التفسير المختصر الشامل ( 5)
تفسير سورة البقرة :
من الآية (44) إلى الآية (52)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } :
استفهام إنكاريّ . أنتم أيّها اليهود { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ }
{ النَّاسَ } :
( هُنا ) هُم الأقرباء لهم إذا أتَوْهُم في السرّ وسألوهم عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قالوا هو نبيّ فاتّبعوه
{ بِالْبِرِّ } :
البِرّ هو اسمٌ جامعٌ لخِصال الخير ، ومِن أعظم ما يكون ما يتعلّق بالعقيدة ، مِن الإيمان بالله وبالقرآن وبالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم .
{ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } :
أي تَترُكون أنفسكم ؟
وأعظم ما يكون للإنسان أن يُقَدِّمَ الخير إنّما يُقَدِّمُ لِنَفسِه ، فهؤلاء نَسُوا أنفسهم ، والحال { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } وهذا القَيد فيه تقبيح لشأن هؤلاء اليهود
فهُم أصحاب كتاب { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } وتعرِفون أنّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيّ وأنّ القرآن هو كتاب الله ، كما قال عزّ وجلّ { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ } في صفات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } :
استفهام إنكاريّ ، يُنكِر عليهم ، أين عقولكم التي ذهبَتْ وضَلّت وتاهت فلَم تأمروا أنفسكم بالخير ، وفي هذا خطورة مَن ينهى الناس عن الذّنب ويقع فيه ، ولكن ليس معنى ذلك أنّ الإنسان إذا واقعًا في ذنب أنّه لا ينهى غَيره عن هذا الذنب الذي هو واقع فيه ، فلا تدلّ الآية على هذا أبدًا ، إنّما تدلّ الآية على سُوء مَن نهى شخصًا عن ذنب هو واقعٌ فيه ، ولا تدلّ على أنّ الإنسان لا يأمُر غَيره بِتَرك الذنب الذي وقع هو فيه ،
فلو كان مثلًا :
إنسان مثلًا – مِن باب الأمثلة المشهورة – لو كان يُدَخّن ، ورأى إنسانًا يُدَخّن ، فالواجب عليه – ماذا ؟ – أن ينهاه ، والواجب عليه أيضًا أن يَترك هو الدخّان ، وذلك لأنّه إذا نهاه ، وذلك لأنّه إذا نهاه وهو واقعٌ في الذنب ، هذا ذنب واحد ، لكن لو تَرَكَ النَّهي عن المنكر وقع في ذنبٍ آخر .
{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } :
{ وَاسْتَعِينُوا } :
أنتم وغَيرُكم محتاجون إلى أن يستعين بالصبر ، فالصبر فيما لو دَعَتكُم نفوسكم إلى أن تكتموا الحقّ وأن تَقَعوا في الـذَّنب فَصَبِّروا أنفسكم . فإذا أراد الإنسان وَأَمَرَتهُ نفسه بأن يقع في الذنب يُصابِر نفسه يجاهدُها ، ولذلك قال عزّ وجلّ :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } :
أُمِروا بالاستعانة بالصلاة كما أُمِروا بالاستعانة بالصبر ،
ولذلك :
النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا حَزَبَهُ أَمْرٌ كما ثبت عنه قال :
(( أَرِحنا بها يا بلال ، أَرِحنا بها يا بلال ))
وجمع بين الصبر والصلاة ، لأنّ الصبر تتعلّق بالقَدَر ، والصلاة تتعلّق بالشَّرع ، ولا تَنافي بين الشَّرع وبين القَدَر ، خِلافًا للقَدَرِيّة ومَن ضَلّ واتَّبَعَ سبيلهم .
فالإنسان مأمور بعبادة الله عزّ وجلّ ، وبِطاعة الله ، ولا يَقُل ربّما قدّر الله عليّ أن أكون مِن أهل النار ، فلا تَعارُضَ بَين الشرع وبَين القَدَر .
[ وسيأتي لهذا مزيدُ حديثٍ بإذن الله تعالى ]
{ وَإِنَّهَا } :
{ وَإِنَّهَا } : الضمير – لم يَقُل وإنّهما – قال :
{ وَإِنَّهَا } :
{ وَإِنَّهَا } : الضمير إمّا أن يعود إلى كلّ خَصلة { وَإِنَّهَا } أي خَصلة الصبر وخَصلة الصلاة .
أو { وَإِنَّهَا } تعود إلى الصلاة ؛ لأنّ الصبر موجود في الصلاة
{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } :
أي الصلاة ، أو على القول الآخر الصلاة والصبر ( خصلة كبيرة عظيمة )
وإن كان الأظهر : أنّ الضمير يَعود إلى الصلاة ؛ لأنّها أقرب مذكور .
{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } :
أي لَعَظيمة
{ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } :
فَمَنْ خَشَعَ في صلاته سَهُلت عليه وأحبّها وأقبَلَ عليها ، لكن مَن يَدخل إلى الصلاة ولا يخشع فيها ، فتكون شاقّةً عليه .
ثمّ وصف الخاشعين :
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ } :
أي يُوقِنُون ، فالظنّ يأتي بمعنى اليقين ، وبمعنى غَلَبَة الظنّ ، وبمعنى الشكّ وَهُنا { الَّذِينَ يَظُنُّونَ } أي يُوقِنُون ،
ولذا قال بعض العلماء :
إذا أتَتْ الأدلِّة والبراهين واجتمعت على أمْر فهو اليقين ، وإن كان هذا الأمر تتجاذبه براهين وغير ذلك فيكون ظنًّا ، وإن غَلَبَت الشكوك على البراهين كان شكًّا .
فالظنّ هُنا هو اليقين .
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ } :
لُقْيا خاصّة فيها تكريم وتشريف ، وإلّا فَكُلّ عَبدٍ سَيَلقى الله عزّ وجلّ
{ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ }
كلّ إنسان سيُلاقي الله عزّ وجلّ ، لكن لُقْيا ( هُنا ) لُقْيا خاصّة بالمؤمن الخاشع ، وتَتضمّن هذه اللُّقيا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ، تَتضمّن رؤية الله عزّ وجلّ ، فهم يَرَوْن الله
{ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } :
فيَرجعون إِلَيْهِ عزّ وجلّ ، فيحاسِب كلّ إنسان بِحَسَب ما عَمِلهُ .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } :
كرَّرَ نِداء بني إسرائيل ، مِن باب التذكير بِمَا أنعم الله على أسلافهم ، مع أَنَّ المخاطَبين مَن ؟ هُم مَن في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وخُوطِبوا لأنّ المِنّةَ على الآباء والأجداد هي مِنّة على الأبناء ، ولأنّ هؤلاء اليهود رَضُوا بما فَعَلَهُ أسلافهم مِن الشرّ ، ومَن رَضِيَ فكأنّه فَعَل .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } :
ذَكّرَهم بإسرائيل ، مِن أنّهم أبناء إسرائيل الذي هو يعقوب عليه السلام
{ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } :
اذكروها بقلوبكم وبألسنتكم وبجوارحكم { الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } .
أنعم الله عليهم بِنِعَم عظيمة
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ }
{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) }
{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } :
{ عَلَى الْعَالَمِينَ } :
قُلْنَا في قوله تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } :
العالَمون : كلّ ما سوى الله فهو عالَم .
قال هُنا :
{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }
هل هُم فُضِّلوا على العالَمين السابقين والمتأخّرين حتّى مِن أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟
قيل بهذا ، بِاعتبار أنّ الأنبياء فيهم كُثُر ، ولذلك قال الله عزّ وجلّ :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ }
لكنّ هذا القول فيه ما فيه ، بِاعتبار أنّ قَبل بني إسرائيل فيهم أنبياء ، وقَبلهم مَن ؟
إبراهيم عليه السلام خليل الله ، وبعدَهم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم خليل الله ، وإنّما المقصود أنّهم فُضِّلوا على العالَمين بِاعتبار زمانهم ، لكنّهم ليسوا بأفضل مِن أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والتي قال الله عزّ وجلّ عنها :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا } :
أمَرَهم بِأن يتّقوا هذا اليوم ، وهو يوم القيامة ، ونُكِّرَ لِلتعظيم . وإذا اتَّقَى العبدُ هذا اليوم ، فقد اتَّقَى الله عزّ وجلّ ، فلا تنافيَ بينه وبين قوله تعالى :
{ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ }
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا } :
احذروا مِن ذلك اليوم ، يوم القيامة
{ لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } :
أي لا تُغني نفسٌ عن نَّفْسٍ شيئًا ، يعني أيَّ شيء ، كما قال عزّ وجلّ :
{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) }
وكما قال تعالى :
{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) }
{ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } :
إلّا بِشَرطَين :
بإذن الله عزّ وجلّ الشافع أن يَشفع ورضاه عن المشفوع له .
كما قال تعالى :
{ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى }
{ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } :
الفِعل مُذَكَّر ، وَلَمْ يَقُل ( ولا تُقبَل منها شفاعة ) وذلك لأنّ الشفاعة تَتضمّن الشفيع { وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } أي شفيع .
كما قال تعالى :
{ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ }
أي وَعظٌ مِن ربِّه . ولهذا نظائر .
{ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } :
لا يؤخذ منها فداء ومال لكي يُنقذَ الإنسانُ نفسه .
{ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } :
ليس هناك مَن ينصرهم ، وذَكَرَ الشفاعة والعدل وهو الفِداء والنُّصرة ، لأنّ الإنسان إنّما يتحصّن ويحمي نفسه ، أو يدفع عن نفسه المضارّ في هذه الدنيا بهذه الأسباب :
إمّا شفاعة وساطة ، أو أن يدفعَ مالًا أو أن يكون له أعوان ينصرونه ويُعِينونه . فنفى الله عزّ وجلّ عنهم [ هذه الأشياء ] في الآخرة [ التي كانوا يَركَنون إليها في الدنيا ].
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ } :
خاطَبَهم وَهُم في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } :
لأنّ المنّة على الأجداد كما سبق هي مِنّة على الأبناء ، ولأنّهم رَضُوا بما فعله أسلافهم ، فكان حُكمُهم كَحُكمِهم .
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ } :
مأخوذٌ مِن النجوى وهو الارتفاع ، يعني ارتفعتم بهذا الإنجاء .
{ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } :
يشمل فرعون وآلَه ، بدليل أنّ مَن يعذّبهم فرعون ومَن معه ( الآل ) يُطلَق على الأتباع ، ويُطلَق على الشخص نفسِه ، إلّا إذا دلّ دليل يَخُصُّ أحدَهما .
{ يَسُومُونَكُمْ } : أي يُذيقونكم .
{ سُوءَ الْعَذَابِ } : أي أشدّ العذاب .
ما هو هذا العذاب ؟
تفسيره ما بعده ، كما قال بعض المفسِّرين :
{ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ }
لكن في سورة إبراهيم قال :
{ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ }
أتى بالواو التي تجعل التذبيح والاستحياء خِلاف سَوم العذاب . فقال هؤلاء إنّ الواو زائدة .
والذي يَظهر أنّ قوله تعالى :
{ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ }
أي أشدّ العذاب المتنوّع ، مأخوذ مِن السَّوْم وهو التَّنَقُّل ، كما يَنقُلُ الإنسان بَهائمه السائمة التي تَرعى في الصحراء مِن مَوطنٍ إلى موطنٍ آخر . ويكون مِن ضِمن هذا العذاب بِدلالة سورة إبراهيم :
{ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } :
وهذا التذبيح سببُه كما ذكر كثيرٌ مِن المفسِّرين مِن أنّ فرعون خَشِيَ على مُلكِهِ أن يزول على يد غُلاَمٍ مِن بني إسرائيل ، فأَمَرَ بِذبح الأبناء ، واستِبقاء النساء ، وهذا يُسمّى بحديث الفُتُون ، رواه النسائيّ في السُّنن الكُبرى وهو حديثٌ طويلٌ ، حديثُ ابن عبّاس رضي الله عنهما ، لكن ليس هناك – كما سيأتي في سورة طه – ليس هناك دليلٌ صحيحٌ على هذا .
وعلى كلّ حال يُستأنَس بذلك ، فيكون هذا مِن قَبيل الإسرائيليّات التي يُستأنَس بها ، والتي لا تُصَدَّق ولا تُكذَّب وقد ذَكَرَ ذلك جُملةٌ مِن أهل العلم ، ولعلّ الحديث يَستفيض بِنَا إن شاء الله في بيان هذا الحديث ( حديث الفُتون ) وما شابه ذلك في سورة طه
{ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } :
{ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } :
الذّبح المعروف ، في سورة الأعراف { يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ } فإمَّا أن يكون الذّبح المقصود منه القتل ، أو أنّهم يفعلون ذلك تارة ، يذبّحون البعض ، ويَقتُلون البعض بِغَير آلة الذّبح .
{ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } :
أي يَستَبْقون النساء ، واستِبقاء النساء في ظاهرها نعمة ، لأنّهم لَم يعتدوا على نسائهم ، لكن لمّا قُرِنَ بِتذبيح الأبناء ، دلّ على أنّه ليس بِنعمة وإنّما هو عقوبة ، أن يرى الإنسان أبناءه يُذبَّحون ، وأن نساءه يُستَبقَون مِن أجل الخدمة .
{ وَفِي ذَلِكُمْ } : أي ما سبق .
ما الذي سبق ؟
{ وَفِي ذَلِكُمْ } :
الضمير : إمّا أن يعود إلى النجاة ، وإمّا أن يعود إلى العذاب .
ولذلك قال :
{ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ } :
أي امتحان
{ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } :
ولا شيء أعظم مِن أن يُذبَح أبناء الإنسان ، وأن تُستَبقى نساءه وبناته للخدمة .
{ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } :
{ بَلَاءٌ }
{ وَفِي ذَلِكُمْ } :
إن كان الضمير يعود إلى النجاة ، فيكون بَلوى نِعمة : أتَشكرون أم لا ؟ وإن كان الضمير يعود إلى { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } فهو ابتلاء مِحنة ؛ لِيَنظر : هل يَصبِر الإنسان أم لا ؟ والابتلاء كما يكون بِما يَسُوء الإنسان ، أيضًا بما يُفرح الإنسان .
فالنِّعمة ابتلاء وامتحان .
قال تعالى :
{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
{ وَإِذْ فَرَقْنَا } :
يُعَدِّد عليهم النِّعَم التي كانت على أسلافهم
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } :
أي بِسببكم انفلقَ البحر ، أو لأجلكم انفلقَ البحر ، لمّا تَبِعهم فرعون ومَن معه مِن جُنوده ، كما ذَكَرَ عزّ وجلّ في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) }
{ فَأَنْجَيْنَاكُمْ } :
فَأَنْجَيْنَاكُمْ لمّا دَخَلتم في البحر . وهذه نِعمة .
نِعمةٌ أُخرى : أن تَرَوا أعداءكم قد هَلَكوا ، هذه نِعمة أخرى
{ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } :
أي أتباع فرعون . هل يدخل فرعون معهم ؟ نعم ، يدخل معهم ؛ لأنّ الآل كما سبق يدخل فيها الإنسان نفسه وأتباعه .
{ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } :
وأنتم تُبصِرون أعداءكم – بِأُمّ أعينكم – وهم يهلكون ؛ مِن باب أن تتشفَّى صدوركم وأن تعلموا عِلم اليقين أنّ أعداءكم قد هلكوا ، يقينًا ترونهم . كما أخبر عزّ وجلّ عن رئيسهم فرعون في سورة يونس
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } :
ولِيطمئنّ بنو إسرائيل مِن أنّ فرعون قد هلك ، وأنّ جنود فرعون قد هلكوا .
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } :
واعَدَ الله عزّ وجلّ موسى أربعين ليلة ، هي ثلاثون ليلة ثمّ أتمَمَها بعشر ، كما في سورة الأعراف :
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ }
واعَدَه مِن أجل أن يُعطِيَه التوراة ، فالتوراة إنّما أُنزِلت على موسى بعد أن أهلك الله عزّ وجلّ فرعون .
قال تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ }
فبعدَ أن نجّى الله عزّ وجلّ موسى وقومَه مِن البحر ، وأهلكَ عزّ وجلّ فرعون وقومَه واعَدَه عزّ وجلّ أربعين ليلة ، تحديدُها والمقصودُ منها الله أعلم بذلك .
[ وسيأتي بيان لها في سورة الأعراف بإذن الله عزّ وجلّ أكثر ؛ لأنّها في سورة الأعراف فُصِّل عنها بأكثر ممّا في سورة البقرة ]
{ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } :
لَم يَقُل يومًا ؛ لأنّ الليلة هي التي يدخل بها اليوم عند العرب . كما نقول مثلًا – وهذا هو المعمول به – مثلًا ( ليلة العيد ) يعني دَخَل العيد ، فلا صلاة تراويح ، وهذا كَمثال . وقيل إنّ ذِكْر ليلة مِن باب أَنَّ موسى عليه السلام أُمِر بِصيام ثلاثين يومًا مع الليل ، فيكون صيامه متواصلًا ، فبعد الثلاثين استاكَ ، فتغيّرَت رائحةُ فَمِه ، فأنكَرَ الله عزّ وجلّ عليه ، وأمَرَه بِعشر ليالٍ أُخَر أن يصومها . لكن هذا لا نَعلَمُ له دليلًا صحيحًا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
فيكون ذِكر الليلة باعتبار أنّ اليوم عند العرب ، وحتّى في الشرع يدخل بالليل.
{ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } :
اتّخذتم العجل إلٰهًا .
{ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } ماذا ؟ هناك شيء محذوف بدلالة الآيات في سُوَر أُخرى (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلٰهًا )
{ مِن بَعْدِهِ } :
مِن بعد موسى عليه السلام ، لأنّ موسى لمّا نَجَّى الله عزّ وجلّ قومه وأهلك فرعون ، أمَرَه عزّ وجلّ أن يأْتِيَ إِلَيْهِ بعد أربعين ليلة لكي يأخذَ التوراة ، فاستَبطَأَت – مِن بعد ما ذهب موسى – استبطأت بنو إسرائيل قدوم ( ماذا ؟ ) موسى ، فجرى ما جرى مِن فِعل السامرِيّ في سورة طٰهٰ :
{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) }
[ وسيأتي له تفصيل بإذن الله تعالى ]
{ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } :
ظالمون إذ اتّخذتم هذا العجل إلٰهًا مِن دون الله . وأيَّ ظُلم أعظم مِن الشرك بالله عزّ وجلّ ؟ فَفِعلكم هذا أعظم الظلم ، الذي هو الشرك بالله عزّ وجلّ . ولذلك قال عزّ وجلّ عن لُقمان :{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } :
عفا الله عزّ وجلّ عنهم مِن ما اتَّخَذُوا العجلَ إلٰهًا ، وذلك أنّ موسى كما قال عزّ وجلّ :
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا }
لكي يعتذروا مِن عبادة العجل .
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } :
لأنّ عفوَ الله عزّ وجلّ لِلعبد يَستوجِب الشكر ؛ لأنّ أعظم ، ومِن أعظم النِّعَم أن يتوب الله عزّ وجلّ عليه ، ثمّ أيضًا قال :
{ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } كما قال في آيات أُخَر { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي رجاءَ أن تَشكروا الله ، فلا تتّكِلوا على أنفسِكم ، عليكم بِشُكر الله عزّ وجلّ ، ولا تتّكلوا على أنفسكم وإنّما عليكم أن تَرجو الله عزّ وجلّ أن يوفّقكم لِشُكره