بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة يوسف
من الآية 50 إلى الآية 76
(الدرس 140)
للشيخ زيد بن مسفر البحري
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل في سورة يوسف: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ) بمعنى أن ذلكم الرجل الذي أتى إلى يوسفَ عليه السلام، وأخبرهم يوسفُ بتلك الرؤيا أُعجِب الملك بتفسيره فقال جل جلاله عنه: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا) يعني ائتوني بيوسف.
(فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ) يعني لما جاء يوسف الرسول يعني أرسل الملك رسولاً إلى يوسف (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) قال يوسف (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) إلى سيدك فاسأله (مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) (مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ولم يُصرِّح بأنهن أردنَ الفاحشة، وإنما عرَّض بهن تعريضاً (مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي: بما فعلنه فيما مضى مما ذكر عز وجل.
(وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) الآيات، ومن هنا فإنَّ يوسف عليه السلام، كما قال ﷺ ، كما ثبت عنه قال: ل(و لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي) وليس هذا فيه بيان أن يوسف أعظم من النبي ﷺ ، وإنما أراد ﷺ بيان فضل يوسف، وبيان تواضعه ﷺ ، وإلا فَحَبْسُ النبي ﷺ مع قومه في الشعب في أولِ الاسلام أعظم من حبسِ هؤلاء ليوسف لمَ؟ لأن يوسف حُبس وتُرِك، لكنّ النبي ﷺ حُبس في الشعب واجتمعوا أن لا يناكحوهم وأن لا يبايعوهم.
ومن ثم فإنَّ الإنسانَ إذا سُجن مظلوماً، فإن هذا لا يَحُطُّ من مرتبتِه فيوسف عليه السلام سُجن مظلوماً، الإمام أحمد سُجن مظلوماً، ابنُ تيمية سُجِنَ مظلوماً، ومع هذا كُلِّه فنجد أنَّ يوسف مع أنه سُجن بسبب الظلم فإنه لم يترك الدعوة إلى الله عز وجل في السجن فدعا أولئك (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، فدلَّ هذا على أن المسلم لا غنى له عن الدعوة إلى الله عز وجل مهما ضاقت به الأسباب ومهما حصل له ما حصل.
قال (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) وكما سبق في سورة يوسف إيجاز، إيجازُ حذف لجمل، ولذا من تأمل نجد أن الملك دعا هؤلاء النسوة ثم لما أتين سألهن هذا السؤال، لكن هنا إيجاز قال (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ) أي تنزيهاً لله عز وجل، واستعاذةً بالله (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) نفينَ عنه السوء (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امرأة الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ)، ومن ثّمَّ فإن يوسف عليه السلام لم يذكر امرأة العزيز، وإنما قال (مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، وذلك لأنه أراد بذلك أن يُكرمَ سيده الذي أوصى باكرام مثواه.
وهذا يدل على أن يوسف لو لم تتحدث تلك المرأة لسيدها: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ما كان ليبين ذلك، لكن لما اتهمته دافع عن نفسه فقال: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).
(قَالَتِ امرأة الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أي: في هذه الحال، وفي هذا الوقت حصحص الحق، أي: ظهر واستبان الحق، (الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)، ولذلك لما قال ذلك الشاهد، (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فقالت امرأة العزيز (الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
( ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)، أي: في حالِ الخفاء، وفي حال الغيب، (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ)، وهذا الكلامُ لامرأة العزيز وليس على الصحيح ليوسف؛ لأنَّ يوسف عليه السلام مازال في السجن، ولذلك قالت امرأة العزيز (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ) يعني زوجي (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)، وإنما جرى ما جرى من تلك المراودة، (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)، وقيل إنَّ مقصودَ امرأة العزيز ليس الزوج، وإنما المقصود يوسف عليه السلام، (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) فَصَرَّحتُ بهذا الأمر الذي هو حق وهو براءته؛ ولكن الذي يظهر أن الأول هو أظهر وعليه كثيرٌ من المفسرين.
(ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)، فكيد الخائنين اللهُ عز وجل لا يهديه، ومن ثَمَّ لما قال عز وجل (لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) دلَّ هذا على أن الخائنين لا يُهدون، فإذا كان الكيد لا يكونُ له وَقْع ولا يكونُ له أثر؛ بل إنما يُبطله الله جل جلاله، فكيف بحال أصحابه.
(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) والكلامُ مازال امرأة العزيز على الصحيح، لأنَّ يوسف عليه السلام لم يزل في السجن، ولأن يوسف عليه السلام لم تحثُّهُ هو نفسه على السوء، وإنما الذي حصل ما حصل من امرأة العزيز (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)، ومما رحِمَه الله عز وجل من النفوس: نَفْس يوسف عليه السلام (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) فختمت هذا الكلام بماذا؟ بأن الله عز وجل غفور رحيم (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) بمعنى أنني أجعلُه خالصاً لي، ولا يشاركني فيه أحد، لما رأى فضله، ورأى براءته ورأى فضائله.
(وَقَالَ الْمَلِكُ) وهنا لم يقل فرعون ومعلوم أن من ملك مصر عند بعض العلماء يُقال إنه فرعون، بمعنى إنه لقب، وقال بعضُ العلماء: إنما يُقال فرعون لمن مَلَكَ القِبطَ، وقيل: من مَلَكَ مِصرَ فإنه يُسمى بفرعون ويُلَقَّب بفرعون، ولَعَلَّهُ والعلمُ عند الله من أنَّ هذا اللقب لم يكن إلا بعدَ يوسف عليه السلام، ومعلومٌ أنَّ يوسف عليه السلام قبل موسى ولذا قال تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا)
فقال عز وجل هنا: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ) {كَلَّمَهُ} الضمير يعود إلى المَلِك كَلَّمَ يوسف (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قال) أي: المَلِك (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ) أي: عندنا (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) مكين: ذو مكانة، أمين: يعني مأمون على مملكتنا وعلى أحوالنا، ومن ثَمَّ فإنه لما صَرَّحَ باليوم دلَّ هذا على أنه ذو مكانة وذو أمانة عنده فيما يُستقبَلُ من الأيام (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ).
(قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ) قال يوسف عليه السلام (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ) بمعنى أنك تجعلني مسؤولاً عما يتعلقُ بخزائنِ الدولة (خَزَائِنِ الْأَرْضِ) يعني خزائن مصر وذلك لأن يوسفَ عليه السلام رأى أنه لا يوجدً أحدٌ يَحِلُّ مَحَلَّهُ، ومن ثَمَّ فإنَّ الإنسانَ إذا كانت هناك وظيفةٌ ويعلمُ من نفسه أنه سينفع الأمةَ فإنه لو طلبها وأثنى على نفسه من أجل أن ينفعَ الأمة لا من أجل أن ينفعَ نفسه بحظوظٍ دنيوية فلا بأس بذلك، ومن ثَمَّ فإنه لا تَعارضَ مع قوله ﷺ كما ثبت: (يا عبدَالرحمن ابنَ سَمُرَة لا تسأل الإمارة، فإنك إن سألتها عن مسالة وُكِلْتَ إليها، وإن أُعطِيتَها من غير مسألة أُعِنتَ عليها).
فدلَّ هذا على أنَّ سؤالَ الإمارة والمنصب منهيٌ عنه في الدين إلا إذا كان هناك غرضٌ وهو نفعُ الأمة إذا كان الإنسان يرى من نفسه أنه خليقٌ بهذا المنصب وليس هناك أحدٌ يقومُ مَقامه ولذلك أثنى يوسفُ عليه السلام على نفسِه لما قال: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) حفيظٌ: لما في هذه الخزائن، وعليمٌ: كيف أُصرف هذه الخزائن حَسْبَ ما تقتضيه الحاجة.
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) مثل ما أنجاه الله عز وجل من السجن، وما جرى له ما جرى مكَّنَه الله جل جلاله، فبعد تلك الابتلاءات والامتحانات التي مرت به مع إخوته ثم ما حصل في البئر ثم ما جرى له مع امرأة العزيز ومع النسوة ومع السجن هنا أتى الفرجُ من الله عز وجل.
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي: في أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) يتبوأ يعني: ينزل منها في أي مكان يشاء سبحان الله بعد ذلك التضييقِ في السجن وبعد تلك المِحَن، بعد أن صبر على تلك المِحَن مَكَّنَهُ عز وجل في جميع أرضِ مصر، (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) يعني لا حَجْرَ عليه ولا يُمنَعُ من شيء.
( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ) دلَّ هذا على أنَّ ذلكم الابتلاء إذا أُعقِبَ بفرج فإنما هو رحمةٌ من الله بالعبد، ومن ثَمَّ فإن العبدَ إذا كان في مِحَن فَلْينتظر الفرج فإنَّ فرجَ اللهِ قريب إذا صبر، ولذلك قال يوسف كما في آخر السورة: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ) ثم ماذا قال: (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فكلُّ من أحسن كحالِ يوسف عليه السلام، فصبر عند الابتلاء فإن الله عز وجل لا يضيع أجره لا في الدنيا ولا في الآخرة.
(وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) لما ذكر من أنَّ يوسف (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) فهذا في الدنيا، ثم بعد ذلك بيَّن أن الخير الدائم والمستمر ليس في هذه الدنيا وإنما الخير في الآخرة ولذا قال عز وجل: (وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ) لمن؟
(لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) آمنوا بالله عز وجل بقلوبهم وبأبدانهم وبأقوالهم، وأيضا اتقوا معاصيَ الله عز وجل.
(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ) دلَّ هذا على ماذا؟ على أن القَحطَ قد تعدَّى خارج مصر، فوصل إلى فلسطين حيثُ ديار يعقوب عليه السلام.
(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) فعرفهم وعرفَ أن هؤلاء إخوتُه (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) يعني ينكرون أن يكون يوسف قد نجى فضلاً عن أن يكون متبوئاً لهذه المكانة في مصر فهذا شيءٌ يستبعدونَه (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ) يعني جهزهم بما يحتاجون إليه مما يَحتاجُ إليه المسافر وأعطاهم ما أعطاهم من المؤونة ولما جهزهم بجَهازهم (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) كيف عرف ذلك؟ دل هذا على أن يوسف عليه السلام لما عرفهم استخبر عن أحوالهم فَقَصُّوا عليه كلما كان منهم وما جرى لهم فأخبروه أن لهم أخاً قد افتقدوه وأنَّ له أخا شقيقاً ولذلك قال تعالى: (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وهؤلاء الإخوة ذكر بعض العلماء أسماء لهم ولا أعلمُ دليلاً صحيحاً من السنة على إثبات هذه الأسماء.
فقال عز وجل هنا عن يوسف لما قال تعالى: (ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) يعني أُعطي الوفاء في الكَيل (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) يعني خير من يُكرم الضيف (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).
(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ) بما يدل على صدقكم (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) يعني أنكم ممنوعون من الكيل مرةً أخرى ولن أعطيكم شيئا، بل (وَلَا تَقْرَبُونِ) ولا تقربون دياري.
(قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ) سَنُلِحُّ الطَّلَبَ على أبيه لعله أن يأذن (قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ) وأكَّدوا ذلك (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ).
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ) قال يوسف لفتيانه أي: الخدم (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ) البضاعة: هي الأثمان التي دفعوها من أجل أن يأخذوا المؤونة من الطعام.
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ) الرَّحل: هو ما يُوضَعُ على البعير، وقال اجعلوها في رِحالهم حتى لا يتنبهوا إليها إلا بعد أن يذهبوا إلى ديارهم (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا) متى؟ (إِذَا انْقَلَبُوا) إذا رجعوا (إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) هذا من باب ماذا؟ من باب أن يستوثق أكثر من رجوعهم فإنهم إذا رأوا بضاعتهم فإنهم يرجعون؛ أو كما قال بعض العلماء: لأنهم لايستحِلون مالَ غيرِهم، وقيل غيرُ ذلك المهم أنهُ فعل يوسف عليه السلام هذا الفعل من أجل أن يرجِعوا مرةً أخرى.
(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ) دل هذا على أنهم لم يبحثوا في رحالهم وانما لما رجعوا خاطبوا أباهم ( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ) نكتل فعل مضارع مجزوم، ولذلك بعضُ الناس ربما يظن أن الأخ اسمه “نكتل”، يظنون أن اسمه “نكتل” وهذا خطأ.
(قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أكدوا ذلك من أنهم سيحفظونه.
(قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) الاستفهام هنا للنفي يعني من أنهُ: لا آمنكم عليه لمَ؟ لأنكم صنعتم بيوسف ما صنعتم به (قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) ثم قال: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا): خيرٌ من حِفظِكم (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا) ليوسف ولغيره مِمَن يتولاه الله عز وجل (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) دل هذا على ماذا؟ دل هذا على أنه مهما ضاقت بالإنسان الأمور فإنه أرحم الراحمين (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) ما هنا استفهامية، يعني أي شيء نبغى أي نطلب؟ (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) أي: هذه أثماننا رُدت إلينا ونحن نريد ماذا؟ (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا) الميرة يعني: النفقة يعني: أن نأتي لهم بطعامٍ لكي يأكلوا منه، من يوسف (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا) مع ذلك كله نحفظ أخانا كما قالوا (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) دل هذا على أن يوسف ما كان يعطي أحداً إلا بحضوره، وإذا حضر إنما يُعطيه فقط حِمْلَ بعير ولا يزيدُ على ذلك وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أنه كما وصف نفسَه (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
(وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)، (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) قيل وهذا داخل في كل ما قاله المفسرون (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي: ذلك الذي أتينا به كيل يسير لا يكفينا، وأيضاً هو: كيل يسير بالنسبة إلى هذا الملك أو هذا العزيز الذي على خزائنِ الأرض فإنه لا يبخل في ذلك فإنه يسيرٌ عليه، ثم أيضاً ثم هو أيضاً يسير علينا إذا أخذنا أخانا، فإنه لا مشقة علينا ولا تعب.
(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ) دل هذا على أنه أخذ عليهم الميثاق المؤكد باليمين (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ) يعني: إلا أن تهلَكوا جميعاً أو أنكم تُصبحون في حالة ما تستطيعون أن تُنقِذوا هذا الأخ فقال هنا (إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ) يعني: أعطوه (مَوْثِقَهُمْ قَالَ) قال يعقوب (اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) ما قلت وما قلتموه من هذا الميثاق الله وكيل وهو وكيلنا ومتولي أمورنا وهذا يدل على ماذا؟ يدل على التأكيد على تعظيم الله عز وجل حتى يَعظُمَ اللهُ في نفوسِهِم (قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ).
(وَقَالَ يَا بَنِيَّ) نصحَ الأبناء (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) دل هذا على أن مِصر لها أكثر من باب للدخول، ونهاهم عن الدخول من باب واحد قال بعض المفسرين: إنما هو من أجل العين، وهذا أصح ممن قال: إنه خَشِيَ أن يُتهموا من أنهم جواسيس إذا دخلوا من بابٍ واحد.
لكنَّ الأظهر: من أنه خاف عليهم من العين لمَ؟ لأن بهم جمالاً ولذا قال يوسف (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).
(وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) يعني: هذا سبب، نفعلُ السبب، لكن الله عز وجل إذا أراد بكم شيئاً فأمره تام (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) حكمه عز وجل فيما أراد أن يصيبكم بما يصيبكم فهذا أمره عز وجل وحكمُه له الحكم القدري والشرعي والجزائي.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي: ما الحكمُ إلا لله مع هذا كله قال: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) عليه وحَدُه توكلتُ، مع أنني قلت لكم هذا الأمر وهو السبب إلا أنني من حيثُ الأصل توكلتُ على الله وحدَه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فصفةُ أهلِ الإيمان أنهم يتوكلون على الله عز وجل وحده.
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) يعني نفذوا وصيةَ أبيهم (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) يعني هذا الدخول من هذه الأبواب المتفرقة ما كانت لِتُغنيَ عنهم من شيء لو أراد الله بهم شيئاً.
(إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) قضاها يعني فعلها وأظهرَها، كما ُيقال: “قضيتُ من هذا الأمر” يعني: فرغتُ منه وأدَّيتُهُ.
(إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا): الحاجة هو حبه لأولاده والخوف عليهم من العين ولذا العين دل هنا على أن العين كانت موجودة في عصر ماذا؟ في عصر يعقوب، بل موجودة في عهد إبراهيم، ولذلك النبي ﷺ كان يُعَوِّذ الحسن والحسين بما كان يُعَوِّذ به إبراهيم بنيه “أعيذكما بكلمات الله التامة” كما ثبت: “أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامَّة ومن كلِّ عينٍ لامَّة”.
دل على أن العينَ موجودة في عصر إبراهيم، ولذلك العين حق كما قال يُعَوِّذ وثبت في الحديث الحسن: (إن العين لَتُولَع بالرجل حتى يَصعَدَ حالقاً فيتردَّى) يعني: يصعد إلى الجبل ثم يتردى من شدةِ ما أصابه من العين.
وكما في الحديث الحسن: (إن العين لتُدخل الرجل القبر والجمل في القدر) فالعينُ حق لكن لا تؤثر إلا بأمرٍ من الله عز وجل.
(إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) وإنه يعني يعقوب (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) هو صاحب علم بسبب تعليمِنا له (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) ودل هذا على أنَّ العلم إنما هو بتوفيقٍ من الله عز وجل ولذا لما ذكر عز وجل الخَضِر قال: (آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)
فقال هنا: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) لا يعلمون عظمةَ الله، لا يعلمون عِظَم التوكل على الله عز وجل حتى يوحدوا الله عز وجل وحتى يُعلقوا قلوبَهم بالله عز وجل.
(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) ضَمَّ إليه أخاه، يعني: أنَّ يوسف ضَمَّ أخاه إليه على خفاء (قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) ، (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) وأكَّد ذلك.
(إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ) فلا تحزن (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي بما عَمِلَه إخوتي معي ومعك، وهذا فيه بيان أن يوسف أراد أن يطمئنه لأنه سيبقيه عندَهُ لأمرٍ سيفعله يوسف عليه السلام.
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ) من أجلِ السفر وأعطاهم من الطعام (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) السقاية هو الإناء الذي يشربُ منه المَلِك، ولذا في الآيات التي بعدها (صُوَاعَ الْمَلِكِ) دل هذا على أنه كان يشربُ منه الملك فاحتيجَ أن يُكالَ بهذا الصاع الذي هو إناء الملك.
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) والرَّحل كما مرهو ما يُوضع على البعير من الرَّحل الذي يُوضَعُ به الطعام والمؤونة.
(جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) يعني أعلمَ شخصٌ ونادى شخص (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) دل هذا على أن الأذان يكون بصوت مرتفع، دل على أنهم لما خرجوا أو كادوا أن يخرجوا نودوا، وذلك حتى لا يشكوا في الأمر لأنه لو نودي عليهم وهم في مكانهم لكان هناك شك (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ) ونادى على العير يعني على القافلة بأكملها (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) وهذا القول إنكم لسارقون هو قول المؤذن ، إن كان قول المؤذن فهذا قوله (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) يعني أخذتموه على وجهِ السرقة .
وإن كان بأمر يوسف لهذا الرجل (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) فإنه بمعنى: إنكم لسارقون فيما مضى فما صنعتموه بي فيما مضى حيث أخذتموني من أبي هذا هو السرقة، من باب التورية.
(قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) أقبلوا عليهم يقولون نحن بريئون حتى لا يظن أحد من أنهم سرقوا.
(قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ)
(مَاذَا تَفْقِدُونَ) ولذلك هنا ذكروا الفقد (مَاذَا تَفْقِدُونَ)، (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ) السقاية (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) يعني سَيُعطى من الطعام حمل بعير مكافأة له، يقوله المؤذن الذي أذَّن لهذه القافلة (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي كفيل دل هذا على أن الكفالةَ موجودة حتى في الأمم السابقة وهذا دليل على مشروعية الكفالة (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) لمَّا يكفَل شخصٌ شخصاً (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ).
(قَالُوا تَاللَّهِ) أقسموا (لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) على وجه العموم (وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) ولذلك قالوا (وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) من باب النفي من أنهم أصلاً لم يأتوا من أجل افساد ولو بأقل وجوه الإفساد فكيف بالسرقة.
(قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ) يعني: ما جزاء من يسرق في حكمكم أنتم يا أبناء يعقوب (قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ) يعني: فيما كذبتم فيه (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ)، يعني: أن جزاءه عندنا وأكدوا ذلك فقالوا: (فَهُوَ جَزَاؤُهُ) جزاءه ماذا؟ أنه يُستَرَق ويُحبَس سنة عند من سُرق عندَه (فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)، (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) دل هذا على أن السرقة ظلم.
(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ) حتى لا يشكوا في الأمر (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ) دل هذا على أن السقاية موضوعة في وعاء ثم استخرجها من وعاء أخيه.
وقال بعضُ المفسرين: من أنَّ -وليس عليها دليل صحيح فيما أعلم- من أنه لما وصل إلى رّحلِ أخيه امتنع، قال: مثلُ هذا لن يسرق، قالوا: بل لا بد أن يُبحثَ في وعائه من باب التأكيد على نفي التهمة، لكن ليس عليها دليل فيما أعلم من حيثُ الصحة.
(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ) أي: ما جرى كِدنا ليوسف يعني: أنه تَوَصَّلَ إلى أن يأخذَ أخاه بأمر من الله عز وجل وبتوفيقٍ من الله لأنَّ يوسف ماذا صنع؟ لم يفعل عليه السلام شيئاً مشيناً وإنما فقط وضع ماذا؟ وضع الصُّواع في رَحل أخيه فقط.
ولذلك قال عز وجل: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) إنما هو وضع الصُّواع والسقاية، لكن الله عز وجل هو الذي أنطق إخوة يوسف أن ينطقوا بالحكم الذي هو أن يبقى هذا الأخ عند يوسف.
(كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ) أي: يوسف (لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) لأنَّ حُكم المَلِك في دينه ليس أن يُسترق، لا وإنما كما قال جملة كثير من المفسرين -سواء ثبت عليه دليل أم لا- المهم أن هذا الحكم ليس حكم الملك يعني: من أنه يُغَرَّم القِيمة وما شابه ذلك.
(مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) يعني ما كان ليحصل ذلك إلا بمشيئةٍ من اللهِ عز وجل
(نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) سبحان الله، الكيد الذي يَتوصلُ به الإنسانُ من حيثُ السبل الصحيحة الشرعية المباحة لِيَتَوَصَّل إلى حقِّهِ من دونِ تدليسٍ ومن دونِ أسبابٍ غيرِ شرعية فإنه يُحمد عليه، ولا يَدخل في ذلك قول النبي ﷺ: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) هو نهى عن الخيانة هنا: إذا كان الإنسان سيتوصل إلى حقه بالطرق الشرعية المباحة، من غير ما يكون هناك أسباب محرَّمة فإنه لا بأس بذلك؛ بل به ثناء.
ولذلك ماذا قال؟ يقول ابن القيم عند هذه الآية: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) بسبب ما صنعه يوسف عليه السلا فإنه كما تكون هذه المكيدة الحسنة يرفَعُ اللهُ بها درجات، أيضاً يكونُ العلم يُرفَعُ به الدرجات مثل ما قال تعالى عن إبراهيم: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) يعني: بالعلم (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) كل عالم فوقه من هو أعلمُ منه، حتى ينتهي العلم إلى الله عز وجل.