الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
أما بعد :
فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مستدرك الحاكم ، وحسنه الألباني رحمه الله :
( إن الله لم يجعل الدنيا إلا قليلا ولم يبق منها إلا القليل كالثغب شُرب صفوه وبقي كدره )
ما معنى هذا الحديث ؟
أن الدنيا في شأن الشرع قليلة من حين ما خلقها الله عز وجل ، ومع قلتها لم يبق منها إلا القليل ( كالثغب ) كالحوض المليء بالماء يأتي الناس والدواب فيشربون منه ، فإذا شربوا أعلاه وبقي شيء منه شُرب الصفو وبقي الكدر ، فدل هذا على أن الدنيا مهما عظمت ومهما ازدانت لأي إنسان فإنها ليست بشيء .
النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المِخيَط إذا أُدخل البحر )
إبرة أدخلت البحر كما تأخذ منه ؟
فالدنيا لم تأخذ من الآخرة إلا كما أخذت الإبرة من هذا البحر العميق الواسع .
ولذا نبه عز وجل عباده فقال { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ }
اللعب : بالجوارح .
واللهو : بالقلب ، ولذا اللهو عند الكبار أكثر من اللعب ، وبالنسبة للصغار اللعب عندهم أكثر من اللهو ، ولذا قال تعالى{ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ }الأنبياء3 ، وصف القلوب بأنها لاهية .
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ } {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }الكهف7 ، وليس أحسن تنافسا في الدنيا – لا .
{ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } هي مكاثرة ومفاخرة ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما الفقر أخشى عليكم ) أناس لديهم من الأموال ما لديهم ، ولكن لماذا يطمحون إلى ما هو أكثر ؟ مكاثرة ومفاخرة حتى لا يعلوهم غيرهم ، سمعتُ إنسانا يقول متحدثا عن شخص يقول ” إن لديه سبعين مليونا ، ولكن غير مستقر وغير مرتاح ، لم ؟ قال لأن صاحبه يزيد عليه بأربعة ملايين .
{ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } كمثل مطر أعجب الزراع نباته ، فالكفار هنا بمعنى الزرَّاع لأنهم يسترون الزرع ، كما يستر الكافر الإيمان بكفره .
{ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ }
يأتي المطر فتخرج الأرض نباتها وتزدهر فنسعد ، لكن تعال لها بعد أشهر ، ماذا يحدث ؟
{ ثُمَّ يَهِيجُ } ييبس { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } لمن عصى الله عز وجل { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ } لمن أطاع الله { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } الذي بعدها ؟
{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }الحديد21 هذه هي المسابقة والمنافسة .
في صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه ذات يوم ( كيف بكم إذا فُتحت عليكم فارس والروم ؟) وفارس والروم دولتان غنيتات في ذلك الوقت وفيها من الجواهر والأموال ما الله به عليم ، قال :
( كيف بكم إذا فُتحت عليكم فارس والروم ؟ قالوا : نكون كما أمرنا الله ) يعني بالطاعة ( قال : أوغير ذلك ؟ ) انظروا إلى الدنيا ( قال : أوغير ذلك ؟ قال تتنافسون ) بعد المنافسة ( ثم تتحاسدون ) بعد الحسد ( ثم تتباغضون ) ما الذي بعد البغض ( ثم تذهبون إلى فقراء المهاجرين فتحملو رقاب بعضهم على بعض ) انظروا ، فالإنسان ليس بمذموم أن يسعى إلى أمور دنياه ، لكن المشكل ( المنافسة ) ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما الفقر أخشى عليكم ، ولله لتصبن عليكم الدنيا صبا ، فإن تزغ الدنيا أحدا لا تزيغه إلى هي)
لكن أين المسابقة والمنافسة إلى طاعة الله ؟
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ } يعني أن سعة الجنة كسعة السموات والأرض ، يعني لو وصلت السماء بالأرض ، وهذا من باب التمثل ، فما ظنكم بالطول ؟ معلوم أن العرض أقل من الطول ، فإذا كان هذا العرض فما ظنكم بطولها ؟
{ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }الحديد21 .
ولذلك لا بأس أن يسعى الإنسان في الدنيا ، ولكن لا تكون في قلبه ، وإنما تكون في يده ، لا يتحسر عليها إذا ذهبت ، ولا يفرح فرح بطر إذا هي أتت ، ولذلك ابن حجر رحمه الله كما ذكر المُناوي رحمه الله ، قال ” إن ابن حجر لما كان قاضيا أتى لينظر إلى أحوال السوق ، ولما أتى كان عليه ثياب جميلة ، وكان معه موكب ، يعني في رغد وفي نعمة ورفاهية ، فلما أتى السوق إذا بيهودي يبيع الزيت وقد تلطخت ثيابه بالزيت الحار ، وعليه ثياب رثة ، فأوقفه وقال يا شيخ الإسلام زعم نبيكم ( أن الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن ) وهذا الحديث عند مسلم ، فأين أنا من النعيم وأين أنت من السجن ؟
أنت عليك ثياب جميلة أين سجنك ؟ وأنا عليَّ ثياب رثة فأين نعيمي ؟ فقال ابن حجر رحمه الله ” ما حبس عني كمؤمن من النعيم المقيم يعد ماأنا فيه الآن سجنا ، لأنني محبوس عن النعيم الأعظم ، وأما بالنسبة إلى ما أُعد إليك في الآخرة من العذاب لكفرك فإنك في نعيم الآن ، فأسلم اليهودي “
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا بأس بالغنى مع التقى ، والصحة مع التقى خير من الغنى )
بعض الناس غير مرتاح ، غير مطمئن ، بما أنك في صحة وعافية ، والله إنها من أعظم النعم ، والله أفضل من أن تملك ملايين الريالات ، فالصحة من أحسن ما يكون ، ولذا علينا أن نتنبه إلى هذا الأمر ، لتسع في دنياك ولكن لا تكن شغلك الشاغل ، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من أحب ) ما قال ( من سعى ) قال ( من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى )
قيل لأبي حازم رحمه الله ” لماذا نكره الموت ؟ فقال رحمه الله ( لأنكم عمرتم دنياكم وخرّبتم أخراكم ، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب ) أي لو أنكم عمرت آخرتكم أحببتم الموت لكي تنالوا وتحصلوا على هذا العمار ، لكن صنيعنا الآن إذا دخلنا بيوتنا ما الذي في أذهاننا ؟ الدنيا ، إذا وضع الإنسان منا رأسه على فراشه ما الذي يفكر به ؟ الدنيا ، إذا استيقظ من نومه ؟ الدنيا ، إذا جلس مع أهله ؟ الدنيا ، إذا دخل المسجد ؟ الدنيا ، إذا كبّر للصلاة ؟ الدنيا .
فنحن بحاجة ماسة إلى أن نتذاكر – وكلنا ذلكم الرجل ولا أحد يسلم – وليكن المقصود ما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ( ولا تجعل الدنيا أكبر همنا )
يعني لو كانت الآخرة هي أكبر همنا فلا بأس ، لكن أن تكون الدنيا هي أكبر همنا ، فهذا هو المصاب .
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لكل خير وأن يجنبنا كل شر ، والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .