( وجوب أداء الزكاة على الفور )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
أما بعد :
تحدثنا في الدروس الماضية عن الأموال الزكوية وانتهينا منها ، بقيت عندنا مسألة وهي مسألة وجوب أداء الزكاة على الفور متى ما وجبت لا يجوز لمن ملك نصابا ووجبت فيه الزكاة بتمام السنة أن يؤخر الزكاة إلا إذا كان المال الذي وجبت فيه الزكاة ليس موجودا بيده ، كأن يكون في ذمم الآخرين فلا يُلزم بإخراج الزكاة حتى يقبضه ، أو كان هذا المال غائبا ليس موجودا قد يتحصل عليه بعد أسبوع أو شهر أو شهرين ، فإنه لا يلزم حتى يقبضه فإذا قبضه فإنه يُخرج زكاة هذا المال .
أيضا مما يستثنى في تأخير إخراج الزكاة إذا كان هناك ضرر على المزكي ، مثال ذلك فيما لو كان هناك ضرر على المزكي فلا يلزم بإخراجها على الفور بل ينتظر متى ما زال هذا الضرر أخرج الزكاة ، كما لو كان ولي الأمر يبعث السعاة لأخذ زكاة أموال الناس وتمت السنة وتأخر جباة الزكاة عن موعدهم الذي يأتون فيه فهذا لو أخرج الزكاة لربما أتى هؤلاء الجباة بعد شهر أو شهرين وطلبوا منه الزكاة فيكون بذلك ضرر عليه ، ففي هذه الحال يقال له أخر الزكاة حتى يأتي إليك جباتها ، أو إذا كان هناك مصلحة في تأخيرها مصلحة للفقير لا للمزكي ، فإذا كانت هناك مصلحة للفقير فإنه يجوز تأخيرها ، ما هي مصلحة الفقير ؟ وجبت عليه الزكاة والمال بيده وانتظر بهذا المال حتى يتحرى مستحقيها أو وجبت عليه الزكاة وقد علم بأن هناك فقيرا بحاجة إلى هذا المال بعد شهرين ، هو الآن مستغن بما في يده ، فبعد شهرين يتوقع أن يحتاج هذا الفقير فإذ أخرها لمصلحة الفقير أو لقدومه مثلا من بلده ، يعني يتوقع أن يقدم بعد شهر أو شهرين فلا بأس بذلك ، لماذا ؟ لأن في هذا مصلحة للفقير ، ولكن يجب أن يخرجها عن ماله ويكتب عليها ورقة بأن هذه زكاة ، فيوصي بأن هذا المبلغ زكاة إذا جاء فلان يعطى أو يخرج إن توفاه الله عز وجل ولم يخرج هذه الزكاة ، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز تأخيرها .
من هم الذين أجاز لهم الإسلام أن يعطوا من الزكاة ؟
هم ثمانية ، قال الله عز وجل في بيانهم في سورة التوبة { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } التوبة60 ، من لم يكن من هؤلاء فلا يجوز له أن يطلب الزكاة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه مُزعة لحم ) وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم ( من سأل الناس أموالهم تكثرا ) يعني ليس لضرورة ( من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا من جهنم فليستقل أو ليستكثر ) بقدر ما يأخذ من أموال الناس وهو لا يستحق هذه الزكاة بقدر ما يرصد له جمرات من جهنم تعد له وترصد له ، هذه الآن عقوبة في الآخرة ، وعقوبة في الدنيا قال عليه الصلاة والسلام كما في سنن الترمذي ( ما فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ) فإذاً لا يجوز طلب المال ، إلا من كان مضطرا إلى طلبه وإلا فلا يجوز للإنسان أن يسأل الناس ،
نأتي إلى ذكر متعلقات هؤلاء الأصناف الثمانية :
قال تعالى { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء }
الفقراء: هم الذين لا يجدون شيئا من الكفاية ، أو يجدون بعضها ، يمكن أن يكون بيده شيء يعتاش به شهرا أو شهرين أو ثلاثة أشهر أو نصف سنة فهذا يعطى من الزكاة ما يكفيه سنة هو وعائلته ، فإن لم يكن لديه شيء يعطى ما يكفيه سنة ، فإن كان يملك بعضها فيعطى تمام هذا البعض لمدة سنة ، لماذا قلنا سنة ؟ لأن الزكاة ستحل على الأغنياء في السنة القادمة فيعطى منها ، إن أغناه الله عز وجل فالحمد لله ، وإن لم يغنه فيعطى من هذه الزكاة طيلة حياته إلى أن يتوافاه الله أو إلى أن يغتني .
بعض الفقراء عليهم ديون ، وهذه مسألة يجب أن يتنبه إليها ، بعض الفقراء عليهم ديون قد يأتي المزكي ويقول يا فلان خذ هذه الدراهم لسداد الدين ، هو حقيقة فقير لكن عليه ديون ، قال المزكي خذ هذه الدراهم فسدد ديونك ، لا يجوز للفقير أن يصرفها في شيء آخر غير الدين ، لكن لو قال المزكي خذ يا فلان هذه الدراهم ، لفقره ليس من أجل دينه ، فللفقير أن يسدد الدين ، إذاً إن أعطي من الزكاة لفقره يتصرف فيها كيفما يشاء في سداد دين أو في شراء أشياء يحتاج إليها أو ما شابه ذلك وإن أعطي الفقير لدينه لا يجوز أن يصرفه في غير الدين .
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ }
هناك فرق بين المسكين والفقير ، الفقير هو من لا يجد شيئا أو يجد بعض الشيء ، أما المسكين يجد نصف كفايته أو أكثرها ولم يتحصل على التمام وإنما تحصل على النصف أو على الأكثرية فهنا يعطى ما تكمل به حاجته لمدة عام .
قال تعالى { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } العاملون عليها هم جباتها وحفاظها والقاسمون لها الذين ينصبهم ولي الأمر ، فهؤلاء إن لم تكن لهم رواتب فإنهم يعطون من هذه الزكاة ، أما لو أعطيت الزكوات لشخص ثقة أو لإمام المسجد فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا ، لماذا ؟ لأنه ليس عاملا ، العامل هو من نصَّبه ولي الأمر هذا يعتبر وكيلا ، من يعطى هذه الزكوات لكي يبحث عن الفقراء وعن الأُسر المحتاجة فهذا يعتبر وكيلا ، فلا يجوز له أن يأخذ شيئا ، إن أعطاه المزكي من عنده كوكالة هذا لا بأس به ، أما كونه يأخذ من الزكاة فالزكاة لا تكون إلا للعاملين ، والعاملون هم من نصبهم ولي الأمر في جباية الزكاة وفي حفظها وفي قسمتها .
قال تعالى { وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ }
المؤلفة قلوبهم يعطون ، يعني كافر يميل إلى الإسلام عنده حب للإسلام ويريد أن يطلع على الإسلام فيجوز أن نعطيه من الزكاة لكي نؤلف قلبه ، صفوان بن أمية يقول ( لقد كان محمد أبغض الناس إلي فأعطاني مائة من الغنم ثم أعطاني مائة فمازال يعطيني حتى أصبح أحب الناس إلي ) فأسلم رضي الله عنه ، ( وجاءه رجل فأعطاه غنما كثيرة فذهب إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر )
فإذاً من يحتاج إلى تأليف قلبه كأن يكون كافرا ونشعر أن له رغبة في الإسلام فيعطى ، أما إذا لم يكن له رغبة فلا يجوز إعطاؤه لأن الزكاة لا تكون إلا للمسلم ، لكن للمصلحة التي تعود عليه فيجوز أن يعطى منها ، أو مثلا : مسلم وهو سيد مطاع في عشيرته وله تأثير عليهم هذا إيمانه ضعيف فيجوز أن يعطى تأليفا لقلبه ، أو مثلا إنسان عظيم الشر ولا طاقة للمسلمين بدفع شره فيعطى من الزكاة لكف شره .
إذاً هؤلاء هم المؤلفة قلوبهم .
{ وَفِي الرِّقَابِ }
الرقاب / هم الإماء والعبيد ، وليسوا موجودين في هذا الزمن ، ونسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين حتى يكون هناك سبايا وأسرى يتحصل المسلمون عليهم ويكون هناك إماء وعبيد وأرقاء .
( الرقاب ) فمن كان عبدا يجوز أن نعتقه بالزكاة ، أو أمة نعتقها بالزكاة .
إذاً يفك الأسير المسلم الذي في أيدي الكفار يفك من الزكاة ، فلو طلبوا مالا يعطى من الزكاة لفك أسره .
{ وَالْغَارِمِينَ }
والغارمون / هم المدينون ، سواء كان الدين لمصلحته أو لمصلحة غيره ، سواء غَرَم لمصلحة الغير كأن يأتي إنسان ويرى قبيلتين متناحرتين وأراد أن يصلح بينهما فلم يجد سبيلا إلى الصلح إلا بالمال فهنا يجوز له أن يتسلف أموالا ثم يصلح بينهما بهذا المال ، فهذا غارم يعطى من الزكاة ، أتى قبيصة بن مخارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وقال ( يا رسول الله إني تحمَّلت حمالة ، فقال عليه الصلاة والسلام : قم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها )
أو غارم لمصلحة نفسه ، فقير وهو يحتاج إلى ما يأكله وما يشربه وما يلبسه ثم استلف فهذا يعطى لمصلحته ، حتى ولو كانت تلك الديون في محرّم ثم تاب منها ، فهذا يعطى ، مثلا / إنسان عافانا الله وإياكم استدان في شراء أشياء محرمة وأصبحت عليه هذه الديون ثم مَنَّ الله عز وجل عليه بالهداية فهذا إذا تاب وتحققنا من توبته يجوز أن نعطيه من الزكاة لسداد هذه الديون .
{ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ }
يعني وفي الجهاد في سبيل الله ، يعطى المجاهدون ما يتحاجون إليه قدر حاجتهم .
{ وَابْنِ السَّبِيلِ }
هو المسافر الذي انقطعت به السُبل ، جاء مسافر وانقطعت به السبل ولو كان غنيا في بلده ولم يستطع أن يتوصل إلى مال من ماله فهذا يعطى ، فالمنقطع الذي انقطعت به السبل يعطى من الزكاة ولو كان غنيا في بلده ولو وجد من يقرضه في هذه البلاد ، لو وجد من يقرضه في هذه البلد لا يقترض ، بل لو وجد من يتبرع له لا يقبل، لماذا ؟ لأن الزكاة من حقه ، وفي التبرع قد يمن عليه المتبرع في يوم من الأيام وأما الزكاة فلا منة فيها .
إذا أتينا إلى هؤلاء الأصناف نجد أن الأربعة الأول غير الأربعة الأخر ، فالأسلوب القرآني يختلف ، فلماذا هذا الاختلاف ؟
قال تعالى { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء } هنا أتى بـ [ اللام ] { وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } وفي الأربعة الأخر قال { وَفِي } أتى بـ[ في الظرفية ] قال تعالى { وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } التوبة60 ، ما الفائدة ؟
الفائدة أن الأربعة الأول متى ما أخذوا الزكاة ففاض منها شيء لا يردونها لأن الله عز وجل ملكهم بـ [ لام التمليك ] امتلكوها ، إذاً متى ما أخذوا من الزكاة وفاض وزاد عن حاجتهم ما أعطوه من الزكاة فهي لهم لا يلزمون بردها ، أما الأربعة الأخر [ الرقاب والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل ] هؤلاء يعطون فإن فضل شيء فيجب عليهم أن يردوه .
إذاً الأربعة الأول يُملَّكون وإذا قلنا يُملكون لا يسترد منهم ما فضل منهم ، أما الأربعة الأخر فيسترد منهم ، هذه فائدة .
الفائدة الثانية : أن الأربعة الأول يجب أن يُملَّكوا تمليكا بأيديهم ، يعني ما نأتي ونجتهد من عندنا وعندنا مثلا ألف ريال زكاة ونذهب ونشتري لهم بعض المأكولات والملابس وندخلها عليهم لا يجوز ، يجب أن تملكهم إلا إذا كانت هناك مصلحة كأن تعرف بأن هذا الفقير لو أعطيته دراهم لم يحسن التصرف بل ربما يشتري بها ما لا فائدة منه ، فهنا تنظر إلى ما تحتاج إليه أسرته ومن ثم تشتريه وتعطيه إياه أما ما عدا ذلك فلا ، إذاً يجب أن يُملَّك الأربعة تمليكا بأيديهم يعطون نفس الزكاة إلا إذا كان هناك مصلحة ، أما الأربعة الأخر فلا يلزم .
مثال ذلك: الغارمون لا يشترط تمليكهم يجوز لي كمزكي أن أذهب إلى الدائن وأقول : يا فلان هذا المبلغ من المال مقابل المال الذي لك على فلان ، ويجوز أن آتي إلى المدين وأقول يا فلان خذ هذا المبلغ سدد به دينك ، فلا يشترط التمليك ، إذاً الأربعة الأول يشترط التمليك أما الأخر فلا يشترط .
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .