائة عام) وجاء عند الطبراني، وذكره ابن القيم قلت: لو صح؛ لأن فيه ضعفا (أن ما بين كل درجة ودرجة مسيرة خمسمائة سنة)
قال ابن القيم رحمه الله موجها لهذه الأحاديث قال: وإنما هذا الاختلاف باختلاف السير سرعة وبطئا من حيث السرعة والبطء، قال: وإنما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام متفاوتا لتقريب هذا الأمر للأفهام.
ما هي أعلى درجة في الجنة وما اسمها ؟
أعلى درجة في الجنة هي الوسيلة، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمر هذه الأمة بأن تسأل الله له الوسيلة، لم أمر الأمة؟ من باب زيادة إيمان الأمة لنفع الأمة، وزيادة الحسنات لهم، ولأن الله قدر هذه الوسيلة قدر لها أسبابا لينالها النبي عليه الصلاة والسلام عن طريق دعاء أمته، لم؟ لأن الخير الذي حصل لهم من العلم والهدى والإيمان إنما هو عن طريقه عليه الصلاة والسلام، ولذلك أمرنا أن ندعو بعد الأذان بأن نسأل الله له الوسيلة، قال: (فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي)
قال ابن القيم: وضبط (وحلت عليه) (حلت عليه) يعني وقعت عليه شفاعتي، (وحلت له) معناها يعني حصلت له شفاعتي، ولذلك قال: هي درجة في الجنة لا تنبغي أن تكون إلا لشخص، وأرجو أن أكون أنا هو، ولذلك نص عليه الصلاة والسلام عند الترمذي كما ثبت قال: (الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا تكون إلا لرجل، وأرجو أن أكون أنا هو)
قال ابن القيم: ” كلمة (أنا هو) جملة هي خبر لاسم أكون المستتر أن أكون أنا هو، ولا يكون أنا ضميرا منفصلا للتوكيد، قال: وإنما جملة (أنا هو) هي خبر لاسم أنا المستتر في كلمة أن أكون.
إذن هي أعلى درجة في الجنة، لماذا سميت بهذا الاسم؟
لأن الوسيلة هي القربى، ولذلك ماذا قال عز وجل عن الذين يدعون الأنبياء والأولياء يدعونهم من دون الله، ولاشك أن دعاء غير الله عز وجل سواء دعا نبيا أو غيره لاشك أنه شرك بالله عز وجل قال {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قال كلمة {أَقْرَبُ} تفسر كلمة {الْوَسِيلَةَ}، يعني هؤلاء الأنبياء وهؤلاء الصالحون أنتم يا من تدعونهم هم بحاجة إلى أن يتقربوا إلى الله، فكيف تدعونهم من دون الله؟!
قال: ولذلك لما كان النبي عليه الصلاة والسلام أعظم الناس تقربا إلى الله، وأعظم خشية لله نال هذه الوسيلة التي هي أقرب درجة إلى العرش، والتي هي أقرب إلى الله عز وجل، فتكون درجة النبي عليه الصلاة والسلام هي الوسيلة من باب قرب النبي عليه الصلاة والسلام من الله عز وجل؛ لعظم تقربه إلى الله في هذه الدنيا.
وهذا يؤكد أيضا أن درجات الجنة أكثر من مائة؛ لأن قوله (إن في الجنة مائة) أو (الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين) هذه ينالها آحاد الأمة، فدل هذا على أن درجة النبي عليه الصلاة والسلام مختصة به وزائدة على هذه الدرجات، إذن الجنة أكثر من مائة درجة.
أسأل الله لي ولكم الجنة والدرجات العالية منها.