خطبة (مسائل شهر محرم وعاشوراء)

خطبة (مسائل شهر محرم وعاشوراء)

مشاهدات: 841

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة: (مسائل شهر محرم وعاشوراء)

لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري – حفظه الله –

أما بعد.. فيا عباد الله، سبق وأن ذكرت فيما مضى من سنوات ما يتعلق بشهر محرم وبيوم عاشوراء ولديّ في هذا اليوم بعضُ المسائل التي لم أتحدث عنها فيما مضى فيما يخصّ محرّما وفيما يخص يومَ عاشوراء..

 

  • من المسائل: النبي ﷺ كما في صحيح مسلم قال: “أفضلُ الصيام بعد شهر رمضان صومُ شهرِ اللهِ المحرم”، فهذا الشهر له مزيّته من حيثُ الصيام،

لكن لو قيل: النبي ﷺ لم يُؤثَر عنه أنه أكثرَ من صيامه فما الجواب عن هذا؟

فالجواب: أنه ﷺ كان مشغولاً بالجهاد أو أنه لم يُطلَع على فضل صيامه إلا في آخر حياته فلم يتمكن من الإكثار من صيام محرم، ويكفينا في ذلك قولُه ﷺ في بيان فضل الإكثار من صيامِ أيامِ هذا الشهر وهو شهرٌ محرّم.

 

  • ما العلة من الصيام؟ العلة: لأنه شهرُ الله المحرم، كما قال العراقيُّ -رحمه الله- (ردًّا على القرطبيّ وغيرِه الذي قال: إنما حُثَّ على الإكثارِ من صيامه لأنه أولُ شهرٍ تُفتَتح فيه السنة) والصواب ما قاله العراقي -رحمه الله-؛ لأنه لا دليل على ما ذُكِر، ويكفي في ذلك أن السنة الهجرية -كما أسلفتُ لكم فيما مضى- ليست في عصرِ النبي ﷺ.
  • وما قيل كما جاء في حديثِ علي -رضي الله عنه- عند الترمذي، قال رجلٌ: يا رسولَ الله، أيُّ شهرٍ أصومُه؟ قال: “إن أردتَ أن تصوم بعد رمضان إن كنتَ لابد فاعلا فصُم شهرَ محرم؛ فإن الله عز وجل تاب فيه على قوم ويتوبُ فيه على آخَرين” هذا الحديث ضعيف ولا يصح عن النبي ﷺ، ولذا: ما ذكره بعض العلماء من أن هذا الشهر تُستحب فيه التوبة إلى الله عز وجل بناءً على هذا الحديث فهو حديثٌ ضعيف.

 

  • وكذلك ما جاء أنَّ يومَ عاشوراء أن اللهَ عز وجل تاب فيه على آدم، أو أنه تاب فيه على قومِ يونُس، أو أن يوم عاشوراء وُلِدَ فيه إبراهيم وعيسى فإن مثل هذا لا يثبت عن النبي ﷺ، وما جاء من أن الله عز وجل أوحى إلى موسى أن يتوب بنو إسرائيل في الأيام العشَرَة من شهر محرم فإذا جاء يوم عاشوراء قال:

“فليخرجوا إليّ حتى أغفرَ لهم” هذا ليس حديثًا عن النبي ﷺ، وإنما نقله وهْبُ بن مُنَبّه عن بني إسرائيل فلا يثبُتُ عن النبي ﷺ.

 

  • أن يوم عاشوراء هو اليومُ العاشر من شهرِ اللهِ المُحَرَّم، وهنا أمر وهو: أن بعضا من الناس من باب حرصِهِ على الخير يقول -ولا يُفهم ما أقولُه على أني لا أحثُّ من صيام هذا الشهر، كلا! يكفي ما ذكرته فيما مضى وحديث النبي ﷺ عند مسلم: “أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم”، الأمر هو: أن بعضا من الناس من باب الحرص على الخير يخصصون أسبوعًا ويحثّون الأمة على أن يصوموا هذا الأسبوع أو هذه الأيام لأنها ستوافق يوم الاثنين ويوم الخميس وما شابه ذلك من هذه الأيام بتاريخٍ معين!

هل ثَبَت أن النبي ﷺ في خاصتِه مع أصحابه؟! أو كان الصحابةُ فيما بينَهم إذا تقابلوا أنهم يحثون أنفسَهُم أو يحثّ بعضهم بعضًا على هذا الأمر!؟ ليس هناك دليل! فكيف لنا أن نقول للأمة: من التاريخ الفلاني إلى التاريخ الفلاني حيثُ ينتهي الأسبوع صوموا، فتجتمع الأمة على صيام هذا الأسبوع من شهرِ مُحرَّم، أين الدليل!؟

من شاء أن يصوم في خاصة نفسه هذه الأيام فلا إشكالَ في ذلك؛ لأن الشرع ندبَ إليها، لكن أن يُجمَع الناس وتُجمَع الأمة على أن يصوموا هذا الأسبوع بتاريخٍ محدد إلى أن ينتهي هذا ليس بوارد! والواجب على المسلم أن يقتديَ بالنبي ﷺ وبما جاءت به السنة، وأكرّر: ليس المعنى أنني أنهى عن الصيام، صُم في خاصةِ نفسِك من هذه الأيام الفاضلة في هذا الشهر فلك ذلك، لكن أن تُتناقل رسائل وتُبثّ منشورات على فضيلةِ جَمْعِ الأمة على صيامِ أسبوع أو عشَرة أيام من شهرِ محرم -أو في أيِّ شهرٍ من الشهور الفاضلة- فإن هذا ليس بثابت عن النبي ﷺ، وكلُّ الخير في اتباع هديه صلواتُ ربي وسلامُه عليه وهدي صحابتِهِ -رضي الله عنهم-.

 

 

 

  • ومن المسائل: أن النبي ﷺ له في صيام يومِ عاشوراء، لَهُ أربع حالات:

الحالةُ الأولى: كما جاء في الصحيحين من حديثِ عائشةَ -رضي الله عنها-: أنَّ النبيَّ ﷺ كان يصوم، كانت قريش تصومه في الجاهلية وكان ﷺ يصومُه. إذًا: كان يصومُه قبلَ الهجرة مِن غيرِ أن يأمُرَ أصحابَه -رضي الله عنهم- بالصوم.

الحالةُ الثانية: لما هاجر كما في الصحيحين من حديثِ ابنِ عباس -رضي الله عنهما- ورأى اليهود يصومونه صامَهُ ﷺ وأمر الصحابة بصيامِه، وهذا يدل على أنه لم يتبع اليهود؛ لا! لأنه كان يصومه قبل أن يُهاجِر، لكن: كان يُحِب موافقة اليهود فيما لم يُنهَ عنه ﷺ.

الحالةُ الثالثة: أنه لما فُرِضَ صيامُ رمضان ترك صيام يوم عاشوراء كما جاء في الصحيحين من حديثِ ابنِ عمر -رضي الله عنهما-، ما معنى ترَكَ الصيام؟

يعني: ترَكَ التأكيدَ مِن حيثُ الوجوب عليه؛ لأنه أوجبه على الصحابة، لأنه كان واجبًا عليهم ثم بعد ذلك لم يؤكِّد ذلك، وليس معنى ذلك أنه ترك صيامه، لا!

وإنما المقصود كما قال أكثر أهل العلم: أنه بقِيَ على الاستحباب لكن لم يؤكَّد على ذلك من حيثُ الوجوب، ولذا جَمْعٌ مِنَ الصحابة كانوا يصومونه، بل مما يدل على أنَّ النبي ﷺ لم يدع صيام عاشوراء حتى مات ما جاء في الصحيحين: حديثُ ابنِ عباس -رضي الله عنهما- قال: (ما رأيتُ رسولَ الله ﷺ يتحرّى صيام يوم فضّلَهُ على جميعِ الأيام من هذا اليوم -وهو يوم عاشوراء-). انتبه! قال: (لم أرَ) ابنُ عباس -رضي الله عنهما- كان صغيرا فكونُه يَذْكُر أنه رأى دلّ على أنه لم يَنقُل هذا عن غيرِه من الصحابة وإنما رآه، وإنما بلغ ابنُ عباس -رضي الله عنهما- في أواخِرِ حياةِ النبيِّ ﷺ،

ومما يؤكدُ ذلك ما جاء في صحيح مسلم أنه ﷺ قال: “لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنّ التاسع” يعني: مع العاشر.

ومما يدل على ذلك ما ثبت عند أحمد والنَّسائي وأبي داود أنه ﷺ لم يدع صيام يوم عاشوراء ولا العشر -يعني: عشر أوائل ذي الحجة- ولا ثلاثة أيام من كل شهر.

الحالةُ الرابعة: أنه ﷺ في أواخِرِ حياتهِ لما قيل له -كما عند مسلم-: إنه يوم تعظّمه اليهود والنصارى، قال: “لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع”.

إذًا/ كان يصومُه قبلَ الهجرة،

فلما هاجر صامه وأوجبَه على الصحابة،

فلما فُرِضَ رمضان ترك الأمر بالوجوب،

فلما كان في آخِر حياتِه وهي الحالةُ الرابعة قال: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع”.

 

  • ومن المسائل: أن الصحابةَ -رضي الله عنهم- كانوا يحرِصون على صيامِ يومِ عاشوراء، بل لِتَعلَموا – لأن بعضا من الناس يظن أن هذا الحديث الذي سأذكُرُهُ يظن أنه مخصوصٌ به رمضان – وهو: أنَّ الصحابةَ -رضي الله عنهم- كانوا يُصَوِّمُون أبناءهم في يوم عاشوراء وهم صغار قد بلغوا سن التمييز (سن السابعة)، الدليل:

ما جاء في الصحيحين: عن الرُّبيِّع بنتِ مُعَوِّذ -رضي الله عنها- أنها أخبرت أنهم كانوا يُصوِّمون أبناءهم فكان إذا بكى أحدُهم -يعني: الطفل- أعطَوه اللعبةَ مِن العِهن -يعني: من الصوف- يتلهّى بها حتى تغرُبَ الشمس.

وَلْيُعلَم أنه ما ورد من حديث عند الطبراني: أن النبي ﷺ إذا كان يوم عاشوراء جمع الرُّضّع من أبناءِ بيتِه فَتَفَلَ في أفواهِهِم وقال لأمهاتِهِم: لا تُرضِعوهم حتى الليل وذلك يُجزِئُ عنهم -يعني: أنهم لا يجوعون ولا يظمؤون- لكنَّ هذا الحديث عند الطبرانيّ وبه جّهالة، إذًا لا يثبت ولا يصح عن النبي ﷺ.

 

  • من المسائل: أنها وردت بعضُ الآثار من أنَّ الوحوش تصومُ يومَ عاشوراء، مِن أسودٍ وفهودٍ وغيرِها، بل والطيور تصومُه؛ بل جاء في حديث: أنَّ أولَ مَن صام يومَ عاشوراء طيرٌ يُقال له: الصُّرَد، لكن ليُعلَم انها آثار ضعيفة لا تصح عن النبي ﷺ، وبالتالي:

قد تقرأ من أنَّ بعضَ الصالحين فيما مضى يذكُر أنَّ الوحوش كانت تُذبَح أمامَهم البهائم في يومِ عاشوراء وتُوضَع أمامَهم بعدَ العصر فكانوا لا يُقدِمون على أكلِها وكانوا يرفعون رؤوسَهم إلى السماء فإذا غربت الشمس أقبَلوا عليها! فإن مثل هذا لا يكون مُعَوِّلا لنا أو معلومة لنا من أنَّ الوحوش تصومه، لأن هذا أمر غيبي ما نعرفه ولا نطّلع عليه.