التفسير المختصر الشامل ( 4)
تفسير سورة البقرة :
من الآية (29) إلى الآية (43)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْم اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيم الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، وأُصلِّي وأُسلِّم على خاتم الأنبياء وإمام المُرسلين نبيّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين
أمّا بعد :
فقد توقّفنا عند تفسير قول الله عزّ وجلّ :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا }
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } :
جُملةٌ من أهل العلم يَرَوْن أنّ هذه الآيةَ دليلٌ على أنّ الأصلَ في الأشياء الإباحة ، وخَلَقَ الله عزّ وجلّ لنا ما في الأرض جميعًا ، لكي نستعين بما خَلَقهُ عزّ وجلّ لنا على عبادته لا أن يُشْغلنا ذلك. وما في الأرض فيه ما هو ضارّ كالعقارب والحيّات
فما الفائدة منها ؟
الفائدة منها للاعتبار ، أمّا ما سِواها ، فإنّه للانتفاع .
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } :
أي ارتفع على السماء استواءً يليقُ بِجلالِه وبِعظَمته . وهذا ما عليه أكثرُ السَّلف .
وبعض المفسِّرين كابن كثير رحمه الله يرى أنّ استوى بمعنى قَصَدَ .
وليس هذا تحريفًا ؛ وذلك لأنّ الحرف ( إلى ) بَيَّنَ معنى كلمة استوى ، فيقول رحمه الله : { اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي قَصَدَ السماء .
{ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } :
أي جَعَلَهنّ مُستَوِيات كاملات لا عيبَ فيهنّ ولا شُقوق .
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } :
خَلَقَ الأرض وخَلَقَ السماوات وما بينهما وما تحت الثرى ولا يَخفى عليه شيء ممّا خلقه عزّ وجلّ فيهما .
وهذه الآيةُ بِذِكر الأرض يدلّ على أنّ الأرضَ خُلِقَت قَبل السماء . وهذا ما عليه الغالبيّةُ العُظمى مِن المفسِّرين ، خِلافًا لـِمـَن قال إنّ السماوات خُلِقت قَبل الأرض .
وبعضُهم توقّف .
والصواب :
الذي تدلّ عليه الأدلّة أنّ الأرض خُلِقَت قبل السماء .
قال تعالى :
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ (10) }
ثمّ قال :
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ..}
فدلّ هذا على أنّ الأرض خُلِقت قبل السماء .
لكنّ الجواب عن قوله تعالى :
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ }
ثمّ ذَكَرَ بعد ذلك :
{ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }
فالمقصود مِن ذلك :
أنّ الله عزّ وجلّ خَلَقَ الأرضَ أوّلًا في يومين ، ثمّ خلق السماء في يومين ، ثمّ بعد ذلك دَحَى الأرض { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }
تفسيرُه :
{ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) }
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ } :
أي واذكر قول ربِّك للملائكة ، وفي هذا إثبات أنّ الله عزّ وجلّ يتكلّم كلامًا يليق بجلاله وبِعظَمته .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } :
مَن هُوَ هذا الخليفة ؟
كثيرٌ مِن المفسِّرين يقول هو آدم .
ولكنّ ابن كثير رحمه الله يرى أنّه ليس المقصود آدم ، وإنّما المقصود الذُّرّيّة .
كما قال عزّ وجلّ :
{ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ }
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ }
قَالَ :
لو كان المقصود آدم لما قالت الملائكة :
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
وعلى كلّ حال ، سواءٌ قيل بهذا أو بهذا ، فإنّ الله عزّ وجلّ شرَّف بني آدم بأن جعلَهم خُلفاء في الأرض إن هُم أحسنوا وأطاعوا الله عزّ وجلّ واتَّقَوْه .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } :
لَمْ يَقُل خليفةً لي ، لأنّ الخليفةَ إنّما يَكُونُ لِــمَـنْ يغيب ، وَاللهُ عزّ وجلّ هُوَ العالِم بكلّ شيء ، الذي أحاطَ بكلّ شيء .
ولِذا :
وردَ [ حديث صحيح ] لكن مِن بَيْنِهِ جُملة [ حديث المهدي ] قال :
( خليفة الله المهدي ) هذه لفظةٌ ضعيفة أنكرها شيخ الإسلام رحمه الله وغيرُه .
إذَن جعلَه عزّ وجلّ خليفةً أي خليفةً في الأرض لِعِمارتِها وإصلاحها .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا } :
ليسَ اعتراضًا على حُكمِ الله عزّ وجلّ ، لأنّ الله عزّ وجلّ وَصَفَ الملائكة { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }
وإنّما هُنا استفهام ، للاستعلام ، يستعلِمون .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } :
وسفكُ الدِّماء مِن الإفساد في الأرض ، لكنّه ذكره مِن بابِ بيان عِظَمِ سَفْكِ الدِّماء ، وإلّا فهو داخل ضمن الإفساد . ولِعِلمهم بأنّ الله عزّ وجلّ لا يُحِبُّ الفسادَ ، ولا يُصلِحُ عملَ المفسدين .
لكن :
لو قيل كيف عرفوا ذلك ؟
كثيرٌ مِن المفسِّرين يقول إنّما هذا بِنَاءً على ما كان في الأرض مِن وجود الجنّ ، فإنّ الجنّ كانوا قبل آدم أفسدوا في الأرض ، فأرسل الله عليهم إبليس ، فَنَفاهُم في الجبال وما شابه ذلك . وهذا ذَكَرَهُ كثيرٌ مِن المفسِّرين .
ولكن لا أَعْلَمُ فيه حديثًا صحيحًا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
وإنّما لَعلّهم عَلِموا ذلك بِتعليم الله عزّ وجلّ لهم أَوْ باعتبار ما تَوَسّموا مِن بيان أصل خِلقة آدم ، خُلِق مِن صلصال من حمأ مسنون ، فكأنّهم استَشَفُّوا مِن أنّ هذا الأمر وهذا المقصود منه أصل خِلقة آدم تدلّ على هذا الأمر .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }
{ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } :
أي نُنَزِّهُكَ عمّا لا يليق بك . ثمّ قالوا و ( بِحَمْدِكَ ) إثبات الصِّفات العظيمة له عزّ وجلّ . فنَفَوا عنه جلّ وعلا ما لا يليقُ به وأثبَتوا له ما يَستحقّه مِن الصِّفات العظيمة
{ وَنُقَدِّسُ لَكَ } :
أي نُثني عليكَ بالطهارة ، ويَتضمّن ذلك ، نُصَلّي لكَ .
فدلّ هذا على أنّهم جَمَعوا بين العِبادة القوليّة :
{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }
وبين العبادة العَمَليّة :
{ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
ويَدخلُ في ذلك ضِمنًا أنّنا نُطَهِّر أنفسَنا لك .
{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } :
أَعْلَمُ مِن أنّ المصالحَ في هذا الخليفة بِوجوده في الأرض أعظم مِن المفاسِد التي ذكرتموها ، باعتبار أنّ هذا الخليفة يَكُونُ – مِن هؤلاء – يَكُونُ مِنْهُم الأنبياء والرُّسُل والصالحون .
{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } :
وهذا يدلّ على إحاطة عِلم الله عزّ وجلّ بِكلّ شيء .
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } :
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } :
آدم :
هو نَبيّ ، وسُمّي بهذا الاسم على الصحيح مِن الأقوال ، مِن أنّه خُلِقَ مِن أديم الأرض فَجُمِعت تُربة مِن جميع الأرض ، فَخُلِقَ منها آدم ، فصار مِن ذرّيّته الأبيضُ والأحمر والأسود ، والسَّهل والصَّعب وبين ذلك كما ثبت في ذلك الحديث عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } :
أي عَلَّمَه اسم كلّ شيء وعلّمه منافعه ، وهذا يَتضمّن أنّه عزّ وجلّ عَلَّمَه المُصَغَّر والمُكَبّر مِنْهَا ( القَصعة والقُصَيعة ) ويَتضمّن أنّه جلّ وعلا عَلَّمَ آدَمَ جميعَ اللغات .
فَفِيه إثبات أنّ آدَمَ عليه السلام ، قد عُلِّمَ جميعُ اللغات .
{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ } :
أي هذه المُسَمّيات ، وَلَمْ يَقُل عَرَضَها ؛ لأنّه إذا جُمِعَ ما يَعْقِل ومالا يَعْقِل مِن الأساليب في اللغة العربيّة أنّه يُغَلَّب جانب مَن يَعْقِل .
{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } :
{ فَقَالَ أَنبِئُونِي } :
أي أخبِروني { بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ }
{ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } :
فيما قُلْتُم مِن أنّ هذا الخليفة يُفسد ويسفك الدماء وأثنَيتم على أنفسكم
{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ } :
نزّهوا الله عزّ وجلّ عمّا لا يليق به .
{ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } :
وهذا إن دلّ يدلّ على تَواضُع الملائكة . ومِن ثَمَّ فإنّ على طلّاب العلم والعلماء إن سُئِلوا عن شَيْءٍ لَمْ يَعرفوه أن يقولوا : ( لا نعلم ) أو ( الله أعلم ) .
ولذلك :
في الصحيح ، ابن مسعود رضي الله عنه قال :
( إنّ مِن العلم أن تقول لما لا تعلم الله أعلم )
{ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } :
فأنتَ العليم والحكيم ، فَعِلْمُكَ أحاط بكلّ شيء ، وحِكمَتك اقتَضَت أن يكون هذا خليفةً في الأرض ، فلَكَ الحكمة التامّة ، وأنتَ العالِم بكلّ شيء .
{ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ } :
أي أخبِرهم بأسمائهم
{ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :
أي ما غاب في السماوات وما في الأرض
{ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } :
أي تُظهِرون مِن الأقوال والأفعال .
{ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } :
أي تُسِرِّون . والإسرار يدلّ على أنّ الملائكة لهم قُلوب . والإبداء والإظهار ، { تُبْدُونَ } يدلّ على أنّهم يتكلّمون .
وقد جاءت بذلك الأدلّة :
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
فَلَهُم قُلوب .
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } :
هؤلاء الملائكة ( الصحيح أنّهم جميع الملائكة ) وليسوا طائفة مِن الملائكة كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء والدليل في الآيات الأُخَر { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } أكّدَ بكلمة ( كلّهم ) و بِـ ( أجمعون )
[ طبعًا قلتُ بِـ ( أجمعون ) والباء جارّة مِن باب الحِكاية ]
ثمّ استثنى { إِلَّا إِبْلِيسَ } :
فدلّ على أنّ جميع الملائكة أُمِروا بالسجود لآدم فسجدوا .
{ اسْجُدُوا لِآدَمَ } :
وَلَمْ يَقُل إلى آدم ، فدلّ هذا على أنّ القول الصحيح أنّ السجود كان لآدم ، وليس كما قيل إنّ آدم هو قِبلة والسجود لله ؛ لأنّه قال : { اسْجُدُوا لِآدَمَ } وهذا السجود ليس سجود عِبادة وإنّما هو سجود تحيّة كما سَجَدَ أَبَوا يوسف وإخوتُه { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا }
وهذا جائز في الأديان السابقة ، أمّا في ديننا فالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا سجد له مُعاذ لمّا أتى إلى الشام ، نهاهُ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقال ( لَوْ كنتُ آمِرًا أحدًا أن يسجدَ لأحد ، لأمرتُ الزوجة أن تسجُدَ لزوجِها )
{ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ } :
سُمّي بهذا الاسم لأنّه أُبْلِسَ وأُبْعِدَ ويَئِسَ مِن رحمةِ الله . والصحيح أنّه ليس مِن الملائكة ، فالاستثناء هنا استثناء مُنقطِع ، بدليل أنّه جلّ وعلا قال عن إبليس :
{ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } كما في سورة الكهف { كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }
ولأنّ الملائكة لا يَعصُون الله عزّ وجلّ ، ولأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بَيَّنَ كما في صحيح مسلم ، مِن أنّ الملائكة خُلِقَت مِن نور ، والجانّ خُلِق مِن نار .
{ أَبَى } أي امتنعَ { وَاسْتَكْبَرَ } أي تكبّر .
فدلّ هذا على أنّه مع هذا الامتناع ، لأنّ مَن امتنع ربّما يعود ، لكنّه لَمْ يَعُدْ بِاعتبار أنّه مُستكبِر ، وهذا يدلّ على خُطورةِ الْكِبْر ، وأنّ الكِبْر كانَ سببًا في إبعاد إبليس مِن الخير ، كما أنّ الحسد ، إذ حسد إبليس آدم ، هو سببٌ لحرمانه من الخير .
{ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } :
كان في عِلم الله عزّ وجلّ من الكافرين ، فإنّ قلبه ، ليس بقلبٍ صالح ، ولذلك لَمْ يَنْصَعْ ، وَلَمْ يستجِبْ لأمرِ الله عزّ وجلّ .
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ } :
{ اسْكُنْ } فِعل أَمْر يَتضمّن الفاعل الضمير المستَتِر ( أنتَ ) ، لكنّه أتى بِالضمير { أنتَ } مرّةً أُخرى لِكَي يعطِفَ عليه ما بَعدهُ
{ اسْكُنْ أَنتَ } لِكَي يعطف { وَزَوْجُكَ } كما في آياتٍ أُخَر
{ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ونظائرُ هذا كثيرة .
{ وَزَوْجُكَ } :
هي حوّاء ، كما دلّ على ذلك الحديث في الصحيح ( ولولا حوّاء لَمْ تخُن أُنثَى زوجها الدّهر ) وخيانتها ليست خيانة زنى أو كفر . لا ، وإنّما لأنّها كما قال الشُّرّاح زَيَّنَتْ لآدم ، أو حبّبَتْ لآدمَ أن يأكلَ من الشجرة فوقعَ ما وقع .
{ وَزَوْجُكَ } :
فالزوجة يُطْلَقُ عليها زوج ، وهذا هو الأكثر ، ويصحّ ، وإن كان مشهورًا لدينا مع أنّ هو الأقلّ ، يصحّ أن تقول زوجتي . كما قال عمَّار بن ياسر رضي الله عنه في صحيح البخاريّ قال عن عائشة رضي الله عنها :
( إنّي لأعلم أنّها زوجته في الدنيا وفي الآخرة ، لكنّ الله عزّ وجلّ أراد أن يَبتَلِيَكم بها )
لمّا حصل ما حصل مِن تلك الفتن .
{ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } :
{ الْجَنَّةَ } :
هي الجنّة التي في السماء ، وليست في الأرض على الصحيح ، خِلافًا لمن قال ذلك ؛ لأنّه قال بعد ذلك { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } فدلّ على أنّ هذه الجنّة في السماء وليست في الأرض ، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء .
وهل هي جنّة الخُلد أم لا ؟
خلافٌ .
والصحيح :
أنّها جنّةُ الخُلد ، أُخرِجَ منها .
والدليل على ذلك :
كما جاء في الصحيحين :
(( أنّ موسى قال لآدم أخرَجْتَنا ونفسَكَ مِن الجنّة ))
وكذلك في حديث الشفاعة : إذا أتَوا إلى آدم ، قال : وهلْ أَخرَجَكم من الجنّة إلّا خطيئةُ أبيكم . فدلّ هذا على أنّ الجنّة التي أُخرِجَ منها آدم هي جنّة الخُلد على الصحيح .
[ ولنا كلامٌ مُوَسّع أكثر في موطِنٍ آخَر ]
{ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا } :
{ وَكُلَا مِنْهَا } : أي من الجنّة .
{ رَغَدًا } : هذا صفة لمصدر محذوف ، يعني ( وكُلُوا منها أكلًا رَغَدًا ) أي واسعًا ، لا حَجْرَ عليكم في الأكلِ منها .
{ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } :
النَّهي هنا يدلّ على أنّ بقاءهم في هذه الجنّة ليس بمُستمرّ ؛ لأنّ الجنّة لا يُمنع فيها داخِلُها مِن أن يتلذّذ بما شاء منها دون أن يكون عليه حَجْر أو مَنْع
{ وَلَا تَقْرَبَا } :
وَلَمْ يَقُل ولا تأكُلا ، وهذا مِن أدلّة قاعدة ( سدّ الذرائع )
كما قال عزّ وجلّ : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } وَلَمْ يَقُل : ولا تَزنوا .
{ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } :
كثُر الخِلاف بينَ المفسِّرين عن نوعيّة هذه الشجرة .
وكُلّ ذلك لا أَعْلَمُ له دليلًا صحيحًا مِن سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في تحديدها وفي تعيينها، ولذلك لو كان بِذِكرِها فائدة لَوَضّحَها عزّ وجلّ ، ولذلك نُبهِم ما أبهمَهُ القرآن ، ونأخذ العِبرة .
كما قال تعالى :
{ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ }
{ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } :
فدلّ هذا على أنّ النَّهي يقتضي التحريم ، لأنّه لمّا نَهاهُما ، بيّن أنّهما لو أكَلا منها فَسَيكونان مِن الظالمين .
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ } :
أي أوْقَعَهما في الزلّة ، ونحّاهما عنها . أي عن الجنة ، أو كما قيل – ولا تَعارُض بينهما – { عَنْهَا } عنها ( هُنا ) للسببيّة : يعني بسبب هذه الشجرة ، وقع في الزلّة ، فكان أكلُهُما منها سببًا لِإخراجهما مِن الجنّة .
{ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } :
أي ممّا كانا فيه في الجنّة .
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا } :
أي مِن الجنّة ، ومِن السماء .
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } :
أنتم أعداء : آدم مع الشيطان ، وكذلك ذرّيّة آدَمَ الشيطانُ عدوّ لهم ،
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا }
وكذلك ما يجري مِن عداوة بين ذرّيّة آدم .
{ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ } :
هذا يدلّ على أنّ الجنّة التي كانا فيها ليست في الأرض وإنّما هي في السماء على الصحيح .
{ مُسْتَقَرٌّ } :
أي موضع قرار
{ وَمَتَاعٌ } :
يُستمتَع بما في هذه الدنيا .
{ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } :
أي إلى أن تنقضيَ آجالُكم . وفي هذا إشارة إلى أنّ آدَمَ سيعودُ إلى الجنّة ، لأن بقاءه في الأرض مُحدّد بِأجَل .
{ فَتَلَقَّى آدَمُ } :
{ فَتَلَقَّى آدَمُ } :
أي آدم أَلْهَمَهُ الله عزّ وجلّ ، وعلّمه كلمات .
ما هي تلك الكلمات ؟
خِلاف .
والصحيح :
أنّ أفضل ما يُفسَّر به القرآن أن يُفسَّرَ بالقرآن .
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } :
تلك الكلمات هي التي في سورة الأعراف :
{ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
{ فَتَابَ عَلَيْهِ } :
بَعد أن وقع في الزلّة تاب الله عزّ وجلّ عليه ، ولذا كان حالُه عليه السلام بعد فِعل الزلّة في أعلى المقامات مِن العبوديّة لله عزّ وجلّ . ولِذا قال عزّ وجلّ عنه في سورة طٰهٰ :
{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى }
{ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } :
{ التَّوَّابُ } :
اسم مِن أسمائه عزّ وجلّ بِصيغة المبالغة ؛ لأنّه كثير ما يتوب على عباده ، وكثيرًا ما يُذْنِب عباده ، فيتوب عليهم
{ الرَّحِيمُ } :
أتى بعد التوّاب مِن باب بيان أنّ توبة الله عزّ وجلّ على عِبادِه مِن رحمته ، وأنّ مِن رحمته عزّ وجلّ ، أنّه يتوب على عباده .
{ قُلْنَا اهْبِطُوا } :
كرّرَ الفعل ( اهبطوا ) مِن باب أن يبنيَ عليه حُكمًا آخر غير الحُكم السابق .
الحكم السابق :
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }
هنا :
{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا }
لِيَبنيَ عليها الحُكم ، وهو مَجيء { هُدًى }.
{ فَإِمَّا } :
كلمة ( إمّا ) مكوّنة مِن أمرَين ( إن ) الشرطيّة مع ( ما ) الزائدة ، وتحتاج إلى جواب .
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } :
رسول وكتاب . الجواب ، جواب الشرط ( إِنْ )
{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } :
وأضاف الْهُدَى إِلَيْهِ ؛ لأنّه لا هِداية لِلبشريّة إلّا مِن طريق الله عزّ وجلّ ، ومِن شرع الله عزّ وجلّ .
وقوله { فَمَن تَبِعَ } :
( مَن ) أيضًا هذه شرطيّة ، جوابُها : { فَلَا خَوْفٌ } الثمرة في مَن اتّبَع الْهُدَى { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يَستقبلونه ، { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فيما مضى .
وهذا شامل لِنَفي الخوف والحزن في الدُّنيا وفي الآخرة .
وفي سورة [ طه ] مِن ثمرات اتّباع هذا الهُدى :
{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) }
ولِذا :
قال بعدها فيمن ترك الْهُدَى في هذه السورة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا } جَمَعوا مع الكفر التكذيبَ
{ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } :
التي أنزلها الله عزّ وجلّ على رُسُله ، وجعلَها في كُتُبه .
{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } :
فهم مصاحبون للنار
{ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } :
أي ماكِثون .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } :
لمّا ذَكَرَ شأن آدم وإبليس ذَكَرَ ضلال هؤلاء اليهود ؛ لأنّ الآيات السابقات بيّنَت :
{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) }
ومِن صِنف مَن كذّب ، مَن ؟
بنو إسرائيل .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } :
إسرائيل :
هو يعقوب عليه السلام ، وأضافهم إليه ، تذكيرًا بِحالِه ، مِن أنّ جَدّهم كان صَالِحًا قانتًا مُطيعًا لله عزّ وجلّ . فيُذكَّر الإنسان بالخِصال الطيّبة التي كان عليها أجداده .
كما قال عزّ وجلّ :
{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ }
يعني يا ذرّيّة مَن حملنا مع نوح
ما الثمرة ؟
{ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا }
فلِماذا لا تكونون عبيدًا لله عزّ وجلّ شاكرين له .
كذلك هنا :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ }
{ اذْكُرُوا } :
يَتضمّن الذكر بالقلب وباللسان وبالجوارح . فعَلَيهم أن يَذْكُروا نِعَم الله عزّ وجلّ عليهم ؛ لِكَي تمتلئ قلوبهم بالإيمان ، وتذكر ألسنتهم نِعمةَ الله وفضْلَه ، وتَعمل جوارحُهم لله عزّ وجلّ .
{ نِعْمَتِيَ } :
نِعمة : مفرد ، أُضيفت إِلَيْهِ عزّ وجلّ فَتَعُمّ ، كما قال عزّ وجلّ :
{ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا }
فهي ليست نعمة واحدة ، وإنّما هي نِعَم كثيرة .
وهو يُخاطِب جلّ وعلا مَن في عصره ، مَن في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لِيُذكّرهم بِحال أجدادهم ، لأنّ الله عزّ وجلّ أنعَم على بني إسرائيل ، كما سيأتي إذ نجّاهم الله عزّ وجلّ مِن فِرعون ، وأنقذهم الله عزّ وجلّ ، وجعَلَهم مُلُوكًا في الأرض :
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا }
{ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } : فالمنعِم هو الله عزّ وجلّ .
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } :
ما هو عهد الله الذي أمَرَهم به ؟
وما هو عهده عزّ وجلّ الذي سيُوَفّيه لَهُم تفضُّلًا منه وكرَمًا ؟
مُفسَّر في سورة المائدة :
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا }
أُوفِي بِعهدكم :
{ لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }
{ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } :
أي خافونِ . وقَدَّمَ ( إيّاي ) : مِن باب الحَصر ، فلا يُخاف ولا يُرهَب إلّا مِن الله عزّ وجلّ .
ثمّ لمّا ذَكَرَ عزّ وجلّ ما ذَكّرَهم به مِن نِعمته أمَرَهم أن يؤمنوا بهذا الكتاب ، وهو القرآن .
{ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ } :
وهو القرآن
{ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ }:
فهو يصدِّق ما معكم . ولذلك كان مِن المُفترَض أن يؤمنوا بهذا القرآن ، وأن يحرِصوا عليه ؛ لأنّه يُصَدِّقُ ما بأيديهم مِن التوراة .
{ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ }
{ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } :
وقد كَفَر به قَبلَهم قريش ، لكن لماذا قال لهؤلاء مع أنّ قريشًا كفرتْ قبلهم ؟ لأنّ لهؤلاء أتباعًا ، وهم أصحاب كتاب ، فسَيَتبعُهم غيرُهم ، وهذا يدلّ على أنّ مَن كان له قَدَمٌ في العلم الشرعيّ ، وله أتباع ، عليه أن يتّقيَ الله عزّ وجلّ ؛ لأنّه قُدوة ، إمّا أن يكون قدوة خير أو قدوة شرّ .
{ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } :
وَلَمْ يَقُل ( ولا تكونوا أوّل الكافرين )
بمعنى :
ولا تكونوا أوّل فريقٍ كافرٍ به { وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ }
{ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } :
{ وَلَا تَشْتَرُوا } :
ومَن يشتري ، إنّما يشتري عن رغبة ، فاشترى الضلالة والدنيا ، والثمن آياتُ الله عزّ وجلّ ، وشرعُ الله عزّ وجلّ .
{ ثَمَنًا قَلِيلًا } :
أي لا تُقَدِّموا الدنيا ، لأنّ الثمن القليل كما قال بعض المفسِّرين ، وهو الصواب ( الدنيا كُلّها ثمنٌ قليلٌ بالنسبة إلى شرع الله عزّ وجلّ ، وبالنسبة إلى ما أُعِدَّ لِلإنسان في الآخرة )
{ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } :
وهذا إن دلّ ، يدلّ على خطورة العالِم الذي يَكتمُ شرعَ الله أو يُلبِس الحقّ بالباطل ، ولذا سَيَذكُر عزّ وجلّ بعد ذلك أنّ هذه الصفات السيّئة هي صفات اليهود .
{ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } :
قَدّمَ إيّاي ، مِن باب الحَصر ، ومِن باب أنّ الإنسان يجعل نُصبَ عَينَيه تقوى الله عزّ وجلّ ، ولا يَلتفت إلى الدنيا ويَحرص على الدنيا في سبيل تضييعه لِتقوى الله عزّ وجلّ { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } وهذا هو حال اليهود . والسبب في كَونِهم ألبَسوا الحقّ بالباطل ؛ لأنّهم يريدون الدنيا ، كما في الآية التي قَبلها { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا }
{ وَلَا تَلْبِسُوا } :
أي ولا تَخلِطوا الحقّ بالباطل
{ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } :
فهاتان جِنايتان . فعالِم السُّوء إمّا – وذلك مِن أجل أن يحققّ رَغَباته الدّنيئة لِتحصيل هذه الدنيا على حِـساب الدِّين – إمّا أن يُلبِس الحقّ بالباطل ، حتى يَروج هذا الباطل في هذا الحقّ الذي أتى به ، لأنّه إذا أتى بِالْحَقِّ يَنخدع الناس كحال السَّحَرَة الذين تأتيَهم الشياطين بالكلمة فَـيكذِب معها مئة كذبة ، فَيُصَدَّق بتلك الكلمة التي ألقاها الشيطانُ في أُذُنه لمّا استرقها مِن الملائكة .
{ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } :
هذا صِنف . ولذلك في هذا نَهيٌ للعالِم ولِطالب العلم وللمسلم عمومًا ، نهيٌ عن أن يُلبِسَ الحقّ بالباطل ، وَلَوْ لَمْ يَكُن مُريدًا لثمن الدنيا . فكيف إذا كان المقصود أن يتحصّلَ على الدنيا .
وفي هذا خطورة أهل البدع وأهل الأهواء الذين يُلبِسون الحقّ بالباطل .
{ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } :
يكتمونه ، مِن غير أن يُلبِسوا الحقّ بالباطل . وهذا صِنف آخر . وكتمان الحقّ مِن أعظم الظلم . فكيف إذا كان المقصود مِن كِتمانه أن يتحصّل الإنسان على غرضٍ مِن أغراض الدنيا ، قال عزّ وجلّ :
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ }
{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } :
وأنتم تعلمون أنّ ما تَذْكرونه يُغضب الله ، وتعلمون عاقبة مَن كَتَمَ العلم وألبَسَ الحقّ بالباطل ، فَلَستُم جُهّالًا ، بل أنتم على عِلم . والحُجّة على العالِم أقوى مِنه على غَيره .
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } :
أمَرَهم بإقامة الصلاة .
وفي هذا دلالة على أنّ مِن السُّبُل التي تُبعِد الإنسان عن أن يُسيء إلى شرع الله ، أو أن يقعَ في الذنوب الصلاة .
ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ }
قال :
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } :
أي بأركانها وبواجباتها وبشروطها ، وَلَمْ يَقُل صَلُّوا .
{ وَآتُوا الزَّكَاةَ } :
لأنّ في إتيان الزكاة تطهيرًا للنفس مِن الشُّحّ ، وأنتم جُبِلَت قلوبُكم لِـما فيها مِن حُبّ الدنيا جُبِلَت على الشُّحّ ، كما سيأتي في قوله عزّ وجلّ :
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ }
{ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } :
أي صَلُّوا مَـعَ المصلِّين ، وأتى بالركوع مع أنّ المقصود الصلاة .
إذا أُتِيَ بجزءٍ مِن الصلاة ، والمُراد منه الصلاة ، فيكون هذا الجزء رُكنًا ، وأيضًا فيه دليل على وجوب صلاة الجماعة .
{ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } :
مَن هُم الراكعون ؟
أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مِن الصحابة الذين كانوا في عصرهم ، ولَعَلّه نَصّ على الركوع أيضًا ، كما قال بعض العلماء : لأنّ صلاة اليهود لَمْ يَكُن فيها ركوع .