التفسير المختصر الشامل ( 15 )
تفسير سورة البقرة :
من الآية ( 172) إلى الآية ( 182)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } نادى المؤمنين { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } وَلَمْ يَقُل هُنا حلالًا باعتِبار أنّ المؤمن لا يُـقـدِم إلّا على ماكان حلالًا بِخِلاف غيره { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ممّا رزقكم الله عزّ وجلّ .
وهذا إن دلّ يدلّ على أنّ المسلم لا يجوزُ له أن يُحرِّم ما أباح الله عزّ وجلّ لهُ ، وكذلك لا يجوز له أن يمتَنِع عن الحلال تعبُّدًا .
لو ترك الإنسان الطَّيِّبَات مِن أجل حِميَة مُحافظةً على صحَّته مِن غير أن يكون هُناك ضررٌ عليه أو ما شابهَ ذلك مِن الأسباب التي يحتاج إليها ، فلا جُنَاح عليه في ذلك .
لَكِنْ أن يمتنِعَ كَحالِ بعض الصوفيّة يمتنعون عن الطعام وعن الحلال تعبّدًا لله ، فهذا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله مِن البِدَع .
ولذلك قال عزّ وجلّ كما في سورة المائدة
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }
{ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } اشكروا : أمرهم بالشكر ، وذلك لأنّ هذه النِّعَم تستوجب الشُّكرَ لله عزّ وجلّ
{ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } فمَن كان عابدًا لله عزّ وجلّ حقّ العِبادة فإنّه يشكر الله عزّ وجلّ .
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا }
لأنّ الشكر عملٌ صالحٌ ، وهو يُقرِّب إلى الله ويدلّ على أنّ العَبْدَ مُمتَثِلٌ لأمر الله ولشرع الله عزّ وجلّ .
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } لمّا ذكر أنّ الطَّيِّبَات أُحِلَّت لهم بيّن أنّ المحرّم أشياء معدودات ذُكِرَت في هذه الآية ، وذَكَرَت السنّة بعض الأشياء التي حُرِّمت على هذه الأُمّة . كحديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
( نهى عن كلّ ذي نابٍ مِن السِّباع ) وبعض الحيوانات التي بيّنها صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } التي ماتَت حَتْفَ أنْفِها وَلَمْ تُذَكَّى الذَّكاة الشرعيّة بِقَطْع الحُلقوم والمَريء والوَدْجَيْن – ماتت بِأيّ وسيلة ، بِخَنقٍ أو بِرَميٍ أو بِصَعقٍ أو ما شابه ذلك .
والمَيتة هُنا يُستثنى منها مَيتة البحر ، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في الـسُّنَن كما ثبتَ عنه ( الطَّهور ماؤه الحِلّ مَيْتَته ) وكذلك أحلّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الجَراد ، كما صحّ بذلك الحديثُ عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا وله حُكم الرفع ( أُحِلَّت لنا مَيْتَتان وَدَمان ) فَذَكَرَ المَيْتَتين وهما ( الحُوت والجَراد )
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ } :
الدَّم : والمقصود مِن الدّم ، الدَّم المسفوح وهو الذي يَخرُجُ مِن الحُلقوم والمَريء عند ذبْح الحَيوان المأكول .
ولذلك قال عزّ وجلّ { قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } فَقَيّد هُنا
لَكِنْ الدَّم الذي يبقى في عروق المُذكَّاة فإنّه حلال ، ولا يُعلَمُ خِلاف بَيْنَ أهْل العِلم في جَوازِه . فهو جائز باتّفاق . كما نَقَلَ شيخ الإسلام رحمه الله
أُحِلَّ مِن الدَّم ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ( أُحِلَّت لنا مَيْتَتان وَدَمان ) فَأَمَّا الدَّمان ( فالكَبد والطِّحال )
{ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } حُرِّم لحم الخنزير . والتنصيص على لحم الخنزير ، لا يعني أنّ ما سِواه مِن أعضائه أنّه يجوز ، بل لأنّ الغالب مِن أنّ الناس يقصدون اللحم ، و لعلّ التنصيص على اللحم أيضًا لِكَي يشمل لحم الخنزير الذي ذُكِّي والذي لَمْ يُذكَّى ، ويدخل في ذلك الشحم . لأنّ بعض العلماء يرى أنّ الشحم داخل في مسمّى اللحم .
وعلى كلّ حال فالخنزير كلّه بجميع أعضائه محرّم
{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أي ما رُفِعَ الصَّوْتُ به لغير الله ، لأنّهم كانوا قديمًا إذا ذَبَحوا لأصنامهم يَرْفَعُون أصواتَهم بأسْماءِ أصنامِهم . فهذا هُوَ معنى الإهلال : وهو رَفْعُ الصَّوت . فأُطْلِق بعد ذلك على مَن ذَكَرَ اسمًا غَيْرَ اسمِ الله عزّ وجلّ على الذَّبيحة وَلَوْ لَمْ يَرفعْ صَوتَه
{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ } أي ألْجَأتْه الضرورة ، بأن يخشى على نفسه مِن الهَلاكِ إن لَمْ يأكل مِن المَيْتَة
{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } قَيّد { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } أي غير باغٍ للمُحرّم . بِمَعْنَىٰ أنّ نفسَه لَمْ تَطْمَحْ إِلَيْهِ { وَلَا عَادٍ } يعني مُتجاوِز الأَكْل ، بِحَيث يأكل أكثر مِن الضرورة
{ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } فلا جُنَاح عليه في حالة الضرورة بهذين الشرطَين .
بعض العلماء يقول { غَيْرَ بَاغٍ } أي غير باغٍ على الحاكم { وَلَا عَادٍ } أي مُعتَدٍ – في سَفَره – على الناس بِقَطعِ طريق أو أنّه مُعتدٍ بِفِعْل المعصية .
ولذلك قالوا إنّ المُسافر إذا سافر سَفَر مَعصيةٍ فإنّه لا يجوز له أن يَستَبيح رُخص السَّفر مِن القَصر ومِن الإفطار حال الصيام وما شابه ذلك .
هذا بِناءً على أنّ كلمة ( غير باغٍ ) و ( عادٍ ) راجعة إلى فِعْل المحرّم
( غير باغٍ ) يعني على الإمام و ( عادٍ ) يعني غير عاصٍ بِسَفَرِه .
والصَّحيح :
أنّه إذا سافر سَفَر مَعْصِيَة ، الصحيح مِن قولي العلماء أنّه له أن يترخّص بِرُخص السفر لِعموم قوله عزّ وجلّ :
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا }
{ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } جملة تُفيد التعليل . لمَ ؟ لأنّ الله { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . فهو عزّ وجلّ له هذان الاسمان
( الغفور والرَّحيم )
وذلك لأنّ ذكر اسم الله عزّ وجلّ ( الغفور ) يقتضي أنّه يغفر ويتجاوز عمّن أكلَ مِن هذا المُحَرَّم لأنّه لا يستطيع أن يضبطَ القَدْر الذي يسدّ رَمَقَه . فالله عزّ وجلّ يتجاوز عنه
و ( رحيم ) إذ أنّه عزّ وجلّ أباح لهم حال الضرورة أن يأكلوا مِن المَيْتَة رحمةً بهم
{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا }
هذه الآية تختلف عن الآية السابقة .
الآية السابقة في حقّ مَن كَتَم العِلم مِن غيرِ أن يَأْخُذَ عليه عِوَضًا مِن الدُّنيا
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }
هُنا كُتِمَ الـعِـلْــمُ والحـقّ مِن أجل أن يحصل الإنسان على غـرضٍ مِن أغـراض الـدُّنـيـا { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } وصرّحَ هُنا بالكِتاب
هُناك في الآية السابقة { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ }
لعلّ هذه الآية ذُكِرَ فيها اسم الْكِتَاب ظَاهِرًا لأنّ هذا هو حال مَن كَتَم العِلم وبدّله وغيّره مِن أجل الدُّنيا
كما مرّ معنا في نفس السورة :
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ .. }
صرّح بالكتاب { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ }
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } بصيغة الفعل المضارع ، ممّا يدلّ على أنّهم مستمرّون على كِتمان العِلم
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } هذا شامل ، ليس محصورًا في حال أهل الكتاب ، بل هو شامل حَتَّىٰ لعُلماء هذه الأُمّة .
فَــمَـــنْ صنعَ كَصَنيع هؤلاء ( أهل الكتاب ) فَفِيه شَبَهٌ بِهم ، وَلَوْ كان مِن هذه الأُمّة
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ }
{ بِهِ } بهذا الكِتمان ، ويشترون أيضًا بشرع الله عزّ وجلّ
{ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } أي عِوَضًا من هذه الدنيا .
والدنيا كلُّها ثمنٌ قليل . كما قال بعض المفسِّرين : بل إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه قال ( إنّ الله عزّ وجلّ خلَق هذه الدنيا قليلًا وَلَمْ يَبْقَ منها إلّا القليل )
{ أُولَئِكَ } الحُكْم عليهم ؟ { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ } صرّح بالبطون ؛ لأنّها محلّ الأكل .
فَـتلك الأموال وذلك الثمن يكون نارًا يَغْلِي في بُطونِهم
قال عزّ وجلّ في شأن مَن أكل الحرام ولا سيّما أموال اليتامى
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }
{ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } نفى أن يُكلّمَهُم الله عزّ وجلّ تَكْلِيم تشريف ، وإلّا فَهُوَ يُكَلّمُهم عزّ وجلّ كلامًا يَسُوؤهم
قال عزّ وجلّ لِأَهْل النار { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ }
{ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ } لا يُطَهِّرُهُم ؛ لأنّهم ما أخذوا بأسباب التزكية .
قال عزّ وجلّ { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10) }
{ وَلَا يُزَكِّيهِمْ } أي لا يُطَهِّرُهُم . وأعظم ما يَتَزكّى به الإنسان هو توحيد الله عزّ وجلّ .
فكيف يكون لهؤلاء زَكاة وطُهُر وهم يَكْتُمُون الذي به تكون التزكية وهو شرع الله عزّ وجلّ . كما قال عزّ وجلّ { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ }
فإذا كتموا هذا العِلم فكيف تكون لهم تزكية ؟!
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم ، ووصف العذاب هُنا بأنّه مؤلم لأنّهم كانوا يتلذّذون بهذه المطاعم وبهذه المشارب على حِساب الدِّين . فكانوا يتلذّذون بها ، فعاقبهم الله عزّ وجلّ بهذا العذاب الأليم المؤلم الذي يُذهِبُ كلّ لذّةٍ مرّت بهم . بل إنّهم لا يجدون لها لذّة .
ولذلك في صحيح مسلم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم ( يؤتى بالرجل مِن أهل النار يوم القيامة فَيُصبَغ في النار صَبغةً [ أي يُغمس في النار غمسة ] فيقال له : يا فلان هل رأيت خيرًا قط ، هل مرّ بك نَعيمٌ قط ؟ فيقول : لا يا ربِّ )
هذه غمسة ، فكيف بِمَن كان فيها أَبَد الآباد ؟!
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا } { اشْتَرَوُا } ومَن يشتري ، يشتري عن رغبة أو لا ؟ يشتري عن رغبة .
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ } السِّلعة التي اشتروها عن رغبة ( الضَّلَالَةَ ) الثَّمن ( الهُدى ) لأنّ الباء دخلت على الهُدى .
فَـ ( الباء ) إذا دخلت على الشيء في سِياق الشِّراء أو الاشتِراء ( في سِياق الاشتِراء يدلّ على أَنَّهُ هو الثّمن
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ } اشتَروا العذاب والثَّمن
{ بِالْمَغْفِرَةِ }
{ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ }
( مَــا ) :
– قيل استفهاميّة ، يعني : أيّ شيء صَبَّرَهُم على النار حَتَّىٰ يُقدِموا على ما أقْدَموا عليه .
– أَوْ تكون تَعجّبيَّة : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } !
أي تعجَّبوا مِن حالهم . كيف صنعوا هذا الصَّنيع !
– أَوْ : وهو ظَاهِر السِّياق { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } أيّ يتعجّب الله عزّ وجلّ مِن حالهم .
وفي هذا دليل على إثبات صِفة ( العَجَب ) لله عزّ وجلّ بِمَا يليق بجلاله وبعظمته كما دلّت على ذلك النُّصوص الشرعيّة
ومنها قوله عزّ وجلّ { بَلْ عَجِبْتُ } على هذه القراءة السّبعيّة { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ } ولكنّه عَجَب يليق بِجلالِه وبعظمته { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } !
{ ذَلِكَ } أي هذا العذاب الذي نزل بهم
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ } { بِأَنَّ اللَّهَ } الباء سبَبَيّة
{ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } فالكتاب نزّله عزّ وجلّ بِالْحَقِّ ، وفي هذا الكتاب الحقّ ، واشتمل على الحقّ { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }
وَمِمَّا في هذا الكتاب مِن الحقّ أن مَن صنعَ هذا الصَّنيع فإنّ هذا العذاب عذابُه
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ }
{ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ } يَشمَل اختلاف اليهود في التوراة ، ويشمَل اختِلاف هذه الأُمّة في القرآن
إذ قال بَعْضُهُمْ : سِحْر ، وقيل : هذا شِعْر .. ممّا قالوه
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ } أي في مُشاقّة معك – يا محمّد – وهم بعيدون عن الحقّ . ولذلك وصف الشِّقاق بِأنّه { بَعِيدٍ }
{ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } فلا ترجو مِن هؤلاء خيرًا .
وفي هذا تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ }
{ لَّيْسَ الْبِرَّ } { الْبِرَّ } منصوب
{ لَّيْسَ الْبِرَّ }
{ الْبِرَّ } خبر ليسَ مُقَدّم واسمها { أَن تُوَلُّوا }
{ لَّيْسَ الْبِرَّ } { الْبِرَّ } هُوَ اسمٌ جامِعٌ لِخِصال الخير
{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } أن توجِّهوا وجوهكم { قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } ردّ على أولئك الذين أنكروا مِن أنّ الله عزّ وجلّ نَسَخَ التَّوجُّهَ للصلاة مِن بَيْتِ المَقدِس إلى الكعبة .
فيقول : ليس هذا هو البِرّ .
وجَّهكم الله تِجاه المَشْرِق ، تِجاه المَغرِب إلى أيّ جِهة . ليس هذا هو البِرّ . وإن كان أَمرُه عزّ وجلّ بالتَّوَجُّه مِن بيت المَقدِس إلى الكعبة بِرّ ولا شكّ في ذلك .
لكنّ البِرّ الحقيقيّ { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ } { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ }
البِرّ يعني ( ذَا البِرّ ) أو بمعنى ( البارّ )
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ } بمعنى البارّ . بمعنى اسم الفاعل .
وهذا يَرِد في القرآن { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ } { غَوْرًا } أي غائرًا . وهذا هو الأظهر
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } ثمّ ذَكَرَ ..
قال العُلماء : ذَكَرَ الله عزّ وجلّ هُنا ستَّ عشْرةَ قَاعِدَة . كلّ قاعدة لَوْ تُحُدِّثَ عنها لكانت في كِتَابٍ مُستقلٍّ
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } بِوُجودِه وبِتفرُّده بالرُّبوبيّة وبالألوهيّة وبالأسماء والصفات .
{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهو يوم القيامة ، سُمِّيَ بهذا الاسم لأنّه لا يوم بعده ، ويدخل في اليوم الآخر مِن حِين الموت ، ما بَعْدَ الموت يدخل
كما قال عزّ وجلّ كما سيأتي مَعَنا { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ }
{ وَفِي الْآخِرَةِ } أي في القَبْر
والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه قال ( الــقَــبْــرُ أوّلُ مَنزِلٍ مِن مَنازِل الآخرة )
* { وَالْمَلَائِكَةِ } أي وآمَنَ بالملائكة على وَجْه التفصيل والإجمال
* ما عَرَفْنا مِنهم مِن أسماء وما أَوْكلَ الله عزّ وجلّ لَهُم مِن أعمال ( نؤمن بذلك )
ما لَمْ نَــعْــلَــمُ ( نؤمن به على وَجْه الإجمال ) نؤمن بِجبريل وبِإسرافيل وَبِميكائيل وغير هؤلاء ممّا ذَكَرَهُ عزّ وجلّ .
ونؤمن بِوُجودهم ، وما ذَكره الله عزّ وجلّ عن هؤلاء الملائكة وذكره النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في سُنّته .
* { وَالْكِتَابِ } الْكِتَاب : بمعنى الجمع ، يعني ( وَالْكُتُب ). جميع الكُتب نؤمن بِها ، على وَجْه الإجمال وعلى وَجْه التفصيل . ما ذُكِرَ لنا كالتوراة والإنجيل والزّبور نؤمن بذلك
* { وَالنَّبِيِّينَ } جميع النَّبِيِّين الذين ذَكرهم الله عزّ وجلّ على وَجْه التفصيل وعلى وَجْه الإجمال
{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ }
{ عَلَى حُبِّهِ } الضمير يعود إلى المال أو يعود إلى الله ؟
هل هُوَ أعطى المال { عَلَى حُبِّهِ } يعني على حُبّ هذا المال . ولذلك أتَتْ كلمة { عَلَى } مِن باب أنّ حُـــبّ المال تمكّنَ مِن قلبِه ، ولا شكّ أنّ المال محبوبٌ
قال عزّ وجلّ { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } { الْخَيْرِ } هُنا هو المال
{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } كما قال عزّ وجلّ { لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
ويدخل فيه أيضًا : أنّه أنفقَ المال لأنّه يُحِبّ الله عزّ وجلّ
والقولُ في هذه الآية كالقول في قوله تعالى في سورة الإنسان { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا }
{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } يعني أعطى المالَ لِــمَـنْ ؟
* { ذَوِي الْقُرْبَى } أي قرابة الإنسان
* { وَالْيَتَامَى } مَن مات أبوه وَلَمْ يَبْلُغ
* { وَالْمَسَاكِينَ } أي الفقراء
* { وَابْنَ السَّبِيلِ } أي المسافر
* { وَالسَّائِلِينَ } لأنّ مَن يسأل مظنّة أنّه مُحتاج
* { وَفِي الرِّقَابِ } أي وفي فكّ الرِّقاب
{ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ } بشروطها وبأركانها وبواجباتها
{ وَآتَى الزَّكَاةَ } يعني الواجبة ؛ لأنّ ما قبله { وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ } التطوّع ( صدقة التطوّع )
{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا }
{ وَالْمُوفُونَ } معطوفة على قوله { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ }
قال { وَالْمُوفُونَ } وغيّر بينهما ، لَمْ يَقُل ( ومَن أوفى ) كَقوله { مَنْ آمَنَ } مِن باب تنوّع الأسلوب ، وكذلك لأنّ قوله { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } حقّ لله عزّ وجلّ .
وَهُــنــا { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } حقّ للمخلوق ،
وقوله :{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } قيّده بالظرف { إِذَا عَاهَدُوا } يدلّ على أنّ هؤلاء مِن حين ما يُعاهِدون يُوَفُّون بالنذر ، وفيه أيضًا دليل على أنّ الإنسان لا يُـقـدِم على العَهد إلّا إذا كان عالِمًا مِن نفسِه بأنّه سَيُوَفِّيه { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ }
{ وَالصَّابِرِينَ } نَصبَها لَمْ تُرفع { وَالصَّابِرِينَ } بِناءً على المَدح ، يعني ( أمْدَح الصابرين )
وهذا إن دلّ يدلّ على أنّ تلك الأعمال الفاضلة يُحتاج فيها إلى الصبر
قال عزّ وجلّ { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }
* { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } في البؤس في الضيق في الْفَقْر
* { وَالضَّرَّاءِ } في المَرض وزوال الخير
* { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي حين القِتال
هؤلاء ما ثوابهم ؟
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا }
{ صَدَقُوا } لأنّ مِثْل هذه الأعمال تدلّ على صِدق الإنسان مع رَبّه
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } فجمعوا بين الصِّدق وبين تقوى الله عزّ وجلّ .
وهذا يدلّ على ماذا ؟
يدلّ على أنّ هؤلاء خضعت قلوبهم لله عزّ وجلّ ، وأنّ جوارحهم اتّقت الله عزّ وجلّ بفِعْلِ أوامِره واجتناب نواهيه
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }
ذَكَرَ هُنا { الْقِصَاصُ } وذلك لأنّ تطبيق حُكم الشرع في الأرض يدلّ على أنّ ذلك مِن البِرّ ومِن الصِّدق مع الله عزّ وجلّ
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ } أي فُرِض عليكم { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني في قَتْل القتلى
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ } { الْحُرُّ } يُقْتَل { بِالْحُرِّ } ولا يُقْتَل الحُرّ بالعبد كما دلّ على ذلك الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع خِلاف بين أهل العِلم في هذه المسألة
{ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } العبدُ يُقتل بالعبد
{ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى } يعني أنّ الأُنثى تُقتل بالأُنثى ، وكذلك بيّنت السنّة أنّ الرجل لو قَتَل الأُنثى أنّه يُقْتَل بها
{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } أي مَن عُفِيَ لهذا القاتل { مِنْ أَخِيهِ } أي مِن دَم أخيه { شَيْءٌ } مِن دَم أخيه . دلّ هذا على أن كلمة { أَخِيهِ } تدلّ على الاستعطاف . يعني أنّه مازال أَخًا لك ، وَلَوْ قَتَل قريبك أو قَتَل ابنك ، فإنّه مازال في دائرة الإيمان
وهذا فيه دليلٌ وبُرهانٌ صريحٌ في الردّ على الخوارج الذين يقولون إنّ صاحب الكبيرة خالِد مُخلَّد في نار جهنّم وأنّه مِن الـكُــفّـــار . فكيف ؟
والقَتْل مِن أعظم ما يَكُونُ مِن الذُّنوب ، ومع ذلك سمّى الله عزّ وجلّ القاتِل أخًا للمَقتول
{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } كلمة ( شَيْء ) تدلّ على أنّ أيّ شخص مِن الوَرَثة عفا عَـن القِصاص فإنّ القِصاص يسقُط ، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الجميع . لَوْ رَضِيَ شخصٌ واحدٌ فإنّ القِصاص يَسقُط . ثُمَّ تأتي بعد ذلك الدِّيَة
{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يعني أنتَ ياوَلِيّ المقتول اتّبع هذا القاتِل لِأخْذ الدِّيَة بالمعروف بِمَا تُعورِفَ عليه مِن غير ضَرَر بالقاتِل
{ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } أنتَ أيّها القاتِل تؤدّي ما عليك بإحسان . ولذلك قال في شأن أولياء المقتول { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } بكلمة ( المعروف ) وفي شأن القاتِل { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } فكما أحسنوا إليك وأسْقَطوا عنك القِصاص فأحْسِن إليهم بِدَفعِ الدِّيَة مِن غير مُماطلة
{ ذَلِكَ } أي الحُكْم السَّابِق { تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } خَفَّفَ عليكم ، ورحمةٌ بِكُم .
وهذا يدلّ على أنّ ما شرعَه الله عزّ وجلّ رحمة بِالخَلق ، وذلك لأنّ اليهود كما جاء في صحيح البخاريّ مِن أنّ اليهود في دينِهم ما كان في شأن القِصاص ماكان عندهم إلّا القتل ، ولا يجوزُ لهم أن يأخذوا الدِّيَة .
فخفّفَ الله عزّ وجلّ عن هذه الأُمّة
{ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } يعني بعد الرِّضا بالدِّيَة { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } يعني أَقْدَمَ شخصٌ مِن أولياء المقتول بعد أن أخذوا الدِّيَة فقَتَلَ القاتِل { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } شديد في الآخرة . بل قال بعض العلماء { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بمعنى أنّ الحاكم يَقتُلُهُ مِن غير أن ينظرَ إلى رضا أولياءِ هذا المقتول ، دون إن ينظر إِلَيْهِ .
ودلّ على هذا حديث ، لَوْ صحّ لكان فَيْصلًا
وهو حديثٌ عند أبي دَاوُدَ ، لكنّه ضعيف . وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ( لا أُعفي مِن القَتْل بعدَ أخذِ الدِّيَة )
إِذًا { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة . عذاب مؤلِم .
وأيضًا على رأي بعضِ العلماء مِن أنّه لَوْ أقدمَ فإنّه يُقتَل دون أن يُنْظرَ إلى رِضا أولياءِ المقتول .
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } هذا القِصاص قد يُظنّ في ظاهره كما يَذكُرُ مَن يذكر ممّن تأثّرَ بالغَرب مِن أنّ هذا فيه وَحْشِيّة .
لا ، بَلْ إنّ القِصاص حُكمُه حياةٌ { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }
هذه الآية كما قال العُلماء أعظم مِن قَولِ الْعَرَب قديمًا ( القَتْل أنفى للقَتْل ) يعني يقولون قديمًا ( القَتْل أنفى للقَتْل ) يعني : إذا قُتِلَ القاتِل فإنّ القَتْلَ ينتفي . هذه أعــظــم
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } كيف ؟
لأنّ مَن أرادَ أن يَقدُمَ على القَتْل ، فَعَلِمَ أنّه سَيُقتَل . هُنا لن يُـقـدِم على القتْل وسَيَسْتَبْقِي حياةَ مَن أراد قتلَه ويستبقي حياتَه أيضًا هوَ
إذن فَهُوَ حياة لِــمَـنْ أراد القتل ، وحياة لِــمَـنْ أُريد به القَتْل
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } يا أصحاب العقول .
لأنّ خِطاب الله عزّ وجلّ لأصحاب العقول { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ }
{ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فهذا القِصاص بهِ تَحْصُلُ لَكُم التقوى ، وأيضًا تُتّقى المَحارِم ، فلا يعتدي أحدٌ على أحد .
لكنّه إذا لَمْ يُطبَّق القِصاص هُنا يكثرُ الموت وتَنْتَفي الحياة
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي فُرِضَ عليكم { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي أسباب الموت ، لأنّه إذا عاينَ الموت فإنّ وصيّتَه لا تُـقْـبَــل كما ثبتَ في الصّحيحين ( ولا تُمِلْ حَتَّى إذا بَلَغَت الحُلقوم قُلتَ لِفلان كذا ولِفلان كذا ) لا ، وإنّما الوصيّة تَنْفَع في حال الحياة أو عِنْدَ الموت عِنْدَ حُضورِ أسبابِه . لَكِنْ لَوْ أنّ الرُّوح بَلَغَت الحُلقوم هُنا أيّ قَوْل مِمّن حَضَره الموت فإنّه لا يُقبَل ولا يُعتدّ بهِ
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا } يعني إن تركَ مالًا ، وسُمِّيَ المالُ خيرًا باعتِبار تَصْرِيف الإنسان لهُ ، إذا صَرَّفه الإنسان فيما يُـرضـي الله عزّ وجلّ وأنفَقَهُ على نفسِه وعلى أهلهِ فإنّه يَكُونُ خيرًا بهذا الاعتِبار
ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه عند أحمد ( نِعْمَ المالُ الصَّالِح لِلْمَرْءِ الصَّالِح )
{ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ } يعني فُرِضَت عليه الوصيّة وكُتِبتْ عليه { إِن تَرَكَ خَيْرًا } يعني مالًا
{ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } قال بعض العُلماء هذه الآية مَنْسوخَة بآيات المَواريث لأنّه ذَكَرَ هُنا أنّ الوصيّة مفروضةٌ على الإنسان لِوالِدَيه . والوالدان يَرِثان بآيات المَواريث . فيقولون هذه منسوخة ، وذلك لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ( إنّ اللهَ قد أعطى كلّ ذي حَقٍّ حقّه فلا وَصِيّةَ لِوارِث ) والصحيح أنّها لَيْسَت مَنْسوخة وإنّما الوصيّةُ يُؤمَرُ بها الإنسان لِوالِدَيه اللذين لا يَرِثان ، كَأَن يكونا رَقِيقَيْن أو أن يكونا كافِرَين
{ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } { بِالْمَعْرُوفِ } دون أن تكونَ هُناك زِيادة على الثُّلُث ؛ لأنّ الوصيّة لا تكون إلّا مِن الثُّلُث فأقلّ
{ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } فَــمَـــنْ يقوم بهذا الأمر هُـمْ أصحاب التقوى .
{ فَمَن بَدَّلَهُ } أي مَن غيّره { فَمَن بَدَّلَهُ } الضمير هُنا مُذكَّر والأمر راجع إلى الوصيّة . كان مِن ظَاهِر السِّياق ( فَمَنْ بَدَّلَها )
{ فَمَن بَدَّلَهُ } الضمير ذُكِّرَ باعتِبار الإيصاء ، فمَن بدّل الإيصاء أَوْ مَن بدّل قَوْل المُوصي
{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } هذا يؤكِّد ما سَبَقَ مِن أنّه أمّا الإيصاء أو قوْل الموصي
{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } ولَــيـْـس على الموصي شيء ، وذلك لأنّ الموصي قد يوصي بشيء واجبٍ عليه ، قد يوصي بِدَّين ، فإنّ مَن غَيّره مِن الوَرَثة ( وهذا واجبٌ للغَيْر ) فلا يَتَحمّل هذا الميّت الذي أوصى ، لا يتحمّل وِزْرَه ، وإنّما يتحمّله مَن بدّله
{ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } { سَمِيعٌ } لكلّ قَوْل { عَلِيمٌ } وأحاطَ عِلمهُ بكلّ شيء . ومِن ذلك يسمع عزّ وجلّ ما نطقَ به هذا الموصي ، ويعلم عزّ وجلّ حالَ مَن بدّل هذه الوصيّة
{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا }
{ خَافَ مِن مُّوصٍ } يعني مَن كان عِنْدَ مُوصٍ وخافَ مِنه أن يُوصِيَ بِوَصِيّة فيها جَنَف أو إثم
{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا } أي أخطأ ، لَمْ يتعمّد { أَوْ إِثْمًا } يعني تعمّد . فَسَمِعَه ، فَعَليْهِ أن يوصِيَه أن يَعدِلَ في وصيّته .
أو مَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أو إثمًا { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } يعني بعد الموت أصلحَ بَيْنَ المُوصَى له وبَيْنَ الوَرَثَة ، لأنّ هذا التعديلَ تعديلٌ و تبديلٌ لِحقّ وبِحقّ { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } لِمَ ؟
لأنّ هذا التبديل ليس تبديلًا لحقّ ، وإنّما هو تبديل لكي تكون هذه الوصيّةُ على وِفْق الشرع
{ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } غفور ورحيم ، رحيمٌ بِعِباده ، إذ شرعَ لهم الوصيّة ، وغفور عزّ وجلّ فيمَن أخطأ في وصِيّته مِن غير عَمْد ، أو أنّه تعمّدَ ثُمَّ رجعَ بعد أن ذَكَرَ أو ذُكِّرَ . فإنّ الله عزّ وجلّ غفور رحيم