بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة: (مسائل شهر محرم وعاشوراء)
لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري – حفظه الله –
أما بعد.. فيا عباد الله، سبق وأن ذكرت فيما مضى من سنوات ما يتعلق بشهر محرم وبيوم عاشوراء ولديّ في هذا اليوم بعضُ المسائل التي لم أتحدث عنها فيما مضى فيما يخصّ محرّما وفيما يخص يومَ عاشوراء..
لكن لو قيل: النبي ﷺ لم يُؤثَر عنه أنه أكثرَ من صيامه فما الجواب عن هذا؟
فالجواب: أنه ﷺ كان مشغولاً بالجهاد أو أنه لم يُطلَع على فضل صيامه إلا في آخر حياته فلم يتمكن من الإكثار من صيام محرم، ويكفينا في ذلك قولُه ﷺ في بيان فضل الإكثار من صيامِ أيامِ هذا الشهر وهو شهرٌ محرّم.
“فليخرجوا إليّ حتى أغفرَ لهم” هذا ليس حديثًا عن النبي ﷺ، وإنما نقله وهْبُ بن مُنَبّه عن بني إسرائيل فلا يثبُتُ عن النبي ﷺ.
هل ثَبَت أن النبي ﷺ في خاصتِه مع أصحابه؟! أو كان الصحابةُ فيما بينَهم إذا تقابلوا أنهم يحثون أنفسَهُم أو يحثّ بعضهم بعضًا على هذا الأمر!؟ ليس هناك دليل! فكيف لنا أن نقول للأمة: من التاريخ الفلاني إلى التاريخ الفلاني حيثُ ينتهي الأسبوع صوموا، فتجتمع الأمة على صيام هذا الأسبوع من شهرِ مُحرَّم، أين الدليل!؟
من شاء أن يصوم في خاصة نفسه هذه الأيام فلا إشكالَ في ذلك؛ لأن الشرع ندبَ إليها، لكن أن يُجمَع الناس وتُجمَع الأمة على أن يصوموا هذا الأسبوع بتاريخٍ محدد إلى أن ينتهي هذا ليس بوارد! والواجب على المسلم أن يقتديَ بالنبي ﷺ وبما جاءت به السنة، وأكرّر: ليس المعنى أنني أنهى عن الصيام، صُم في خاصةِ نفسِك من هذه الأيام الفاضلة في هذا الشهر فلك ذلك، لكن أن تُتناقل رسائل وتُبثّ منشورات على فضيلةِ جَمْعِ الأمة على صيامِ أسبوع أو عشَرة أيام من شهرِ محرم -أو في أيِّ شهرٍ من الشهور الفاضلة- فإن هذا ليس بثابت عن النبي ﷺ، وكلُّ الخير في اتباع هديه صلواتُ ربي وسلامُه عليه وهدي صحابتِهِ -رضي الله عنهم-.
الحالةُ الأولى: كما جاء في الصحيحين من حديثِ عائشةَ -رضي الله عنها-: أنَّ النبيَّ ﷺ كان يصوم، كانت قريش تصومه في الجاهلية وكان ﷺ يصومُه. إذًا: كان يصومُه قبلَ الهجرة مِن غيرِ أن يأمُرَ أصحابَه -رضي الله عنهم- بالصوم.
الحالةُ الثانية: لما هاجر كما في الصحيحين من حديثِ ابنِ عباس -رضي الله عنهما- ورأى اليهود يصومونه صامَهُ ﷺ وأمر الصحابة بصيامِه، وهذا يدل على أنه لم يتبع اليهود؛ لا! لأنه كان يصومه قبل أن يُهاجِر، لكن: كان يُحِب موافقة اليهود فيما لم يُنهَ عنه ﷺ.
الحالةُ الثالثة: أنه لما فُرِضَ صيامُ رمضان ترك صيام يوم عاشوراء كما جاء في الصحيحين من حديثِ ابنِ عمر -رضي الله عنهما-، ما معنى ترَكَ الصيام؟
يعني: ترَكَ التأكيدَ مِن حيثُ الوجوب عليه؛ لأنه أوجبه على الصحابة، لأنه كان واجبًا عليهم ثم بعد ذلك لم يؤكِّد ذلك، وليس معنى ذلك أنه ترك صيامه، لا!
وإنما المقصود كما قال أكثر أهل العلم: أنه بقِيَ على الاستحباب لكن لم يؤكَّد على ذلك من حيثُ الوجوب، ولذا جَمْعٌ مِنَ الصحابة كانوا يصومونه، بل مما يدل على أنَّ النبي ﷺ لم يدع صيام عاشوراء حتى مات ما جاء في الصحيحين: حديثُ ابنِ عباس -رضي الله عنهما- قال: (ما رأيتُ رسولَ الله ﷺ يتحرّى صيام يوم فضّلَهُ على جميعِ الأيام من هذا اليوم -وهو يوم عاشوراء-). انتبه! قال: (لم أرَ) ابنُ عباس -رضي الله عنهما- كان صغيرا فكونُه يَذْكُر أنه رأى دلّ على أنه لم يَنقُل هذا عن غيرِه من الصحابة وإنما رآه، وإنما بلغ ابنُ عباس -رضي الله عنهما- في أواخِرِ حياةِ النبيِّ ﷺ،
ومما يؤكدُ ذلك ما جاء في صحيح مسلم أنه ﷺ قال: “لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنّ التاسع” يعني: مع العاشر.
ومما يدل على ذلك ما ثبت عند أحمد والنَّسائي وأبي داود أنه ﷺ لم يدع صيام يوم عاشوراء ولا العشر -يعني: عشر أوائل ذي الحجة- ولا ثلاثة أيام من كل شهر.
الحالةُ الرابعة: أنه ﷺ في أواخِرِ حياتهِ لما قيل له -كما عند مسلم-: إنه يوم تعظّمه اليهود والنصارى، قال: “لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع”.
إذًا/ كان يصومُه قبلَ الهجرة،
فلما هاجر صامه وأوجبَه على الصحابة،
فلما فُرِضَ رمضان ترك الأمر بالوجوب،
فلما كان في آخِر حياتِه وهي الحالةُ الرابعة قال: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع”.
ما جاء في الصحيحين: عن الرُّبيِّع بنتِ مُعَوِّذ -رضي الله عنها- أنها أخبرت أنهم كانوا يُصوِّمون أبناءهم فكان إذا بكى أحدُهم -يعني: الطفل- أعطَوه اللعبةَ مِن العِهن -يعني: من الصوف- يتلهّى بها حتى تغرُبَ الشمس.
وَلْيُعلَم أنه ما ورد من حديث عند الطبراني: أن النبي ﷺ إذا كان يوم عاشوراء جمع الرُّضّع من أبناءِ بيتِه فَتَفَلَ في أفواهِهِم وقال لأمهاتِهِم: لا تُرضِعوهم حتى الليل وذلك يُجزِئُ عنهم -يعني: أنهم لا يجوعون ولا يظمؤون- لكنَّ هذا الحديث عند الطبرانيّ وبه جّهالة، إذًا لا يثبت ولا يصح عن النبي ﷺ.
قد تقرأ من أنَّ بعضَ الصالحين فيما مضى يذكُر أنَّ الوحوش كانت تُذبَح أمامَهم البهائم في يومِ عاشوراء وتُوضَع أمامَهم بعدَ العصر فكانوا لا يُقدِمون على أكلِها وكانوا يرفعون رؤوسَهم إلى السماء فإذا غربت الشمس أقبَلوا عليها! فإن مثل هذا لا يكون مُعَوِّلا لنا أو معلومة لنا من أنَّ الوحوش تصومه، لأن هذا أمر غيبي ما نعرفه ولا نطّلع عليه.