﴿بسم الله الرحمن الرحيـــــــم﴾
خطبة لطائف من كلام السلف تعرف بها
(هل أنت منشرح الصدر أم ضيق الصدر)
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري – حفظه الله –
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انشراح الصدر له عشرة أسباب ذكرتها في خُطبةٍ سالفة وهي موجودة على اليوتيوب لمن أراد سماعها، لكن هنا بعضُ اللطائف عن بعض أهل العلم فيما يتعلقُ بضيقِ الصدرِ وبانشراحه.
يقول ابنُ رجب -رحمه الله- كما في تفسيره:
“ضَمِنَ اللهُ ﷻ لمن أطاعه انشراحَ الصدر، ولمن عصاه ضيقَ الصدر”
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ (124) طه.
وقال تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (21) السجدة
وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ﴾ (47) الطور.
فدل هذا على أنَّ هذه الآيات بها دلالة على أنَّ من عصى الله فإنه يكون في عذابٍ قبل العذابِ الأكبر.
قال -رحمه الله-: أما أهل طاعته فقد قال الله ﷻ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ ما النتيجة؟ ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (97) النحل.
قال ابنُ رجب: قال الحسن وغيرُه من السلف قالوا:
إن الحياة الطيبة أن يرزقه الله عبادةً يجدُ لذتها في قلبه،
قال: ولا يتنافى هذا مع قول من يقول الحياة الطيبة هي/ القناعة والرضا بالعيش، لأن الرضا بالعيش كما قال بعضُ العلماء: ” جنةُ الدنيا ومستراح الآخرة”
قلتُ: إن الحياة الطيبة المذكورةَ في هذه الآية تشمل ما ذكره رحمه الله وما ذكره غيرُه من المفسرين.
ثم قال إن قتادةَ وغيره من السلف قالوا:
الله ﷻ لم يأمر عباده بطاعته لحاجته إليهم، ولم ينههم عن معاصيه بخلاً منه، وإنما أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه ضررهم.
ضيقُ الصدر قد يأتي المؤمن لعارض فالإنسان لا يسلم من ضيق الصدر ولو كان تقياً عابدَ، لكنَّ هذا العارض يزول وعلاجه بالرجوع إلى الطاعة والازدياد منها ولذا ماذا قال عز وجل؟
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ (97-98) الحجر
قال الشوكاني -رحمه الله- في فتح القدير:
أمر الله عز وجل نبيه ﷺ لمّا يحصل له من الأذى ما يحصل، يقول يضيق صدره لأن هذه من الطبيعة البشرية أن يضيق صدره بما يؤذى إذا عُوديَ فأمره الله ﷻ أن يسبح متلبساً بحمده وأن يكون من الساجدين – الساجدين هنا معناها: المصلين –
قلت: لماذا ذكر السجود ولم يذكر الصلاة؟
قلتُ: لأن أقرب ما يكون العبد من ربه كما في صحيح مسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه في صلاته وهو ساجد.
في صحيح مسلم: ” أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّهِ وهو ساجدٌ “
ولذلك يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية:
إن الله عز وجل أمر النبي ﷺ إذا ضاق من هؤلاء ألا ينثني عن الدعوة إلى الله ﷻ فإن الله ناصرُه وحافظه، وأمرَه بالتسبيح وبالصلاة لم؟
قال: لأنه ﷺ كما في السنن: “إذا حزَبه أمرٌ فزع إلى الصلاةِ”
يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في إغاثة اللهفان:
الله عز وجل جمع بين هذين النوعين، مَن؟
الذي شرح الله صدره بسبب الهداية، والذي ضيَّقَ الله صدرَه بسبب الضلال قال عز وجل: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ﴾ النتيجة؟ ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ (125) الأنعام، هذا هو النوع الأول: النوع الطيب.
﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ﴾ النتيجة؟ ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ (125) الأنعام، ضيقاً حرَجا
بل قال كما في كتاب الفوائد: كما أن الله عز وجل يجمع بين الهداية وبين انشراح الصدر وبين الضلالة وضيق الصدر كذلك هو عز وجل يجمع بين الإنابة والهداية وبين قسوة القلب وبين الضلالة قال عز وجل: ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ (13) الشورى.
وقال في الصنف الآخَر: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ﴾ ماذا؟
﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (22) الزمر.
ويقول ابن القيم -رحمه الله- كما في الجواب الكافي:
إن الأبرار لفي نعيم وإن ضاقت عليهم الدنيا وإن تكدر عليهم عيش الدنيا،
وإن الفجار لفي جحيم وإن اتسعت عليهم أمور الدنيا،
ثم قال: فأي نعيمٍ أطيب من انشراح الصدر!؟
وأيُّ عذابٍ أعظم من ضيق الصدر! لم؟
لأن الله ﷻ وعد أهل الخير بالراحة والسعادة في الدنيا وفي الاخرة:
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ما الثمرة؟ ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ أين؟ ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ (62-63-64) يونس.
نعم لهم انشراح الصدر، ولذلك في الصحيحين – ولستُ بصدد ذكر فوائد هذه القصة لأنها قصة عظيمة – في الصحيحين:
لمَّا أخبر النبي ﷺ عن قصة جُريج الذي أتتهُ أمه وهو يصلي فلم يُجِبْها، فقالت: اللهم لا تُمِتْهُ حتى يرى ينظرَ إلى وجوه المومِسات -يعني الزانيات-.
فأرادت امرأةٌ بغي أن يقع بها لكنه أبى، فأتت إلى راعي فمكَّنته من نفسها فوقَعَ بها فحملت، فقالوا: من أين هذا الولد؟ قالت: من جُرَيج، فأتوا إليه فهدموا صومعته وأنزلوه، فلما أنزلوه قال ما الخبر؟ قالوا: زنيتَ بهذه المرأة، فقال: أين الغلام؟ فلما رآهُ تبسَّم – انظر مع شدة الأمر-
هناك روايات متعددة وجميلة في هذا المقام لكن المقام ليس مقام لسردها؛
الشاهد من هذا أنه: تبسم – هذا يدل على ماذا؟
على انشراح الصدر، ولذلك قال ابن حجر -رحمه الله-: في بعض الروايات ذكر بعض الروايات أنهم لما مرو ببيوت الزواني تبسم فقالوا له: لم يضحك؟
فلما أتى إلى هذا الغلام قال: من أبوك؟ قال: الراعي، فأرادوا أن يبنوا له صومعته من ذهب، وفي رواية: ” من فضة”، قال: لا وإنما أعيدوها كما كانت، فقالوا -كما في رواية أخرى في الصحيحين- قالوا له: لمَ تبسمتَ؟ قال تذكرتُ دعوةَ أمي.
يقول ابن حجر -رحمه الله- كما في الفتح:
وصاحب الصدق مع الله – اسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصادقين مع الله في السراء وفي الضراء – قال: وصاحبُ الصدق مع الله لا تضره الفتن، قال: والله جل وعلا يبتلي أولياءه، فيفرج عنهم، لكن قد يتأخر هذا الفرج عن بعضهم في بعض الأوقات تهذيباً لهم – لِيُهَذِّب نفوسَهم- تهذيباً لهم وزيادة في ثوابهم.
يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في الجواب الكافي:
فالمؤمن المخلص من أعظم الناس انشراحاً للصدر وأسعَدِهِم قلبا،
قال: وهذه جنةٌ عاجلة في الدنيا قبلَ جنةِ الآخرة.
يقول -رحمه الله- كما في الجواب الكافي:
ليس هناك شيءٌ أنفع للعبد من طاعة الله والتقرب إليه فإنَّ فَقْدَ هذا الشيء – وهو الطاعة – فإنَّ فَقْدَ هذا الشيء أعظم ما يكونُ من الألم في فَقْدِه،
قال: لكن بعضاً من الناس لا يشعُرُ به لأن روحَه تغيبت عن هذا الأمر لأنه منشغلٌ بغيره من أمور الدنيا مع أنه فقد أعظم ما يكون،
فيقول -رحمه الله-: مثلُ هذا مثلُ السكران المستغرق في سُكْرِهِ فقد احترق بيتُه وأولادُه ومالُه ومع ذلك هو لا يشعر لأنه مستغرِقٌ في سُكْرِهِ،
فيقول -رحمه الله-: ليس هناك شيء أنفع للعبد من طاعة الله ﷻ فإذا فقَدَ هذا الشيء – وهي الطاعة – كان أعظم ما يفقده من الأشياء وكان في ألمٍ عظيم.
ولذلك يقول ابنُ القيم -رحمه الله- كما في شفاء العليل:
فانشراحُ الصدر من أعظمِ النعم، وضيقُ الصدر من أعظم النقم
قال: وأهلُ الطاعة قد انشرحت صدورهم في الدنيا وتتسع ليصبروا على مكروهاتها؛ فيقول: فإذا زاد الإيمان وخالط هذا الإيمان بشاشةَ القلوب كان أشرحَ صدراً -سبحان الله- كان أشرح صدراً على مكروهاتها أعظم من انشراحِ صدره على محبوباتها – نسألُ اللهَ الكريمَ من فضله –
معنى هذا الكلام: يقول/ إذا زاد الإيمان وخالطت بشاشتُه القلوب، الإنسان حينما يأتيه شيء من أمور الدنيا الطيبة ينشرح صدرُه ويسعد، فيقول/ هؤلاء إذا زاد الإيمان عندهم فنزل المكروه بهم فانشراح صدرهم عند نزول هذا المكروه -سبحان الله- أعظم من انشراحِ صدورهم عند حصول المحبوب – ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء –
ولذلك يقول -رحمه الله- كما في شفاء العليل:
وأصلُ النعم انشراح الصدر، وأساس كل خير، بدليل ماذا؟ يقول: موسى عليه السلام لمَّا أمره اللهُ بتبليغ الرسالة عرف أن هذه الرسالة تحتاج إلى جهد، فبمَ دعا ربه؟ حتى يعينَه على تبليغها:
﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ (25-26) طه.
يقول: ولمَّا عدد الله ﷻ نعمه على محمد ﷺ خاتَم الأنبياء والمرسلين، من بين ذلك من أعظم النعم أنه شرح صدره قال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ (1) الشرح.
قال ابن القيم -رحمه الله-: واتباع محمد ﷺ – قلتُ: وبقدرِ اتباعك للنبي ﷺ يحصُل لك هذا الانشراح –
قال: واتباعُ محمد ﷺ شرَحَ اللهُ صدورَهم للإسلام.
قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ (22) الزمر.
وقد ورد حديثٌ عندَ أحمدَ وأهلِ السنن – حديث عمر رضي الله عنه –:
أنَّ النبيَّ ﷺ كان يستعيذ بالله ﷻ من فتنة الصدر.
قال وكيع: هو الذي يقع في فتنة ثم يموت ولا يستغفر منها.
وقال بعض أهل العلم: – وكلُّ هذا داخل في فتنة الصدر، الضيق الذي يجري لك من أمور الدنيا ومن مشاكلها، الوساوس والشبهات التي تكون في قلبك، المتاعب، الشبهات، الشكوك، كل ذلك من فتنة الصدر،
وهذا الحديث اختلف فيه أهل العلم وصححه جماعة ومع هؤلاء حظٌّ من النظر في تصحيحه وعلى كل حال سواءٌ ثبت هذا الحديث أو لم يثبُت:
فأنتَ عبد الله مأمورٌ بأن تسأل الله أن يُجنبك الشر، وأعظم الشرور أن تُفتن في صدرك بشبهات أو بشكوك أو بوساوس أو بضيق، لأن الإنسان إذا ضاق صدرُه قَلَّت عبادتُه، لكن لو ضاق صدرُ المسلم فعليه أن يلجأ إلى الله عز وجل:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (5-6) الشرح.
﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ (7) الطلاق.
ولن يَغلِبَ عسرٌ يُسرين.
اسأل الله لي ولكم السعادة وانشراح الصدر ونسأله التوفيق والسداد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ