التفسير المختصر الشامل الدرس (13) تفسير سورة البقرة من الآية (146 ) إلى الآية (185)

التفسير المختصر الشامل الدرس (13) تفسير سورة البقرة من الآية (146 ) إلى الآية (185)

مشاهدات: 483

التفسير المختصر الشامل ( 13 )

تفسير سورة البقرة :

من الآية (146) إلى الآية (158)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } :

يعرفون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويعرفون صِفَته ، لَكِنْ المُوفّق مَنْ وفّقه الله

 

{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }:

 وهل يَجْهل الإنسان ابنه ؟

لا ؛ لأنّه يراه . وصرّح أو خصّ الأبناء هُنا ، باعتِبار أنّهم دائمًا مع الآباء دُونَ البنات ، وَلَمْ يَقُل كما يَعرِفون أنفُسَهم ؛ وذلك لأنّ الإنسان قد يجهل نفسه في بعض الأحيان ، لكنّ الابن أمامه دائمًا

 

{ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } :

ولذلك عبدالله بن سلام يقول : لمّا أتى إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عرَفتُه مِن حِين ما رأيتُه . لَكِنَّ الموفّق مَن وفّقه الله

 

ولذلك قال بعدها  :

{ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ }

ما هو الحقّ الذي كَتَموه ؟

صِــفَـــةُ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنّه نبيٌّ

 

{ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } :

يعلمون صِفته ، ويعلمون مغبّة مَن أنكرَ وكتمَ ما جاء به الله عزّ وجلّ

 

{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } :

{ الْحَقُّ } : خبر لِمُبتدأ محذوف ( هذا الحقّ ) أو فاعل ( جاءك الحقّ )

{ مِن رَّبِّكَ }  فما أنتَ عليه حقّ ، وَمِمَّن ؟ { مِن رَّبِّكَ }

 

{ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } :

أي مِـنَ الشاكّين . أي مِن الشاكّين . وَلَمْ يَقُل فلا تَمْتَري ؛ لكي يشمل أنّ هذا نوع مِن نوع أهل الشكّ { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } هو لم يمتري صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وَلَمْ يَشُّكّ .

 

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } :

{ وَلِكُلٍّ } :

أي لِــــكُـــلِّ أهــلِ مِـلَّـة { وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } وَتِلْك الوِجهة كما قال عزّ وجلّ  :

{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ  }

وكما سيأتي في قوله عزّ وجلّ :

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا  وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

 

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } :

أي سيتوجّه إليها ، لكنّ العِبرة ، والشيء الذي يُـرضـي الله عزّ وجلّ

{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ }:

هذا هو المُتعيِّن على أهل المِلَل ( فَلِكلٍّ وجهة ) سيتوجّه إليها

{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ }

 

{ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } :

 { أَيْنَ مَا } :

{ أَيْنَ } اسم شرط { تَكُونُوا } فِعلُها ، حُذِفَ حرف النُّون ؛ لأنّه مِن الأفعال الخمسة { يَأْتِ بِكُمُ }  الجواب { يَأْتِ } لَمْ يأتِ [ بالياء ] لأنّه مجزوم باعتِبار أنّه جواب الشرط

 

{ أَيْنَ مَا تَكُونُوا } : أي أنتم وأصحاب هؤلاء المِلَل يأتي بكم الله جميعًا للحِساب والجَزاء

 

{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } :

قديرٌ عزّ وجلّ على كلّ شيء ، ومِن ذلك أن يجمعكم ، وَلَوْ افْتَرقْتم في البلدان ، وما شابه ذلك مِن هذا التَّفَرُّق ، فإنّ الله عزّ وجلّ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

 

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } :

كُرِّرَت هذه الآية ثلاث مرّات

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }

 

فالأولى :

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

يعني إذا كُنتَ في مكّة .

 

ثُمَّ قال بعدها :

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ  وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

إذا كُنتَ في البلدان الأخرى خارج مكّة

 

والثالثة :

إذا خرجتَ لِسفر ، يعني خارج البُلدان . وهذا أولى وأظهر مِن قَوْل مَن يقول : أنّ الأولى إذا كُنتَ عند الكعبة ، والثانية إذا كُنتَ في مكّة بعيدًا عن الكعبة ، والثالثة إذا كُنتَ في سفر

 

وأولى مِن قَوْل مَن يقول : أتَتْ هذه الآيات الثلاث مِن باب التأكيد ، وذلك لأنّ أوّل ما نُسِخَ في الإسلام كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما أَمْــر القِبلة ، فجاء التأكيد .

 

لكنّ الْقَوْل الأوّل هو الأظهر

 

 

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } : أي في أيّ بلدٍ

 

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } :

لا تظنّ أن ما ارتضيتَه يا محمّد أنّه ليس بحقّ ، بل ما كُنتَ تصنعه

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

فأنتَ ترضاها ، وما ترضاه فهو الحقّ :

{ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } لِكمالِ عِلْمِه وإحاطته عزّ وجلّ

 

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ }: أي لِسَفر [ كما رجَّحنا ]

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ }: يعني حَتَّىٰ في السفر تتوجّه للكعبة

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } خِطاب لجميع الأُمّة { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }

 

 لِمَ أُمِرتم بالتوجّه للكعبة ؟

 

{ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ }:

ما يكون لهؤلاء الناس حُـجَّــة وسلطان عليكم ؛ لأنّ اليهود سيقولون لو بقيتم على اتّجاه بيت المَقدِس ، سيقولون إنّ في كُتُبنا أنّه سيتوجّه إلى الكعبة ، وكفّار قريش ، لو بقيتم على بيت المَقدِس لقالوا كيف يزعم مِن أنّه على مِلَّة إبراهيم ، وينصرف عن قِبلة إبراهيم

 

{ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } :

{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا } :

أهل عِناد ، فهؤلاء ليس لك عليهم سبيل ، والآية تفرّع المفسِّرون فيها في تفسير { إِلَّا } وما شابه ذلك . لكنّ هذا التفسير هو الأوضح والأيسر ، والذي يدلّ عليه سِياق الآيات

 

{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ } :

لَوْ قالوا ما قالوا مِن الكلام ، وهذا يدلّ على أنّ المسلم وصاحب السنّة وصاحب الخير لا يلتفت إلى ما يُقال عنه مِن التشكيك في الدِّين أو مِن أنّه يُنْبَذ بالألقاب { فَلَا تَخْشَوْهُمْ }

 

ثُمَّ قال :{ وَاخْشَوْنِي } يعني الخشية إنّما تكون لله عزّ وجلّ ؛ لأنّ مَن خَشِي الله فَهُوَ العالِم :

{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }

 

{ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي } :

هذا أمر آخر ، أُمِرتم بالتوجّه إلى الكعبة { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } فَنِعم الله تامّة عليكم . ومِن ذلك أنّه وجّهكم إلى الكعبة

 

{ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } :

أي هذا التوجُّه هِداية لكم ، لكي تهتدوا . هذا يدلّ على ماذا ؟

يدلّ على أنّ العمل الصالح وفعل الخير الذي أمر الله به عزّ وجلّ هداية للإنسان .

وقال :{ لَعَلَّكُمْ } ومرّ بِنَا هذا مِرارًا ، يقول { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } مِن باب الرّجاء ، يعني إن فعلتم ذلك سيتحقّق لكم ذلك ، لَكِنْ كونوا على رجاء مِن الله عزّ وجلّ ولا تغترّوا بأفعالكم ولا بِعبادتكم ولا بِعملكم

 

{ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } :

نعم ، هداهم الله عزّ وجلّ ؛ لأنّ هؤلاء افْتَرقوا في أمر القَبلة ، ومع ذلك هدى الله عزّ وجلّ هذه الأمّة إلى الكعبة ، كما هداهم إلى يوم الجمعة ، كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأحاديث الصحيحة مِن أنّ الله عزّ وجلّ أضلّ مَن كان قبلكم عن هذا اليوم ، وهداكم الله عزّ وجلّ إِلَيْهِ

 

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا } :

{ كَمَا } لها مَرجعِيّة { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا } بعضهم قال الذي بعدها

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا }  فهذه نعمة { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } لكنّ الأظهر أنّ { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ } مُتعلِّق بِما قَبْلَه ، يعني كما أتمَمْنا عليكم نعمتَنا بإرسال هذا الرسول أتمَمنا نعمتَنا عليكم بالتوجّه إلى الكعبة . فهناك مِنّة ونعمة مِن الله عزّ وجلّ سابقة قبْل التوجُّه إلى الكعبة . ما هي ؟

 

أنّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم أُرسل فيكم { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ }

{ فِيكِمْ } مِن باب ماذا ؟ مِن باب أنّ هذا مِن النِّعَم :

{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }

 

 { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } :

وَلَمْ يَقُل ( إِلَىٰ )

 

كما في قوله تعالى { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ } لَمْ يَقُل ( فِيكم ) { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } لأنّ هذه الآية في سِياق التهديد والوعيد إِذا لَمْ يستجيبوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

أمّا هُنا مِن باب تِعداد النِّعَم :

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا }

أي يقرأ عليكم آيَاتِنَا

{ وَيُزَكِّيكُمْ } أي يطهّركم بما أنزل الله عزّ وجلّ عليكم مِن هذه الآيات التي تُتلى عليكم

{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } :

{ الْكِتَابَ } القرآن { الْحِكْمَةَ } السنّة ، إذا اجتمعا ، كما مرّ بِنَا مُفصّلًا في قوله عزّ وجلّ :

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

 

وَلَكِنْ لَوْ قال قائل :

لماذا اختلف السِّياق هُنا . قال هُنا ذاكَرًا التلاوة ثُمَّ التزكية ثُمَّ تعليم الْكِتَاب والحِكمة . هُناك  :

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ }

لأنّ بِداية الشيء مِن حيث الأصل القراءة ثُمَّ التعلُّم { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ثُمَّ التزكية ، باعتبار أنّ الدّاعي مَن ؟ إبراهيم عليه السلام قبل أن يوجد مَن ؟ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .

 

أمّا هُنا وُجِد وبُعِث فيهم . فهُنا دلّ على فضل أتباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم . وفضل الصحابة رضي الله عنهم . فإنّه بِمُجرّد ما تَلا عليهم الآيات تَزَكّوا . أصبحوا في زكاة

 

ولعلّ قول بعض الصحابة رضي الله عنهم كما ثبت قالوا  ( تَعلّمنا الإيمان قبل الْعِلْمِ ) ( تَعلّمنا الإيمان قبل الْعِلْمِ ) يعني هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لمّا سمعوا القرآن والسنّة مِن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، صار في قلوبهم الإيمان ، وهو ما يكون مِن تعظيم الله عزّ وجلّ وتوحيده . وإذا عَظُمَ الإيمان والتوحيد في القلب ازداد الإنسانُ عِلْمًا ثُمَّ عَمَلًا .

ولعلّ هذا السِّياق في هذه الآية يدلّ على ما ذكروه رضي الله عنهم

 

{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } :

بعدها { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } أتى بالفعل مرّة أخرى

{ وَيُعَلِّمُكُم } حَتَّىٰ لا يُظنّ أنّ هذا التعليم راجِع إلى تعليم الكتاب والحكمة ، لا . لأنّ تعليم الكتاب والحكمة أمر آخر { وَيُعَلِّمُكُم } هذه فضيلة أخرى

{ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }

 

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } :

هذه النِّعَم تَستَوجِب منكم أن تذكروا الله { وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } وأن تشكروا الله { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ }

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ولذلك يبيّن هذا ما جاء في الحديث القُدسيّ مِن أنّ الله عزّ وجلّ قال ( مَن ذكَرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومَن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير مِن ملَئِه { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } والجزاء مِن جِنس العمل  { وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } الشكر لا يكون إلّا لله عزّ وجلّ . وَلـَمَّا أَمَـرَ بالشكر نهى عن نقيض الشكر . ما نقيض الشكر ؟ الكُفر

{ وَلَا تَكْفُرُونِ }

 

ويدخل في هذه الآية كما قال بعض العلماء أيضًا الكفر الأكبر .

فَنُهِيَ المسلم عن كُفر النِّعمة وعن الكُفر بالله عزّ وجلّ :

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ }

{ اشْكُرُوا لِي }:

يجب أن يكون الشكر خالِصًا لله عزّ وجلّ . ويجوز أن يُشكر المَخلوق ، لَكِنْ يُشكر شكرًا نِسبيًّا .

ولذلك :

قال عزّ وجلّ :

{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }

يعني اشكر أيضًا لوالديك ، لكنّه شكر نسبيّ ، لكنّ الشكر المُطلق الكامل الذي يستحقّه هو الله عزّ وجلّ .

ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يبت عنه ( مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله )

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ }:

أُمِر هُنا المؤمن بأن يستعين بالصبر وبالصلاة فإنّه لمّا ذَكَرَ الشكر

{ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } لأنّ النعم السابقة نعم عظيمة تستوجب الشكر لله عزّ وجلّ

 

ومِن ثَمَّ فإنّ الإنسان إمّا أن يكون في نعمة فواجبٌ عليه أن يشكر ، وإمَّا أن يكون في  محنة فواجبٌ عليه أن يصبر .

 ولذا :

ذَكَرَ الصبر { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا } على تحمّل المشاق والمتاعب والآلام في هذه الدنيا ، وأيضًا على تحمّل ما أُمرتم به مِن العبادات استعينوا بالصبر وبالصلاة عليها :

{ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

 

وَهُــنــا فيه تسلية وفيه حثٌّ لِــمَـنْ وقعَ فما لا يُلائمه أو وقعت به مصيبة أن يستحضر مِن أنّ الله عزّ وجلّ يعينه وهو معه ، وهذه مَنقبة للصابرين . فَــمَـــنْ وقع في كربة أو في ألم ، عليه أن يُطفِئ حرارة ذلكم الألم بالصبر ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ معه .

ومَن كان الله معه فَلَن يحزن { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

ومعيّة الله عزّ وجلّ نوعان :

 

إمّا معيّة عامّة :

لجميع الخَلْق ، يحيط بهم ويعلم بهم ويدبّر أمورَهم قال تعالى :

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

 

وهُناك معيّة خاصّة :

بأهل الخير وبأهل الإيمان كَحال هؤلاء الصابرين يؤيِّدهم وينصرهم ويوفّقهم ويثبّتهم { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

وهذه الآية تختلف عن الآية السابقة ، لأنّ تِلك الآية السابقة في سِياق اليهود { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ }

 

لَكِنْ هُنا قال :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

 في سِياق مَن ؟

في سِياق بَيان النِّعَم التي على أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وصحابته رضي الله عنهم مِن أصبَر الناس ، ولذلك قال بعدها

{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

 

{ وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } :

لمّا كان أعظم المصائب الموت ، لأنّ الموت مُصِيبَة قال تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ  تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ }

فالموت مُصِيبَة

 

وَلـَمَّا كان الموت مِن أعظم المصائب ذكره هُنا

{ وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } :

{ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }:

أي في الجِهاد لإعلاء كلمة الله ، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ( مَن قاتل لِتَكُونَ كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله .

 

{ وَلَا تَقُولُوا }:

نُهِيَ هؤلاء المؤمنون عن قَوْل هذا الْقَوْل :

{ وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ } يعني هُم أموات

{ بَلْ أَحْيَاءٌ } يعني بَلْ هُم أحياء ، حياتهم لا نعرف كيفيّتها . وَلَكِنْ جاء في الأحاديث مِن أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ( أرواح الشهداء في أجواف طير ، تسرح في الجنّة ) لأنّ أرواحهم لمّا افْتَقَدت الأجساد عوّضهم الله عزّ وجلّ بِحَواصل مِن الطَّير .

 

كما أنّ المؤمن الذي لَمْ يُقتل شهيدًا روحه كما ثبتَ بذلك الأحاديث ( نَسمة المؤمن في طير ، – الشهداء في حَواصِل طيْر- في طير تأكل مِن الجنّة ) لَكِنْ كيفيّة ذلك الله أَعْلَمُ به .

ولذلك ماذا قال بعدها { وَلَكِن  تَشْعُرُونَ } بِحقيقة حياة هؤلاء الشهداء

 

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ } : ولَنَخْتَبِرَنَّكم بِشيء ، ليس الكلّ ، وإنّما بشيء . فالمصيبة ما نزلت على المسلم لِتُهلِكَه وإنّما نزلت لِتَمتَحِنَ صَبرَه . لَكِنْ هُنا قال { بِشَيْءٍ } لأنّه لو أرادَ الإهلاك لكانَ كما قال عزّ وجلّ عن تلك القرية { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }

 

هُنا { وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ } خَوْف يَنْتابُكم ، خوف على أمْنِكم ، خوف على أرزاقكم ، خوف على أولادكم وما شابه ذلك ، لكنّه قليل

{ وَالْجُوعِ } بِشيء مِن الجوع الذي يحصلُ لكم

{ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ } ابتلاء واختِبار أن تنقص الأموال بحيث ينقص مِن رأس مال التجارة أو تنقص الأرباح أو تكون الأموال هِيَ هِيَ وَلَكِنْ تقلّ قيمتها الشرائيّة . هذا ابتلاء وامتحان مِن الله عزّ وجلّ .

وليس هناك شدّة دائمة ولا عسر دائم ، لا { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }

{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا }

 

{ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ } :

نقص بالأنفس مِن حيث مَوْتِ بعض الأقرباء ، مِن حيث المرض . كلّ ذلك مُقدَّر ومكتوب . فَــمَـــنْ صَبَر فله الأجر ، ومَن جزَع فاته الأجر وحلّ عليه العقاب .

 

ولذلك قال تعالى :

{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }

بِمَا أنّها كُتِبَت :

{ لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }

 

{ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ }:

تنقُص الثمرات . نقصان الثمرات أن تأتي عليها جائحة أو آفة سماويّة مِن جَرادٍ أو مطر وما شابه ذلك . أو أنّ الأشجار لا تُثمِر كما تُثمِر في السابق

 

{ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }:

{ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ } والبِشارة سُمِّيت بهذا الاسم ؛ لأنّ الإنسان إذا بُشِّر بخير تظهر الآثار على بَشرته { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } لمّا ذكر الابتلاء قال

{ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } وأعظَم هذه مِن بِشارة ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ بشّر هؤلاء الصابرين مَن هُم ؟

 

{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } :

قال مصيبةٌ هُنا ، صرّح بها ؛ لَتَعُمّ أي مُصِيبَة ، ليست مُصِيبَة الموت فقط ، لا . أُصيب الإنسان في مالِه في أولاده ، في شيء مِن جسده ( عام )

{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } قَولهم ؟ هل قولهم ياويلاه ويا ثبوراه وما شابه ذلك ؟ لا

 

{ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ }:

أي نَحْنُ مُلْك لله يتصرّف فينا بما يشاء وكيفما يشاء . فنحنُ مُلك لله عزّ وجلّ . نَحْنُ وما نملكه لله عزّ وجلّ . وهذا يجعل الإنسان في راحة

{ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فالمصير والمرجع لله عزّ وجلّ .

لأنّ ما ذهب منّا لن يكون معنا في يوم القيامة :

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }

 الثواب ؟

 

{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } :

  { أُولَئِكَ } أشار  إليهم  بإشارة البُعد ، لأنّ مِثْل هذه لا يُوفِّق إليها إلّا مَن وفّقه الله عزّ وجلّ كما قال تعالى :

{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }

ولذلك :

قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في الصحيحين :

( الصبر عند الصدمة الأولى ) عند حرارة الألم هذا هو الصبر المُعتَبر والذي يُثاب صاحبه .

وإلّا بعد أيّام فَإنَّك كما قال السلف ( إن صبرتَ وإلّا سَلَوت كما تسلوا البهائم )

 

{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } :

الثواب صلوات ، لَمْ يَقُل صلاة { صَلَوَاتٌ } و( الصلاة ) الأصحّ والأظهر أنّها ثناءٌ مِن الله عزّ وجلّ

{ صَلَوَاتٌ } ممّن ؟ { مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ }

 

{ صَلَوَاتٌ } ثناء { وَرَحْمَةٌ } ورحمة الله عزّ وجلّ مِن آثارِهَا أنّه يحصل لكَ الخير ويندفع عنك الشرّ مع تلك الصلوات التي هي ثناؤه عزّ وجلّ عليكَ في الملأ الأعلى . فالصلاة بمعنى الثناء . وهذا أصحّ مِن قَوْل مَن يقول : أنّ الصلاة هي الرحمة . لأنّ الرحمة ذُكِرَت ، فدلّ على العَطف ، مِن أنّ هذه تُغاير ، يعني الصلاة تُغاير الرحمة

 

{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } :

هُدُوا إلى أن يصبروا حَتَّىٰ ينالوا هذا الثواب ، وهُدُوا إلى الإيمان ، لأنّ مَن صَبَرَ زادَ إيمانُه . ولذلك في الآية التي قبلها :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } صدّرها بِنِداء أهل الإيمان ، لأنّ مَن يصبِر هُـمْ أهل الإيمان ، ومَن يصبر يزيده هذا الصبر إِيمَانًا

 

{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } :

قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كما عند البخاريّ قال ( نِعْمَ العِدلان وَنِعْمَ العِلاوة ) نِعْمَ العِدلان : يعني الثواب . ما هُـمـا ؟

 

عند هذه الآية قال ( نِعْمَ العِدلان وَنِعْمَ العِلاوة ) نِعْمَ العِدلان : الثواب

{ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } وزادهم ، وهي العِلاوة { وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }

 

{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ } :

ذكر الصفا والمروة هُنا لَعَلَّه مِن باب أنّ الحديث لمّا كان عن التوجُّه إلى الكعبة التي في المسجد الحرام كان هُناك أمرٌ قد التبسَ وهو ما يتعلَّق بالطَّواف بينَ الصفا والمروة ، وذلك لأنّ الصحابة رضي الله عنهم لمّا أَتَوا إلى مكّة لِكَي يطوفوا بَيْن الصفا والمروة تحرّجوا ؛ لأنّه كان الصفا صنم وعلى المروة صنم ، وكانوا يطوفون لهما ، فتحرّجوا مِن ذلك . فقال الله عزّ وجلّ { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } وهما جَبلان { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ } مِن أعلام دِين الله عزّ وجلّ ، وليسَت مِن شِعار الكُفر .

فَكَونُكم تَتَحرّجون مِن الطواف بَيْن الصفا أو السَّعي بين الصفا والمروة مِن أجل أنّها شعائر للكفّار فقال الله عزّ وجلّ :{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ } أي فلا إثمَ عليه { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ودلّ هذا على أنّ السعيَ بَيْن الصفا والمروة يُطلق عليه طواف { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ودلّ هذا على وجوب السَّعي . وهل هو رُكن أم أنّه واجِب يُجبَر بِدَم ، أم أنّه سنّة .

 

خِلافٌ بَيْن أهل الْعِلْمِ .

 

والصواب :

أنّه رمنٌ مِن أركان الحجّ ، لقول عائشة رضي الله عنها قالت ( فما أتمّ الله حجّ مَن لَمْ يَطف بَيْنَهما ) وقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه ( إنّ الله كَتَبَ عليكم السَّعيَ فاسعَوا )

 

 { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } :

ولذلك :

عُروة رضي الله عنه لمّا قال لعائشة رضي الله عنها وهي خالته . قال لها : إِذًا لا إثمَ على مَن تَرَكَها . فقالت رضي الله عنها : بِئْسَ ما فَهِمتَ . لو كان كما زَعَمتَ مَن لَمْ يَطف بينهما ، مِن أنّه لا إثمَ عليه إذا تركَ ذلك في حجّ أو عُمرة لقالَ ( فلا جُنَاح عليه ألّا يطوّف بِهِمَا )

{ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } :

 { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } :

أي أيّ خيرٍ ، خير في سِياق الشرط  فتعمّ أيّ خير ، وليس المقصود كما ذهب إلى ذلك مَن ذهبَ مِن أنّه يُتطوّع بين الصفا والمروة بالطواف . لا ، مَن أرادَ أن يَتَطوّع طوافًا فَحولَ الكعبة .

أمّا الصفا والمروة . فلا . إلّا إذا كان في حجّ أو عُمْرَة فيكون مِن ضِمْن أركان الحجّ والعمرة .

 

لَكِنْ يَتَطوّع الإنسان سَعيًا بين الصفا والمروة . فَـلَـيْـسَ في هذا دليلٌ على ما ذَهَبوا إِلَيْهِ ؛ لأنّه قال : { وَمَن تَطَوَّعَ } وَلَمْ يَقُل ( فَـمَنْ تطوّع ) ولذلك كما سيأتي في آيات الصِّيام :

{ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ فَمَن تَطَوَّعَ } ذَكَرَ ( الفاء ) { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } يعني مَن تطوّع وزادَ في الإطعام خَيْرٌ له .

لكن هُنا قال :

{ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } قال { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } لَمْ يَذْكُرْ ثوابَه . فدلّ هذا على أنّ ذِكْر اسم الله عزّ وجلّ بعدَ الحُكْم يدلّ على أنّ الحُكْم مُترتِّب على أسمائه عزّ وجلّ .

 

يدلّ هذا على أنّ ثواب العمل الصالح قد لا يُذْكَر ، وإنّما يدلّ عليه اسم مِن أسمائه عزّ وجلّ . ولذلك ماذا قال ؟ { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } الجواب ؟ ذَكَرَ اسمَين { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } فَمِنْ أسمائه : شَاكِر و عليم { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

ومِن شُكر الله عزّ وجلّ مِن أنّه يُثيب العَبْدَ الأجرَ الكبيرَ على الـعـمـلِ القليلِ . ولذلك ثبتَ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : لنّ رجلًا أزاحَ غُصْنَ شوْكٍ مِن الطريق فَشكَر الله عزّ وجلّ له . وفي رواية : فأدخله الجنّة  { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

فَهُوَ شَاكِرٌ عزّ وجلّ ، بِمَعْنَىٰ أنّه عزّ وجلّ يُثيب على العمل القليل يُثيب عبده على ذلك بأجورٍ عظيمة

{ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } عالِمٌ ومُطّلعٌ ما يعمله العِباد ويُثيبهم عزّ وجلّ .

 

 

 

.