التفسير المختصر الشامل ( 28 )
تفسير سورة البقرة :
من الآية ( 270) إلى الآية ( 277)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ٢٧٠ } [البقرة:270]
{ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ } مازالت الآيات تتحدث عن النفقة فإنه فيما مضى من آيات ذكر عز وجل ما يتعلق بالنفقة
ولو قيل ما مناسبة ذكر قوله عز وجل { وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ }
ما مناسبة ذكرها في آيات النفقة ؟
فالجواب عن هذا :
أن أعظم النفقة أن ينفق العالم العلم الشرعي فإنه أعظم من نفقة المال
وبهذه المناسبة مر معنا قول الله تعالى فيما يتعلق بالنفقة { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ } وهذه الآية حجة لأهل العلم الذين قالوا بأن الزكاة تجب في عروض التجارة خلافا لمن لم يقل بوجوبها لأن الحديث الوارد ، وهو حديث سمرة (( كنا نخرج الصدقة مما نعده للبيع ))
يضعف هذا الحديث
هذا الحديث حسنه بعض أهل العلم ومما يقويه هذه الآية { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ } ولا شك أن عروض التجارة مما كسبه الإنسان ، ومما يؤكد ذلك ما جاء في الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام (( فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم ))
وقال تعالى { خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ }
ومعلوم أن المقصود الأكبر والأعظم من عروض التجارة هو كسب المال
فالله عز وجل قال هنا { وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ } أطلق هنا وعمم فيشمل النفقة الواجبة والنفقة المستحبة
وقال هنا { مِّن نَّذۡرٖ }
والنذر هو إلزام المكلف نفسه شيئا من العبادات ليس واجبا عليه في أصل الشرع
فإذا نذر فإن هذا الناذر يلزمه أن يوفي بنذره إذا كان هذا النذر نذر طاعة
قال عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ))
{ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُ }
ورتب هنا ما يخرجه الإنسان من نفقة أو ما ينذره علقه على علم الله وسبق معنا من أن الله عز وجل عالم بكل شيء قبل أن يقع فهو عالم بكل شيء وهذا من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر
لكن هنا قال فإن الله يعلمه علم يترتب عليه الجزاء والحساب كما مر معنا في قوله تعالى { إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ }
وخذها قاعدة في نظير مثل هذه الآيات
وقوله عز وجل { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُ }
فهنا الجواب جواب لما الشرطية { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُ }
بمعنى :
أن الله عز وجل يعلم حال هذا الناذر ، وحال هذا المنفق مما يدل على أنه إذا جاز على تلك النفقة أو على ذلكم النذر فإن النذر عبادة
ولذا :
من صرف هذا النذر لغير الله كأن يقول نذر لجبريل أو نذر للنبي عليه الصلاة والسلام أو نذر لمخلوق فإنه يقع في الشرك الأكبر
ولذا قال بعدها { وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ } أي ظالم ليس له ناصر ينصره ويدفع عنه ما أراده الله عز وجل به
وهذا عام
ولذا :
أكد ذلك بكلمة { مِنۡ } فمن هنا زائدة للتأكيد كما سلف معنا
لماذا تكون هي زائدة ؟
مر معنا سبب ذلك وتوضيح من أنه ليس في القرآن شيء زائد وإنما كل حرف في القرآن له معنى لكن الزيادة من حيث الإعراب
ولذا بعض العلماء يحسن هذا اللفظ فيقول : صلة
{ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ } ويشمل ذلك الظالم في هذه النفقة أو الظالم في هذا النذر بأن يخالف شرع الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَئَِّاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ٢٧١ }[البقرة:271]
{ إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ } يعني إن تظهروها
{ إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَ } : أصلها [ نعم ما ] أي نعم شيئا نعم بتكسين العين لكن [ ما ] لما أدغمت في [ ميم نعم ] حركت العين الساكنة فكسرت لالتقاء الساكنين
{ فَنِعِمَّا هِيَ } : بعض أهل العلم قال إن إبداءها إنما يتعلق في الصدقة الواجبة حتى لا يساء به الظن
وحتى يقتدي به غيره
{ إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَ } أي فنعم شيئا تظهرونه وتبدونه
والذي يظهر :
من أن الآية عامة وذلك أن إظهار الصدقة إبداء الصدقة محمود فيما لو أن الإنسان أراد أن يتأسى وأن يقتدي به غيره وليس هذا على سبيل الإطلاق والدوام
ولذلك :
قال بعدها { وَإِن تُخۡفُوهَا } أي تكتموها { وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ }
لما قال { فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ } دل هذا على أن إخفاء الصدقة سواء كانت صدقة واجبة أو صدقة تطوع فهي أفضل لكن متى تكون محمودة إذا أظهرت ؟
إذا كان مقصود الإنسان إذا كان مقصوده حسنا بحيث ينفي عن نفسه التهمة
ولذا قال :
{ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ } ومعلوم أنه إذا أبداها سيعطيها الفقراء ، ومع ذلك لم يذكر لفظ الفقراء في إظهار الصدقة لأنها إذا أظهرت معلوم أن الفقير ظاهر وواضح لكن حال الإخفاء ذكر لفظ الفقراء من أجل أن الإنسان يحرص على أنه في صدقته إذا أخفاها من أنه يبحث عن ماذا ؟
يبحث عن من هو فقير ومستحق لها
{ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَئَِّاتِكُمۡۗ }
{ مِّن } هنا : الصحيح أنها للتبعيض ” ويكفر عنكم من بعض سيئاتكم “
بعض العلماء يقول هي : زائدة
ولتعلم :
أن الزيادة في الحروف لا يستحبها البصريون
وإنما هو على رأي الكوفيين في حال الإثبات يقولون يمكن أن يكون الحرف زائدا لكن الذي يظهر من خلال النصوص الشرعية الكثيرة في القرآن وفي السنة من أن الزيادة إنما تكون في حال النفي
في حال النفي
{ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَئَِّاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ }
اسم الله عز وجل الخبير وهو العالم ببواطن الأمور وبدقائقها فإنكم إن أخفيتم هذه الصدقة فإن الله عز وجل عالم بحالكم هل وصلت إلى الفقير أم لا ؟
كذلك لو أنكم أظهرتموها فالله مطلع ومن ثم فإن على العبد أن يستحضر مثل هذا الاسم في حال إخراج صدقته
وكما سلف التفقه في معاني أسماء الله تزيد العبد إحسانا ومراقبة لله عز وجل
فإنه إذا علم بأن الله خبير ومطلع عليه هنا سيكون حرصه على أن يخرج الصدقة على وجهها الذي يرتضيه الله عز وجل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ٢٧٢ } [البقرة:272]
{ لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ } :
لما بين أن الصدقة تحمد إذا أظهرت وإن أخفيت فهو أفضل بيَّن هنا في قوله عز وجل { لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ } أي هدى المشركين لأن الهدى وهو خلق فعل الخير وهداية القلوب إنما هي من الله إنما عليك يا محمد ولذلك نفى هنا { لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ } هداية التوفيق والإلهام لأن الهداية نوعان :
هداية التوفيق والإلهام فهذه لا يملكها أي مخلوق ، أما هداية البيان والإرشاد فنعم يملكها المخلوق
أما هداية القلوب فهي من الله ولذا قال تعالى { وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ }
{ لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي } هداية توفيق وإلهام وأيضا هداية بيان ، فالله عز وجل قال عن ثمود { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ }
{ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ } : وهنا كلمة { مَن يَشَآءُ } تدل على أن هداية التوفيق إنما هي بيد الله عز وجل
ومن ثم فيه رد على القدرية الذين يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه
بمعنى أنه إذا أطاع الله فهو الذي أطاع الله عز وجل من تلقاء نفسه وليس لله أمر في ذلك
وهذا ولاشك أنه ضلال مبين
{ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ}
بعض أهل العلم قال إن الآيات السابقات تدل على نفي هداية التوفيق والإلهام عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا علاقة لها بالإنفاق ولاشك أن الهداية هي هداية التوفيق والإلهام هي من الله لكن هذه الآية لها أيضا ارتباط وهو من أن الصحابة رضي الله عنهم لما أراد بعضهم أن ينفق على فقراء الكفار نهاهم النبي عليه الصلاة والسلام حتى يُسلِم هؤلاء الكفار فقال الله عز وجل { لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ }
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ } : أي خير
وهنا عمم أي خير ولو قل { وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ } فإن الثواب إنما يعود عليكم
والنفقة على الكافر مستحبة قال عز وجل : {وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا٨ } [الإنسان:8]
والأسر إنما يقع في الحقيقة إنما يقع على الكافر
ولذا قال عز وجل : { لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ٨ } [الممتحنة:8]
{ أَن تَبَرُّوهُمۡ } بمعنى أن تحسنوا إليهم فقط الإحسان أما محبة الكفار فلا يجوز وهذا يدل على ماذا ؟
وهي الآية التي ذكرناها { لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ٨ }
إنما النفقة التي يثاب صاحبها على الكافر إذا كان الكافر غير محارب لنا فإن كان من المحاربين فلا
ولذلك الكافر الذمي أو المعاهد أو المستأمن كالذي يكون مثلا في بلادنا وكان كافرا أتى لعمل أو ما شابه ذلك لو تصدق عليه الإنسان فإنه يثاب على ذلك
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ }
الأولى { وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ } هذا أسلوب شرطي قال بعدها
{ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ }
” ما ” هنا نافية بمعنى أن الجملة هنا خبرية لكنها تتضمن الأمر يعني أنفقوا إذا أنفقتم أنفقوا ابتغاء وجه الله
{ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ }
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ } : شرطية لأن { يُوَفَّ } جواب ما الشرطية ولذلك جزم بحذف حرف العلم
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ } بمعنى أنه لا ينقص من حسناتكم
وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أنه أتى بما يتعلق بالنفقة في هذه الآية بأسلوب الشرط مرتين وبأسلوب الخبر مرة أخرى مما يدل على أهمية النفقة
{ لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسَۡٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ٢٧٣ } [البقرة:273]
{ لِلۡفُقَرَآءِ } هذه الكلمة { لِلۡفُقَرَآءِ } اللام متعلقة بشيء ، اختلف في ذلك :
الذي يظهر أن الصدقة التي يتصدق بها للفقراء
بمعنى الصدقة للفقراء
{ لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }
بمعنى :
أن أعظم الصدقات التي تتصدقون بها فإن سياق الآيات السابقة إنفاق على من ؟
على الكفار
الآن أفضل من ذلك كله الإنفاق على أهل الإسلام
{ لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي منعوا في سبيل الله :
في سبيل الله قال بعض أهل العلم { أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي منعوا من الضرب في الأرض لأنهم كانوا في أول الأمر يخافون على أنفسهم من الكفار ، ولذلك كان هذا في أول الأمر
ولذا قال عز وجل في سورة الأنفال
{ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فََٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ٢٦ } [الأنفال:26]
ويدخل أيضا ضمنا وهو أعم : من أنهم أحصروا في سبيل الله
يعني هؤلاء أحصروا عن الضرب في الأرض للتجارة لأنهم محصرون في الجهاد في سبيل الله فإنهم يشتغلون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله
{ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ } من أجل التجارة أو على الرأي الأول خوفا من الكفار وذلك في أول أمرهم لما كانوا مستضعفين
{ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } أي بسبب التعفف
فعفتهم وامتناعهم من السؤال يدل على ماذا ؟
يدل على أن من رآهم يظن أنهم أغنياء
{ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ }
عليهم علامات الفقر من التخشع من التذلل من رث الثياب كما قيل
المهم أن عليهم علامات تلك العلامات يعرف الناظر من أن هؤلاء فقراء
{ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسَۡٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ } أي لا يسألون الناس إلحاحا ، إلحافا بمعنى إلحاحا
ولذا ثبت قوله عليه الصلاة والسلام : (( لا تُلحِفوا في المسألة ))
يعني لا تلحوا في المسألة
{ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسَۡٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ } قال بعض أهل العلم هم يسألون الناس فقط لكن الإلحاح لا يسألونه
والذي يظهر :
من أنهم لا يسألون الناس أبدا لا إلحاحا ولا غير ذلك
بدليل ما قبله { يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } فلو كانوا يسألون لما قال عز وجل { يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } لو كانوا يسألون لعرفوا { لَا يَسَۡٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ }
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ } : أي خير
{ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ } قال هنا { فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ }: جواب ما الشرطية
ذكر عز وجل بعد النفقة ذكر علمه
علم يترتب عليه ماذا ؟
الجزاء والحساب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٢٧٤ } [البقرة:274]
{ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ } :
وانظر إلى هذه الآية والآيات السابقات وما مر معنا في هذه السورة تجد أن أول السورة وصف الله عز وجل أهل الإيمان بأنهم { وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ }
ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بمقدار ما ينفق { قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ }
وما يتعلق بمن ينفق عليه
وبما يتعلق بالنفقة في سبيل الله
وما يتعلق بالنفقة والصدقة وبها من وأذى
وما يتعلق بالصدقة التي هي واجبة
وما يتعلق بالصدقة صدقة العلم { وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ }
وما يتعلق بالصدقة قلت أم كبرت والنذر وما يتعلق به من أن الله يعلمه
وما يتعلق بحكم الصدقة من حيث الإظهار ومن حيث الإخفاء
وما يتعلق بالصدقة على الكفار
وما يتعلق بالصدقة على المجاهدين في سبيل الله والذين أحصروا في سبيل الله
ثم ذكر هنا صفة من ؟
الذي ينفق ولا يخشى الفقر
{ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ }
{ سِرّٗا } أي إخفاء
{ وَعَلَانِيَةٗ } أي جهارا
وذلك على حسب ما ذكر في قوله تعالى { إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ } من حيث المصلحة وما يترتب على ذلك
{ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَئَِّاتِكُمۡۗ }
وذكر النفقة هنا وذكر بينها ما يتعلق بالموت ، ما يتعلق بالموت مما ذكر عز وجل عن حال بني إسرائيل لما سألوا أن يبعث لهم ملك لكي يقاتلوا ثم قصة إبراهيم عليه السلام ثم قال في نهاية ما يتعلق بالموت والإحياء قصة إبراهيم { وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ} إلى أن قال بعدها { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }
وليعلم أنه في قصة إبراهيم في آخر ما يتعلق بالموت من أن هذا هو الصنف الخامس المذكور في القرآن الذي أماته الله ثم أحياهم وهي تلك الطيور
ومر معنا أنواع منها :
الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها
والذين خروجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت
وقصة القتيل لما أمروا بذبح البقرة
وقصة قوم موسى لما قالوا لموسى أرنا الله جهرة
ذكر بعد ما يتعلق بالموت ذكرت آيات النفقة مما يدل على أن العبد راجع إلى الله وسيترك هذه الأموال وإذا ترك هذه الأموال فإنه إن لم يقدم في حياته فإنه يكون قد فرط ولذلك في آخر السورة ماذا قال { لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ }
{ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ } أي ثوابهم { عِندَ رَبِّهِمۡ } وأعظم به من ثواب إذا كان من عند الله
{ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ } فيما يستقبل فالله سيخلف عليهم
{ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ } فيما مضى مما انفقوه
وقال هنا { فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ } أتى بالفاء وذلك لأن هذا خبر لاسم الموصول لأن الاسم الموصول يشابه اسم الشرط واسم الشرط يلزم في جوابه أن يؤتى بالفاء في بعض المواضع
اسمية طلبية وبجامد وبما وبلن وبقد وبالتنفيس
يعني في هذه المواضع :
فهو شبيه باسم الشرط هنا ذكر حرف الفاء في قوله تعالى { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى } لم يأت بحرف الفاء بناء على الأصل وهنا بناء على أن اسم الموصول شبيه باسم الشرط
وقد يكون لذلك فائدة من حيث المعنى كما سيأتي معنا إن شاء الله في سورة آل عمران { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ٢٧٥ } [البقرة:275]
{ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ }
لما ذكر ما يتعلق بالنفقة ومعلوم أن النفقة إذا أنفقها الإنسان في صورة الحال من أن ماله نقص لكن هذا المال تكون به بركة وبه النماء
وبه الخير إضافة إلى الثواب الذي يثيبه الله للعبد يوم القيامة
هنا ذكر ما يتعلق بالربا فإن الربا ولو زاد في حقيقته وفي صورته فإنه ممحوق بخلاف الصدقة فإن بها البركة
والربا به المحق ويترتب عليه العقاب
الصدقة تترتب عليها المضاعفة
{ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ } وذكر الأكل لأن الغالب من أن الإنسان يحرص على المال من أجل الأكل وإلا بأي أسلوب أخذ الربا فإنه يصدق عليه
{ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ }
والربا له أنواع :
ربا الفضل الزيادة وربا النسيئة
وتوضيحه وتفصيله في غير هذا الموطن لأن له شروطا وما شابه ذلك وقد بيَّنا ذلك في درسنا في الفقه
{ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ } أي حالهم يوم القيامة { لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي }
يعني إلا قياما { كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ } يعني : يصرعه
{ يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ } أي من الجنون والصرع فهذا هو حالهم يوم القيامة ، بمعنى أنهم يقومون من قبورهم على هذه الحال فإنهم يقومون قياما يتخبطون به حالهم كحال الممسوس والمصروع
وفي هذا دليل من القرآن على أن الجن يتلبسون بالإنس ويدخلون فيهم خلافا لمن أنكر ذلك ممن لا علم عنده
وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في تلبس الجان بالإنسي منها قوله عليه الصلاة والسلام للجان : (( اخرج عدو الله ))
دل هذا على ماذا ؟
على أنهم يدخلون والنصوص في ذلك كثيرة ولي تفصيل أوسع من هذا في الرد على من أنكر ذلك في غير هذا الموطن
{ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ } ذلك أي العقاب المذكور آنفا
{ بِأَنَّهُمۡ } بسبب { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ }
{ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ }
انظر هذا يسمى عند العلماء بقياس العكس ومن لم يأخذ بالشرع انتكس
فهؤلاء لم يقولوا إن الربا مثل البيع وإنما قالوا : { إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ }
يعني الأصل عندهم من أن الربا هو الأساس فقاسوا البيع على الربا
{ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ }فقال الله عز وجل { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ }
{ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ } هذا الكلام منه عز وجل قاعدة من أن الأصل في المعاملات الإباحة ولا يكون هناك معاملة محرمة إلا إذا دل الدليل الشرعي على تحريمها
ولذلك : باب المعاملات من حيث الحل واسع
لكن بعض الناس يقولون في مثل هذا الزمن : ما أكثر ما تقولون في المعاملات من أنها حرام وحرام وحرام
فكيف يتوافق مع ما ذكر هنا ؟
فالجواب عن هذا :
من أن الناس في تصرفاتهم لم يراعوا الشرع في تلك المعاملات لا التاجر ولا الآخر لا الشركات ولا البنوك ولا الناس
ومن ثم :
وقع ما وقع من المحذورات الشرعية التي تجعل هذا البيع أو تلك المعاملة محرمة { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ }
{ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ }
فمن جاءه موعظة موعظة مؤنثة وليست مذكرة قال في الفعل { جَآءَهُ } من باب التذكير إما للفاصل ، وهذه قاعدة عند بعض أهل العلم : [ إذا أتى فاصل بين العامل وبين المعمول فإنه يكون هذا الأسلوب يكون جائزا ]
وبعضهم قال : إن هذا راجع إلى الوعظ
فمن جاءه وعظ
فمن جاءه موعظة
{ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ } أتته الموعظة فانتهى مباشرة
{ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ } أي ما مضى مما ربحه من معاملات ومما أخذه من أموال عن طريق الربا وقد قبضها
حتى إن بعض أهل العلم قال إن هذا خاص بالكافر فقط أما المرابي المسلم فلا يحق له
لكن : ظاهر الآيات مع الآية الآتية كما قال عز وجل { فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ٢٧٩ } [البقرة:279]
{ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ } أي ما مضى
{ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ } : إن شاء الله عز وجل ثبته على تلك التوبة وإن شاء أزاغه لأن المال حلو ، فلربما أنه يعود مرة أخرى فيقع في الربا
{ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ }
من يقول إن هذه الآية في حق الكافر الخلود هنا يعتبر خلودا مؤبدا لا يخرج منه أو من قال إنها في حق المسلم فإن الخلود هنا يدل على طول المكث ولا يلزم منه أن يخلد في النار خلافا للخوارج الذين يقولون : إن صاحب الكبيرة خالد مخلد في نار جهنم
يقولون : هو خالد مخلد في نار جهنم
ومما يدل على ما ذكرناه قوله عز وجل { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } وصفهم بالإيمان { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ٢٧٦ } [البقرة:276]
{ يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ } إذا ربح وزادت أمواله يظن أن بها خيرا وإذا قيل له أنفق يظن أن أمواله ستنقص مع أن النفقة بها النماء والخير والزيادة إما زيادة حسية بحيث يعوضه الله عز وجل أو زيادة معنوية بحيث يكون هذا المال راحة له وبحيث يكون هذا المال به خير فلا يمحق وتبقى بركته
بعض الناس ربما تكون عنده أموال فتذهب منه سدى من غير ما يعرف لماذا ذهبت
بعض الناس عنده مال قليل لكن الله يبارك فيه
{ يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ } ولذلك قال بعدها { وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ } يعني : ينمي الصدقات نماء حسيا أو نماء معنويا أو يشمل الأمرين
{ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } :
{ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } : أثيم يعني بفعله
{ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ }:
وهذا شامل لكل كفار بهذه الصفة أثيم
ويدخل فيه الكافر الذي يتعاطى الربا فيكون كفره كفرا مخرجا عن الملة
لكن :
على القول الآخر :
يكون كفار بمعنى أنه كافر لنعمة الله ، آثم واقع في الإثم لأن الربا من أكبر الكبائر كما ثبت بذلك الأحاديث الصحيحة : (( اجتنبوا السبع الموبقات ذكر منها : أكل الربا ))
فهو كافر لنعمة الله عز وجل
الله أنعم عليه بالمال لكنه لم يحسن وإنما صرف هذا المال فيما يسخط الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٢٧٧ } [البقرة:277]
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ } لما ذكر ما يتعلق بالكفار ، وهذه الآية قد تكون داعمة لقول من يقول : إن الآيات السابقات في حق الكفار لكن الصحيح من أنها شاملة للأمرين فيكون معنى { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ } على القول الآخر من أن الآيات في أهل الإسلام لكنهم مرابون من أنهم ليسوا من أهل الإيمان الكامل
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ } آمنوا بقلوبهم وبجوارحهم وبألسنتهم
{ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ } والعلم الصالح لا يكون صالحا كما مر معنا في أول السورة { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } لا يكون صالحا إلا إذا أخلص العبد بهذا العمل أخلص به لله وكان على وفق شرع الله عز وجل
{ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ } أقاموها على وجهها الشرعي بأركانها وواجباتها وشروطها
{ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ } ذكر الزكاة هنا من باب بيان ماذا ؟
من باب بيان أن الإنسان لا يغفل عن الزكاة الواجبة
{ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ } لم يأت بالفاء على الأصل { لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٢٧٧ } ومر معنا تفسير هذه الآية عند قوله :
{ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٢٧٤ } [البقرة:274]