التفسير المختصر الشامل ( 12 )
تفسير سورة البقرة :
من الآية (135) إلى الآية (145)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْم اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيم الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، وأُصلِّي وأُسلِّم على خاتم الأنبياء وإمام المُرسلين نبيّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين
أمّا بعد :
فقد توقّفْنا عند تفسير قول الله عزّ وجلّ عن اليهود والنصارى :
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا }
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى } :
{ أَوْ } هُنا للتقسيم . يعني قالت اليهود : كونوا هودًا ، وقالت النصارى : كونوا نصارى .
ثُمَّ أمر الله عزّ وجلّ نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يُبيِّن لهم الدِّين الصحيح
{ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } :
أي بل نَتّبِع مِلَّة إبراهيم حنيفًا . والحنيف هو الذي باعدَ وجانبَ الأديان كُلَّها ، يعني الأديان الشِّركيّة ، فالحَنيف هو المائل عن الشرك
{ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } :
فَنَفى عن إبراهيم أن يكون مِن المشركين في أيّ زمن من الأزمان .
ولِذا :
قال عزّ وجلّ :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ }
{ مِن قَبْلُ } أيّام صِغَرِه عليه السلام
ومِن ثَمَّ :
فإنّ على المسلم إذا ناظرَ أَهْلَ الأديان الباطِلة أن يُبيِّن لهم الحقّ ، وألّا يخْنَع قال تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }
ما هِي هذه الكلمة ؟
{ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
وأنتم تكونون غير مسلمين ، يعني بأنّكم كُفّار
-{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } :
{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } :
بَيَّنَ عزّ وجلّ هُنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعَه آمنوا بالله ، وقَدَّمَ الإيمان بالله ؛ لأنّه هو الأَوْلىٰ
{ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } وهو القرآن .
وقدّمَ القرآن ؛ لأنّ القرآن شاهِدٌ لِما في الْكُتُب السابقة ، وأيضًا هو ناسخٌ لِلكتب السابقة قال تعالى :
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ }
-{ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } :
-{ وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } :
وَهِيَ الصُّحُف ، كما بيّن عزّ وجلّ في سورة الأعلى :
{ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }
-{ وَإِسْمَاعِيلَ } : أي ما أُنزِل على ابنه إسماعيل
-{ وَإِسْحَاقَ } : وهو نبيّ وهو ابْنُ إبراهيم عليه السلام
-{ وَيَعْقُوبَ } : وهوَ حفيد لِإبراهيم
-{ وَالْأَسْبَاطِ } :
بعضُ العلماء ظنّ أنّ الأسباط – هُنا – هُـمْ أبناء يعقوب ، وَهُمْ إخوة يوسف ، فقال إنّهم بهذه الآية هُـمْ أنبياء .
والصحيح :
أنّ مَن نَظَرَ إلى الأدلّة وما صنَعَه هؤلاء الأخوة بِيوسف لا يدلّ على أنّهم أنبياء ، وإنّما جعل بعض العلماء يقول إنّ الأسباط – هُنا – هُـمْ أبناء يعقوب وَهُمْ إخوة يوسف ، قال إنّهم أنبياء باعتبار أنّ الله عزّ وجلّ قال مُبيّنًا أنّه أَنزَلَ عزّ وجلّ على الأسباط .
وإنّما الأسباط ، وقد أشار البخاريّ إلى ذلك في صحيحِه إشارةً ، قال : هُم كالقبائل في العرب. ولذلك يَرى شيخ الإسلام رحمه الله أنّهم لَيْسوا بِأنبياء ؛ فما فعلوه بِيوسف عليه السلام ، لا يكون هذا الفِعل مِن قَبيل فِعل الأنبياء .
وإنّما الأسباط هُـمْ في قَوْم موسى ، قال عزّ وجلّ :
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وَمِمَّا يدلّ على أنّهم لَيْسوا بأنبياء مع الْعِلْمِ أنّ لفظة الأسباط قد تُطلَق عليهم باعتِبارٍ آخر ، لَكِن لَيْسوا هُم المعنيِّين في هذه الآية .
وَمِمَّا يدلّ على أنّهم ليْسوا بِأنبياء قَوْل الله عزّ وجلّ :
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ }
وَاللهُ عزّ وجلّ قال :
{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا }
وَلَمْ يَقُل ( وبَنِيه ) فدلّ هذا على أنّ هؤلاء الأسباط لَيْسوا أبناءَ يعقوب ولَيْسوا إخوة يوسف ، وقد فَصَّلتُ في غير هذا الموطن تفصيلًا دقيقًا حَوْلَ عدَم نُبُوّة إخوة يوسف عليه السلام .
{ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } :
وَلَمْ يَقُل ( وما أُنزِل على موسى وعيسى ) مِن باب التنويع في الأسلوب ، ومِن باب أنّ موسى وأنّ عيسى قد أُوتِيا أشياءَ أُخَر عظيمة ، مِن البَيِّنَات والدّلائل غير التوراة على موسى عليه السلام ، والإنجيل على عيسى عليه السلام
فقد أُوتيَ موسى عليه السلام ما أُوتِي مِن فَلْق البحر ومِن تفجير الحَجَر بِعَصاه وما شابَهَ ذلك ، وأُعطيَ عيسى عليه السلام مِن الآيات والدلائل مِن إنّه يُبرِئُ الأكْمَهَ والأبرص وما إلى ذلك ..
{ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } :
{ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } :
هُنا إجمال ، وذلك لأنّ الأنبياء كُثُر :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ }
{ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } :
فدلّ هذا على أنّ لَفْظَة ( التنزيل ) المذكورة في هذه الآيات تدلّ على أنّ الكتب السابقة مُنَزّلة مِن عند الله عزّ وجلّ ولَيْست مخلوقة
{ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } :
كَحالِكُم أنتم أيّها اليهود وَأَنتُم أيّها النصارى . فدلّ هذا على عِظَم مكانة أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } :
وكلمة ( أَحَد ) تُطلَق على الجَمْع كما هُنا ، وتُطلَق على الفَرد كما قال عزّ وجلّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ }
أو ما شابَهَ ذلك في سياق نَفيٍ أو نَهيٍ أو شَرطٍ أو ما شابه ذلك ، فإنّه يجوز .
أو إذا أُضيفت كما في بعض الأحاديث ( إذا جاء أحَدُكم ) أو ( إذا حضر أحدكم ) وما شابه ذلك ، فإنّه يجوز .
أمّا في سياق -كما سيأتي معنا في سورة الإخلاص بإذن الله عزّ وجلّ- في سياق الإثبات فلا يجوز أن تقول لِشَخصٍ ( أنتَ أَحَد ) أو ( هذا أَحَد ) فإنّ مِثل هذا لا يُطلَق إلّا على الله عزّ وجلّ
ويجوز أن يُطلَق أيضًا ( أَحَد ) على جِنس النساء ، قال عزّ وجلّ عن نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قال :
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) }
{ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } :
أي مُخلِصون مُنقادون لله عزّ وجلّ .
فإنّهم في صَدر الآية قالوا آمَنَّا بالله { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } ، ثمّ في خِتام الآية -ممّا يدلّ على عَظيمِ الإيمان بالله عزّ وجلّ مِن أنّهم آمنوا وعَمِلُوا- قالوا { وَنَحْنُ لهُ مُسْلِمُونَ }
وهذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على ما سبق في أوّل السورة مِن أنّهم آمنوا بما أُنزِل في هذا القرآن وبما أُنزِل في الكُتُب السابقة .
قال تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }
بل بَيَّنَ عزّ وجلّ في خِتام هذه السورة مِن أنّهم لمّا قالوا هذا القَول أثبتَ الله عزّ
وجلّ أنّهم صَدَقوا فيما قالوه .
قال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }
وهذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على التَّنْدِيد بِحال أهل الكتاب الذين فَرَّقُوا ، قال عزّ وجلّ :
{ لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (151) }
{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا } :
{ فَإِنْ آمَنُوا } أي هؤلاء أهلُ الكتاب إن آمنوا بِمِثْل ما آمَنتُم بهِ .
وَلَوْ قال قائل :
أليس الإيمانُ إِيمَانًا واحدًا ؟ أَهُناك مَثيلٌ لِلإيمان ؟!
فالجواب عن هذا :
أنّ الإيمان وَاحِد
{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ } أي نَفْس الإيمان الذي آمَنتُم به
ولا حاجةَ إلى ما قَالَه بعضُ المفسِّرين مِن أنّ الباء زائدة ( فإن آمنوا مثل ) أو أنّ كلمة ( مِثْل ) زائدة ( فإن آمنوا بِمَا آمَنتُم بهِ ) فلا حاجة لهذا ، لا سيّما أنّ الزيادة في الكلمات أو في الأسماء قليلة في اللغة العربيّة إن لَمْ تَكُنْ معدومة عند بعض العُلماء ،
وإنّما { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ } أي نَفْس وذات الإيمان الذي آمَنتُم بهِ
والدّليل : قال عزّ وجلّ { أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا }
وقال عزّ وجلّ عن ذلكم الرَّجُل الذي آمَن بِالقرآن :
{ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ }
فدلّ هذا على أنّهم مأمورون بِنَفْسِ وذاتِ الإيمان { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا } هذا هو الهداية .
فإن لم يؤمنوا فَهُم على ضَلال :
{ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا }
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا } أي أعرَضوا { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } في نِزاع وفي مُشاقّة معك
ويُريدون أن يَشُقّوا عليك ، وأن تكون معهم بفعلهم أن تكونَ في ضِيق
{ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } ما صَنَعوه وما فَعَلوه مِن هذه المُشاقّة ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله عزّ وجلّ .
وهذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مُؤيَّدٌ مِن الله عزّ وجلّ ، وكذلك أتباعُه إذا ساروا على ما ساروا عليه فإنّهم مؤيَّدون .
قال تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا }
{وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ }
{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ }
{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } السميع لِكلّ قول ، والعليم بِكلّ شيء . ومِن ذلك ما يقوله هؤلاء ، وما يفعلُه هؤلاء ، فإنّ الله عزّ وجلّ سميعٌ عليم وسيجازيهم على ما قالوه وعلى ما فعلوه
{ صِبْغَةَ اللَّهِ } :
{ صِبْغَةَ اللَّهِ } : نُصِبَت على سبيل الإغراء . يعني الزَموا صِبغةَ الله .
وصِبغةُ الله : فِطرة الله ودِينُ الله .
وسُمِّيَ أو وُصِفَ الدِّين بأنّه صِبْغَة ، باعتِبار الصِّبغ الذي يَظهر على الإنسان . فهذا الدِّين على المسلم أن يُظهِرَه على جوارحه ، وأيضًا أن يستمرَّ عليه ، لأنّ الصِّبغ يكون مُلازِمًا للثوب ، فكذلك أنتُمُ الزَموا صِبغة الله
{ صِبْغَةَ اللَّهِ }
ثُمَّ أتى الاستفهام الذي يدلّ على النَّفي { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً }
الجواب : لا صِبْغَةَ أحْسَن مِن صِبْغَة الله . يعني مِن دِين الله عزّ وجلّ .
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا }
{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ }
{ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } كلمة { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } يعني نَحْنُ عابدون لله عزّ وجلّ وَحدَه { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } يُبَيِّن معنى الصِّبغة ، مِن أنّ تِلْك الصِّبغة مِن أنّها دِينُ الله الذي يَجِب أن يَعبُدَ الإنسانُ رَبَّه عزّ وجلّ
{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ } قُلْ لهؤلاء أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ مِن أنّ لَكُم مَكانة وأنّ لَكُم قُربًا عند الله عزّ وجلّ وأنّ لَكُم مَنزِلة .
ولذلك قالوا في سورة المائدة :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }
{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ } :
لَيْسَ لَكُم حُجّة وليست لَكُم مكانة . لِمَ ؟ { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } هو رَبُّنَا وربُّكم لا نفتَرِق ، هُوَ رَبُّنَا وربُّكم . إنّما الذي يَحصُل التمييز بَيْنَنا وبَيْنَكم الأعمال .
ولذا قال بعدها :
{ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } وَأَنتُم لَو عَمِلتُم ، العِبرة ليسَ بالعمل وإنّما العِبرَة بالعمل الذي يكون لله عزّ وجلّ .
ولذا خَتَمَ الآية { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } ممّا يدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعَه هُــمُ المُخلصون ، وأنّ هؤلاء لَيْسوا على إخلاص . ويؤكّد أيضًا أنّ العمل لا يَكُونُ طيّبًا صَالِحًا إلّا إذا أخلصَ العبدُ في هذا العمل لله عزّ وجلّ
{ أَمْ تَقُولُونَ } { أَمْ } هُنا مُنقَطِعة ، بِمَعْنَىٰ ( بَل ) وتَتضمّن الاستفهام الإنكاريّ
{ أَمْ تَقُولُونَ } أي : بَلْ أتَقولون { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى } ؟
ولذلك في أوّل الآيات فيما مضى ومرّ معنا { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ }
هل كُنتُم شهداء لمّا حضر يعقوبَ الموتُ ( أسباب الموت ) حَتَّىٰ قُلتم هذا القَول الذي معنا في هذه الآية { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } الجواب : لا ، لَمْ تكونوا ؛ لأنّ يعقوب عليه السلام كان قَبلَكم
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى } :
كلُّ طائفة تَزْعُم : فالنصرانيّة تَزْعُم واليهوديّة تَزْعُم هذا الزَّعم . وهذا يؤكّد أنّ هؤلاء مع أنّهم فارقوا دِينَ الله عزّ وجلّ ، أيضًا هُم زَكَّوْا أنفسَهم وأثْنَوا على أَنْفُسِهِمْ
{ قُلْ أَأَنتُمْ } : قُلْ لِهؤلاء يامحمّد { أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } لا جواب ، لَمْ يُذْكَر الجواب ؛ لأنّ الجواب معروف ، الله هو الأعلم ،
ولَعَلّ هذه الآية ، ولَعَلَّها مُستَنَد الإمام الشافعيّ رحمه الله لمّا قال في حقّ القَدَريّة الذين أنكَروا عِلْمَ الله وقالوا : إنّ الله لا يَعلم بالشيء إلّا بَعْد وقوعه . إذ قال رحمه الله قال : ناظِروا القَدَريّة بالعِلْم ، فإن أقَرُّوا به خُصِموا ، وإن أنكَروهُ كَفَروا .
فلعلّ هذه الآية دليل لِما قاله رحمه الله
{ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ }
الجواب : لا أحد أظلَم
{ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ }
مَن يكتُم الشهادة التي بَيْن المخلوقين على إثمٍ عظيم ، فـكـيـفَ إذا كَتَم شهادةَ الله .
قال تعالى – كما سيأتي في آخر هذه السورة في حقّ شهادة المخلوقين –
{ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ }
فكَيف بِشهادةٍ ائْتَمَنَكُم الله عزّ وجلّ عليها ؟
{ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ } أي كائنة عنده مِن الله . لِمَ ؟
لِأنّكم أَهْلُ عِلم . قال عزّ وجلّ :
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ }
لَكِنّكم أنتم لَمْ تكونوا أَهْلَ عِلمٍ وخالَفتم هذه الشهادة وضَيَّعتم هذه الشهادة
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } : يعني هذا العمل وهذا الصَّنيع منكم ، لا تَظنّوا أنّه سيذهب سُدى ، وأنّكم لن تُحاسَبوا ، بل الله عزّ وجلّ مُطَّلِعٌ على كلّ ما تقولون وعلى كلّ ما تعملون .
وفي هذا ، في خِتام هذه الآية تَهديدٌ لِهؤلاء لعلَّهم أن يَنْزَجِروا .
{ تِلْكَ أُمَّةٌ } أي ما ذَكَرتُموه عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط { تِلْكَ أُمَّةٌ } جماعة خَلَت مَضَت سَيُحاسِبُها الله عزّ وجلّ .
وكُرِّرَ هُنا مرّةً أخرى . وقد مَرّتْ هذه الآية مِن باب التأكيد على أنّ هؤلاء الشُّـرَفاء إذا كانوا سَيُحاسَبون على أعمالهم ، فما ظَنّكم بِأنتم الذين أَعرَضتم عن دين الله عزّ وجلّ
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي مَضَت { لَهَا مَا كَسَبَتْ } مِن الأعمال { وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ } { وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فَلَهُم عملُهم ولَكُم عملُكم
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } : هُنا لمّا كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أوّل ما حَضَرَ إلى المدينة تَوَجَّه إلى بَيت المَقدِس وهي قِبلةُ اليهود
( ستّةَ عشرَ أو سبعةَ عشرَ شهرًا )
ثُمَّ أَمَرَهُ الله عزّ وجلّ بِأن يَتَحَوَّل إلى الكعبة
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } :
{ السُّفَهَاءُ } : يشمل المنافقين واليهود وكفّار قريش الذين قالوا إنّ محمّدًا يتردّد ، مرّةً يَتَوَجَّه إلى بَيت المَقدِس ، ومرّةً يَتَوَجَّه إلى الكعبة .
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ } أي ما الذي وَلّاهم { عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } أي كانوا عليها وهي بَيت المَقدِس
{ قُل لِّلَّهِ } قُلْ – يامحمّد – لِهؤلاء { لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } جميع الجهات مُلْك لله عزّ وجلّ ، وَأَنتُم مُلْكٌ لله ، يُوَجِّهُكُم متى ما شاء ، وحيثما شاء وأراد
{ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } لَكِنْ مَن يؤمن بِهذا ومَن يوفَّق لهذا إلّا مَن وَفَّقَه الله عزّ وجلّ
{ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فالهداية بيد الله عزّ وجلّ ولِمَن شاء الله عزّ وجلّ أن يَهدِيَه . وفي هذا ردٌّ على القَدَرِيّة الذين يقولون إنّ العبد يَخْلُق الطاعة بِنَفسِه .
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }
{ وَكَذَلِكَ } يعود إلى أمْرٍ سابق ، الأظْهَر مِن أقوال المفسِّرين ، لأنّه يعود إلى أقرب مذكور
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ } يعني كما أنّنا هَدَيناكم إلى القِبلة ، كَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
{ أُمَّةً وَسَطًا } جماعةً وَسَطًا .
( الوَسَط ) العُدول الخِيار كما قال عزّ وجلّ { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } الأوسَط هُنا يعني الخِيار العَدل .
وفي هذا ثناءٌ مِن الله عزّ وجلّ لِهذه الأُمّة ( أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم )
وإذا كانت هذه الأمّة عَدلًا خِيارًا ، إِذًا ما أجمَعوا عليه يَكُونُ حُكْمًا شرعيًّا ثابِتًا ، وهذا مِن أدلّة الإجماع ( إجماع الأُمّة مِن مصادِر التشريع الإسلاميّ ) الدّليل هذه الآية .
لأنّهم إذا كانوا عُدولًا خِيارًا فَـمـا أجمَعوا عليه يكون هُدًى ولا يَكُونُ ضَلالًا ولذلك :
النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : ( لا تَجْتَمِعُ أُمَّتي على ضَلالَة )
{ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } لِمَ ؟
{ لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } يومَ القيامة .
ولِذلك :
كما جاءت بِذلك الأحاديث : يأتي نوح عليه السلام مع قَوْمِه ، فيقول الله عزّ وجلّ لِقَومه : هل أتاكم مِن نَّذِير ؟ قالوا : لا ، ما أَتَانَا مِن نَذِير .
فَيُقال لِنوح : مَن يَشهدُ لك ؟ قال : يشهدُ لي أُمَّة مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم . فَتقوم هذه الأُمّة وتَشهد له . فيُقال : كيف عَلِمتُم ؟ قالوا : أتانا رسولٌ وأنزَلَ الله علينا كِتابًا ، وذَكَرَ أنّ نوحًا أتى إلى قَوْمِه وأنذَرَهم .
{ لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } :
{ الرَّسُولُ } المقصود هُنا : الرسول المعهود وهو محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أُرْسِلَ إليهم
{ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } :
يعني يومَ القيامة يَشهد بأنّه بَلَّغَكم الرِّسالة ، ويَشْهد لَكُم بَالتَّزكية ويُثني عليكم عليه الصلاة والسلام
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا } :
وهي بَيت المَقدِس ثُمَّ تحوّلْتَ إلى الكعبة
{ إِلَّا لِنَعْلَمَ } هذا التَّحويل لِحِكمةٍ يريدها الله عزّ وجلّ { إِلَّا لِنَعْلَمَ } الله عزّ وجلّ عالِمٌ بكلّ شيء ، عالِمٌ بِالشيء قَبل أن يكون ، عالِمٌ بكلّ شيء ، وَلَكِنْ لِتَعلَمْ أنّ مِثْل هذه الآية كما قال عزّ وجلّ :
{ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } يعلمُه قَبْلَ أن تصنعوه .
فَمِثلُ هذه الآية عِلمٌ يَترتَّب عليه جزاء وحساب مِنه عزّ وجلّ لِإقامة الحُجّة على هؤلاء وإلّا فهو عالِمٌ بِكُلّ شيء
{ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } عِلْم ماذا ؟ عِلْم يَترتَّب عليه جزاء وحساب وإلّا فهو عالِمٌ بكلّ شيء قَبْلَ هذا الشيء
{ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } هذا يدلّ على ماذا ؟ يدلّ على وجوب اتّباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنّ في اتّباعه واتّباع سُنَّتِه صلّى الله عليه وآله وسلّم يَحْصُل بها الْهُدَى ، وتَحصُل بها محبّةُ الله لِلعَبد
قال تعالى في سورة آل عِمْران :
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
{ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } أي مِمَّن يَرجِع على عَقِبَيه ويُخالِف .
وتأمّل { مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } :
مَن يَرجِع إلى الوراء لا يُؤتَمَن عليه مِن السقوط وهو يمشي على قَدَمَيه . فكيف إذا رجعَ على عَقِبَيه ، فإنّه هالِكٌ ومُصيبُهُ الضرَر
{ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } :
وفي هذا التحذير مِن الوقوع في الـبِــدَعِ ، لأنّ الْـبِـدَع ليست مِن شَرْع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وليست مِن وسائل اتّباعه صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } :
{ وَإِن } ( إِنْ ) هُنا نافية ، وعلامة ( إِنْ ) النافية أن يَأْتِيَ بعدها الاستثناء
{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } :
{ وَإِن كَانَتْ } أي التحويل مِن بَيت المَقدِس إلى الكعبة { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي لَعظيمة وثقيلة { إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } أي مَن وَفَّقَه الله عزّ وجلّ وعَلِمَ أنّ لله عزّ وجلّ مُلْك الجِهات وله أن يُوَجِّهَ عباده إلى أيّ جهة كان ، لَكِنّ هؤلاء مِن اليهود والمنافقين والمشركين عَظُمَ عليهم الأمْر ، وذلك لِخُلُوِّ قلوبهم مِن الإيمان
ولعلّ هذه الآية تَتَوافق مع ما – مِن حيث السِّياق – مع ما حَثّ به عزّ وجلّ لِهؤلاء اليهود مِن إقامة الصلاة ، لأنّه عزّ وجلّ كما مَرّ :
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) }
فكما أنّ الصلاة كبيرةٌ وعظيمةٌ عليكم أنتم ، لأنّكم لَستُم بِأهْلِ خشوع أنتم أيّها اليهود ، فكذلك الشأن في تحويل هذه القِبلة
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } :
هُناك مَن مات مِن الصحابة رضي الله عنهم لمّا كانت الصلاة يَتَوَجَّه المسلمون فيها إلى بَيت المَقدِس ، فسأل الصحابةُ رضي الله عنهم النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن صلاةِ مَن مات وأيضًا عن صلاتهم السابقة التي فعلوها باتّجاه بَيت المَقدِس .
فأنزل الله عزّ وجلّ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } :
{ إِيمَانَكُمْ } هُنا يعني الصلاة . وسُمِّيت الصلاة بِالإيمان مِن باب الردّ على المُرجِئة الذين يقولون ( إنّ العمل ليس مِن الإيمان )
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وأيضًا وُصِفَت الصلاة بأنّها إيمان مِن باب بَيان أنّ الصلاة تزيد الإيمان .
ولذلك لو دخل فيها الإنسان بخشوع زادَته بإذن الله عزّ وجلّ إِيمَانًا غير الإيمان الذي دخل به .
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }
{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } هو رؤوف بالناس ورؤوف بِكُم أيّها المؤمنون فيما فعلتم مِن صلاةٍ سابقة
{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } اسمان مِن أسمائه عزّ وجلّ .
( الرؤوف والرّحيم ) الرؤوف يتضمّن صفة الرأفة ، والرّحيم صفة الرحمة
قال العلماء : والرأفة أخَصّ مِن الرحمة .
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } هذه الآية هي أسبَق مِن الآيات السابقة ، لأنّه لَمّا وَجَّهَهُ عزّ وجلّ إلى الكعبة . ما السبب ؟
السبب أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يَطمح ويُؤَمِّل أن يُوَجَّه إلى الكعبة لأنّها قِبلة إبراهيم عليه السلام .
فقال الله عزّ وجلّ :
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } وهذا أسلوب يأتي في القرآن .
قد يكون السبب مُؤَخَّرًا مِن باب أنّ القارئ يقول : ما سبب هذه الآية ؟ ما الذي أتى بها ؟ { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } فيكون الذِّهنُ حاضِرًا .
كما مَرَّ معنا :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً }
قد يقول قائل : ما السبب في ذبح هذه البقرة ؟
ما بَعدَها :
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } :
أنتَ – يا محمّد – { قَدْ نَرَى } { قَدْ } هُنا ، للتحقيق ، فهو عزّ وجلّ يَراه ، وليست هنا لِلتقليل أو لِلتقريب . لا ، { قَدْ } هُنا لِلتحقيق .
كَقوله عزّ وجلّ :
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ }
يعني عِلْمُه عزّ وجلّ مُحيطٌ بِهؤلاء
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ }: التَّقَلُّب يكون بِالعيْنَيْن ، لَكِنَّه ذَكَرَ الوَجْه ، لأنّ الوجه شريف ، وبَيان أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مُتَوَجِّهًا إلى ربِّه عزّ وجلّ مِن أجْل أن يُوَجَّه إلى الكعبة ، ثُمَّ هو صلّى الله عليه وآله وسلّم لَمْ يطلب مِن الله عزّ وجلّ ذلك ، وإنّما مِن باب الفِعل
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } وهذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على أنّ للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مَنزلةً ومكانةً عند ربِّه عزّ وجلّ وليس كما زَعَمتُم أيّها اليهود مِن أنّ لَكُم مكانة ، ولذلك وَجَّهَه عزّ وجلّ إلى ما يُحِبُّه مِن هذه القِبلة وهي الكعبة
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } لَمْ يَقُل ( تَهواها )، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّما أراد أن يَتَوَجَّه إلى الكعبة مِن أجْل أنّها قِبلةُ إبراهيم عليه السلام
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ } : يعني نحو { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } هذا لِــمَـنْ كان بعيدًا عنها ، ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثَبَتَ عنه ( ما بَينَ المَشرقِ والمَغربِ قِبلة )
لكن مَن كان قريبًا مِن الكعبة فإنّه يتعيّن عليه أن يُصيب عَيْنَها ، أمّا إذا كان بعيدًا فإنّه يُصيبُ جِهَتَها
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } :
أتى بِصيغة الجَمع ، لِجميع الأمّة ، مِن باب أنّ الأُمّة يَشمَلُها هذا الحُكم
{ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي جِهة المسجد الحرام
{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } هؤلاء { لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } يَعرفون في التوراة وفي الإنجيل أنّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم سَيَتَوَجّه إلى بيت المَقدِس ثُمَّ يَتَوَجَّه بِأمرٍ مِن الله عزّ وجلّ إلى الكعبة
{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } مُحيطٌ بِعَمَلِهم ، فهؤلاء كَتَموا الحقّ وعانَدوا الحقّ الذي عَرَفوه وبُيِّنَ لَهُم في كُتُبِهم
ثُمَّ قال عزّ وجلّ : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } هذا فيه قَطْعٌ لِطمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ هؤلاء يَتّبعونه ؛ وذلك لِما في قلوبهم مِن الزَّيغ والضَّلال والكُفر
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ } علامة واضِحة على صِدقِك { مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } { وَمَا أَنتَ } تزكِيَة لِلنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } لأنّهم أَهْلُ ضَلال وطُغيان وكُفر
{ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } لا اليهود تَتَّبِع قِبلة النصارى ، ولا العكس ؛ وذلك لأنّهم مِن حيث الأصل كَفَّرَ بعضُهم بعضًا كما مَرَّ معنا { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ }
وَهُمْ يَأتَلِفون إذا كان العَدُوّ بالنسبة إليهم هو الإسلام ، لكنّهم فيما بينهم في خِصام وشِجار . وَلَكِنْ إذا كان العَدُوّ بالنسبة إليهم هو الإسلام اجتَمَعوا .
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }
{ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } ما هُم عليه هوى ليس بِحَقّ وإنّما هو { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } ومَرَّ معَنا أنّ مِثْل هذا الخِطاب لِلنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المقصود غَيرُه ، وذلك بِاعتِبار أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان يُخاطَب بهذا الخِطاب وحاشاه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يَتَّبِع هؤلاء . إِذًا غَيرُه لَو اتَّبَعَهم مِن بابِ أَوْلى
▪{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ }
دلّ هذا على أنّ ما لَدَيك هو الْعِلْمِ ، وما لَدَيْهِمْ هو الجَهل .
ولِذلك مَن قَدَّمَ هَواهُ على الْعِلْمِ الذي معه فَفِيه شَبَهٌ بِمَن ؟ بِهؤلاء اليهود
▪{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } فما معك هو الْعِلْم الذي هو شَرَف . وهذه الآية تَختلف عن الآية السابقة وهي :
▪وَهُــنــا بـِ { مَا } المَوصُوليّة : { مِّن بَعْدِ مَا }
▪ والقِبلة جُزءٌ مِن دِينهم ، فقال هُنا { مِّن بَعْدِ } مِن باب : أنّ هذا جُزءٌ مِن دينهم { مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ }
فَلعلّ هذا هو الفرق بين هذه الآية وبين تلك الآية
▪ { إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }
{ إِنَّكَ إِذًا } يعني إنِ اتَّبَعْتَ هؤلاء { لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } إِذًا اتّباع هؤلاء ظُلْم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ