التفسير المختصر الشامل الدرس (7) تفسير سورة البقرة من الآية (67) إلى (83)

التفسير المختصر الشامل الدرس (7) تفسير سورة البقرة من الآية (67) إلى (83)

مشاهدات: 465

التفسير المختصر الشامل ( 7 )

تفسير سورة البقرة

من الآية [67 ]  إلى الآية [83]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله تعالى :

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً }

هذه لها سبب سيأتي في الآيات التي بعدها { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } حصل عندهم قتيل ، ذلكم القتيل ما سببه ؟ روايات ، وليس عليها فيما نَعلم ، ليس عليها دليل صحيح في تعيينها ، لكن حَصَلَ قتيلٌ عندهم ولم يعرِفوا قاتِلَه، ولم يعرفوا قاتله . نعم

فأَتَوا إلى موسى ، فأمَرَهم موسى بأن يذبحوا بقرة :

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً }

هذا يدلّ على أنّ الأفضل في البَقَر أن تُذبَح ولا تُنحر كالإبل ، وفرقٌ بين الذّبح وبين النّحر .

 

{ بَقَرَةً } : في سياق الإطلاق ( يعني أيّ بقرة اذبحوها ) أمَرَهم أن يذبحوا أيّ بقرة .

{ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } ما علاقة ذبح البقرة بِقصّة هذا القتيل ؟

{ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ } أعتصمُ بالله

{ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ومِن الجهل أن يُجيبَ الإنسان جوابًا بعيدًا عن السؤال .

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن } :

 { يُبَيِّن } فِعل مضارع مجزوم بالأمر { ادْعُ }

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } :

{ مَا هِيَ } أي ما سِنُّها ؟ بِدليل ما بَعدَها .

{ قَالَ إِنَّهُ } أي: الله { يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ } لا كبيرة في السِّنّ { وَلَا بِكْرٌ } ولا صغيرة في السِّنّ { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } وَسَط ، نَصَف { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } عَلِمَ مِن حالِ سؤالهم أنّهم سيَتَعَنّتونَ في الأسئلة فقال { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } وهذا مِن حِرص الأنبياء عليهم السلام على قومِهم  { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } لكنّهم لم يَكْتَفوا بهذا

 

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا }

{ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } أي شديدة الصُّفرة ، وليست شديدة السَّواد ، كما ذهبَ إلى ذلك البعض ؛ لأنّه لا يُقال عن الأسود فاقِع ، وإنّما يُقال أسودٌ حالِك ، وإنّما يُقال عن الأصفر شديد الصُّفرة ( فاقِع )

{ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } مَن نظرَ إليها أسَرّتْهُ ، وليس معنى ذلك على وَجْه الإطلاق كما قيل مِن أنّ الإنسان إذا أرادَ أن تُسَرَّ عينُه ونَفْسُه أنّه ينظرُ إلى شيء أصفر شديد الصُّفرة . هذا ليس على وجه الإطلاق .

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } السؤال هُنا عن حال هذه البقرة ، هل هي عامِلة أَمْ أنّها غير عاملة ، هل تعمل أَوْ لا ؟ هَلْ دُرِّبَت على العمل أم لا ؟

 

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } لَمْ يَقُل ( تشابهتْ ) لأنّ الفِعل ذُكِّرَ باعتبار الجَمْع في البقر

{ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } التَّشابُه مِن حيث الوُجُوه ،

ولذلك في حديث حُذَيفة رضي الله عنه لَوْ صحّ عن الْفِتَن ، ومعناه صحيح ، قال ( فِتَن كَوُجُوه البَقَر ) لأنّه في الْفِتَن – إذا توالت – لا يُميَّز بين هذه وبين هذه ، ولذلك في صحيح مسلم ( فِتَن يُرَقِّقُ بعضُها بعضًا

{ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } استثْنَوا

{ لَمُهْتَدُونَ } إلى هذه البقرة .

في حديث ( لَوْ لَمْ يَستَثنُوا لَمَا اهتَدَوا إليها ) والصحيح أنّه موقوف على أبي هُريرة وليس مِن قَول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

 

{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ } :

وصَرَّح بكلمة ( بقرة ) مِن باب التوضيح لهؤلاء

{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ } :

أي ليست مُذلَّلَة لِلعَمَل

{ تُثِيرُ الْأَرْضَ } داخِلة في ضِمن جُملة النَّفي ( أي لا تُثيرُ الأرض للزِّراعة ) { وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ } وهو سُقْيا الماء عَن طريق البقر . وهذا هو معنى الآية .

أمّا مَن قال : نَقِف عند قوله { لَّا ذَلُولٌ } ثمّ { تُثِيرُ الْأَرْضَ } أي أنّها تُثير الأرض ، وهي لا تسقي الحَرْث ، فهذا خِلاف السِّياق ؛ لأنّه كيف يُثْبَت لها أنّها تُثير الأرض ولا تَسقي الحَرْث ؟

 

 { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ } :

أي هي لا تُثير الأرض ، ليست مُذلَّلة للزِّراعة ولا لِلسَّقْي { وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ } يعني الزَّرع .

{ مُسَلَّمَةٌ } أي سالمة مِن العُيوب { لَّا شِيَةَ فِيهَا } أي لا لَوْنَ فيها آخر غَيْر الصُّفرة { لَّا شِيَةَ فِيهَا } مأخوذٌ مِن وَشْيِ الثوب أي مِن زَخارِف الثوب .

ولذلك :

في الحديث الحَسَن الصحيح عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ( يَدْرُسُ الإسلام كما يَدْرُسُ وشْيُ الثوب ) يعني يختفي أو تختفي معالِم الإسلام كما تختفي مَعالِم وزَخارِف الثوب { لَّا شِيَةَ فِيهَا } أي لا لَوْنَ فيها .

{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } وهو قَدْ جاء بِالْحَقِّ مِن أوّل الأمْر ( اذْبَحوا بَقَرة )

{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } :

أي جئتَ بالبَيان الوافي عن هذه البقرة وعن أوصافها { فَذَبَحُوهَا } امْتَثَلوا ، لكن بعد تَعَنُّت { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } وما كادوا يفعلون مِن شدّةِ تَعَنُّتهم وأسئلتهم ، وقيل ( مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) لِغَلاءِ ثمَنِها باعتِبار أنّهم لم يجدوا إلّا هذه البقرة عند يتيم ، وطلَبَ ذَهبًا كثيرًا . لكن هذه لا يُعلَمُ لها سنَدٌ صحيحٌ إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بل جاءَ ما يُخالِفُها مِن الآثار مِن أنّها اشْتُرِيَت بِدنانير قليلة .

 

فدلّ هذا على أنّ هذه القصّة ( مِن أنّهم لَمْ يَجِدوها إلّا عند فقير واختَلفت الرِّوايات في ذلك ) ليست عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فيكون معنى { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } مِن شدّة تَعَنُّتهم وأسئلتهم ، لا مِن أجل كثرةِ ثَمَنها ، لِعدَم الدّليل الصحيح  في ذلك .

 

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } :

هذا هُوَ السبب . أُخِّر ؛ لأنّه إذا قَرأ القارئ وسَمِعَ القارئ { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً } سَيَستَحْضِرُ ذِهنَهُ ، يقول : لماذا أمَرَهم ؟ مِن باب إحضار القلوب إلى أن تَستَمِعَ إلى هذه القِصّة ، فأتى السبب بَعْدَها { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } القَصَص والآثار في سبب القتل ( هل هُوَ مِن شخصٍ اسْتَبْطَأَ مَوتَ عمِّه وَكَانَ عمُّه ثريًّا، فَقَتَلهُ إلى غير ذلك ) هذه ليس لها ، وليس عليها دليلٌ صحيحٌ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم . لكن وُجِد القتلُ في بني إسرائيل

 

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } : يعني اختَلَفتم فيها.

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } :

سيُظهِرُ اللهُ عزّ وجلّ ما في صدوركم ، ومِن ذلك حال مَن قَتَل هذا القتيل  وهذه الآية { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } تدلّ على أنّ مَن أضمَرَ في نفسِه شيئًا ، فَسَيُظْهِرُه الله عزّ وجلّ على لِسانه . وفيهِ إشارة إلى ما يقوله الناس يقولون  ( إنّ الدَّم لا يذهب سُدى ) سيُعْثَر على القاتِل وَلَوْ بعد حين . لعلّ هذه الآية تدلّ على ذلك { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }

ولعلّ الآية في سورة الإسراء تُشير إلى ذلك أيضًا { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } يعني على القاتل

{ فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ }

{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } اضرِبوا هذا الميّت بِبِعضها .

هل يضربون أو ضَرَبوا ذلك بِلِسانِها أو بِذَنَبِها أو ما شابه ذلك ؟ أقوال ، ولا دليل على ذلك ، ولا دليل صحيح على ذلك ، إنّما أُمِرُوا بأن يضرِبوا هذا القتيل بِبَعْضِ أعضاء هذه البقرة .

 

{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } :

أحياهُ الله عزّ وجلّ . هذا هُوَ النوع الثاني ، أو القسم الثاني أو الصِّنف الثاني الذي أحياهُ الله عزّ وجلّ في الدُّنيا ، أماتَه في الدُّنيا وأحْياه .

والنوع الأوّل مرّ معَنا { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

 

{ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } :

لَوْ قال قائل : ما الذي أدراكم أنّه لمّا ضُرِب أحياهُ الله ؟

الآية { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } فإحياء المَوْتى سهلٌ يسيرٌ على الله ، كما أحيا هذه النَّفْس كَذَلِكَ إحياء جميع المَوْتى يسيرٌ وسهلٌ على الله عزّ وجلّ .

قال تعالى :

{ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ }

 

 { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يُريكم آيَاتِه مِن أجلِ أن تعقِلوا .

وهذا يدلّ على ماذا ؟ على أنّ مَن تأمَّل وتدبّر آيات الله عزّ وجلّ ، الآيات الشرعيّة والآيات الكونيّة مِن سموات وأرض وما شابه ذلك ، فإنّ عَقلَه يزداد ، ولذلك خِطاب الله عزّ وجلّ لِأُولي الألباب :

{ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ }

{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }

والنُّصوص في هذا كثيرة .

قُتِلَ هذا القَتيل ، وأمَرَهم موسى بأن يذبحوا بقرة ، لكن لو جَرَت هذه الحادثَةُ في الإسلام ، بِمَعْنَىٰ أنّه قُتِل قَتيلٌ ، ولا يُعلَمُ قاتِلُه ، هُناك ما يُسمّى بِالقَسَامَة في الإسلام ، بِمَعْنَىٰ أنّه لو أتى أناسٌ فادّعوا على شخصٍ أنّه قَتَلَ صاحِبَهم ، وليست هُناك بَيِّنة ، هُنا يُقال أين اللَّوَث أين القرائن ؟ هل هُناك عَدَاوَة بَيْنَه وبَيْنَه ؟ هل تَفَرّقَ هؤلاء ، أَوْ هذا الرَّجُل خرجَ مِن بَيْتِه بعد أن قُتِل .. وما شابهَ ذلك مِن القرائن .

فَهُنا إذا أتى أهلُ القَتيل ، فإنّهم يَحلِفونَ خَمسينَ يَمينًا على أنّ هذا هُوَ القاتِل ، إن كانوا حَلَفوا على أنّه قَتَلَه خطأً ، فَلَهُم الدِّيَة ، وإن حَلَفوا على أنّه قَتَلَه عمدًا فالقِصاص . على خِلافٍ بينَ أهلِ الْعِلْمِ .

 

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم } :

 { قَسَتْ } يَبِسَت وجَفَّت ، وهذا يدلّ على خُلُوّ القلب مِن الخُشوع

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } مِن بعد ما رأيتُم هذه الآيات العِظام . ولذلك حذّر ، ولذلك الله جلّ وعلا قال في سورة الحديد :

{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ  }

 

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } :

{ ثُمَّ } أُتِيَ بِـ { ثُمَّ } لِلتَّراخي ، هُناك زَمن لكي تتأمَّلوا في هذه الآيات ، تأمّلوا فيها ، أتى زمن بعد هذه الآيات ، وهذا الزّمن حَرِيٌّ بأن يتأَمّلوا ، وهُناك فُسحَةٌ مِن الوقت ، ومع ذلك ما الذي جرى لِقُلوبِهم ؟ قَسَتْ { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم } وهذا يدلّ على أنّ المُسلم عليه أن يَتعاهدَ قَلْبَه ؛ لأنّه مَحَلّ ووِعاء الْخَيْر ، ولذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه قال : ( التَّقوى هَا هُنا . وأشارَ إلى صَدرِه ) لأنّ القلبَ إذا صَلُح ، ظهَرَ الصلاح على الجَوارِح .

 

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } :

{ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } وَلَمْ يَقُل ( فَهِيَ كالحديد ) مع أنّ الحديد أقسى وأشدّ ؛ لأنّ الحديد إذا وُضِعَ في النار ذابَ ، بيْنما الحِجارة لا تذوب . فدلّ على أنّ قلوبَهم قد قَسَت قَساوةً عظيمة ،

 

{ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } :

{ أَوْ } ليست للشكّ

وإنّما هل هِيَ بِمَعْنَىٰ ( بَل ) : أي بَل أشدّ قسوة ؟

أو بِمَعْنَىٰ { أَوْ } ( للتنويع ) ، يعني ( مِنكُم مَن قَلْبُه كالحِجارة في القسوة ، ومنكم مَن هو أشدّ مِن ذلك )؟

أَوْ أنّها بِمَعْنَىٰ ( أنّها لا تخلُو مِن القسوة فإن لَمْ تَكُن قاسية ، فَهِيَ شديدة القسوة ) . وهذا هو الأقرب .

 

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } :

أي لا تَقصُر قلوبكم عن هذا ، فَهِيَ إمّا كالحِجارة في القَسْوة أو أشدّ قسوة .

ثمّ بيّن :

هذه الحِجَارَة القاسية تَلين وتَخضَع ، وقلوبُكم لا تَلين ولا تَخْضع . فأيُّ قساوة أعظم مِن هذه القساوة ؟!

{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ  وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } :

أي العُيون أقلّ مِن الأنهار .

كما جرى لمّا ضرب موسى بِعصاه الحَجَر

{ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا }

 

{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } :

وقلوبكم لا تَخْشَع، وهذا إن دلّ يدلّ -وهو القول الصحيح – أنّ اللهَ عزّ وجلّ جعل في الجمادات إدراكًا . لكن لا يَعرِفُ كُنْهَ ذلك وحقيقتَه إلّا الله عزّ وجلّ ، قال تعالى :

{ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }

وقال تعالى :

{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }

 

{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }:

قال بعض العلماء إذا رأيتَ الحجر يَتَدَهْدَه مِن عُلُوّ إلى سُفُل ، فَاعْلَم بأنّه ما تَدَهْدَه إلّا مِن خَشيةِ الله . وهذا ليس عليه دليل مَرفوع إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم . وإن كانت الآية تشير إلى ذلك ، لكن ليس على كلّ حال . وَاللهُ أعلم بحقيقة الحال .

 

{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } :

نَفى أن يَحْصُل مِنه غَفلة ؛ وذلك لِكمال عِلْمِه وإحاطَتِه بِكُلِّ أعمالكم .

{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ } : الباء ( هُنا ) زائدة للتأكيد { بِغَافِلٍ }

وهذا الجُزء مِن الآية { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } يُرَدّ به على مَن قال مِن المعاصرين مِن أنّ النَّفيَ في أسماء الله عزّ وجلّ يكون مِن حيث الْمَعْنَىٰ لا مِن حيث المَبنى .

مثلًا :

هو يقول مِن أسمائه عزّ وجلّ ( السلام ) يَتضمّن مِن حيث الْمَعْنَىٰ : نفي النّقائص عنه عزّ وجلّ ، وَلَمْ يأتِ في الاسم نفي .

ولكن نقول { بِغَافِلٍ } هُنا اسم فاعِل .

فكما قال عزّ وجلّ : { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } أتى النفي في الفعل مِن حيث المَبنى ومِن حيث الْمَعْنَىٰ ، كذلك في الاسم .

ومِن ذلك ما ثَبَتَ عند أحمد وأصله في صحيح البخاريّ ( حديث أنس ) قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لفاطمة – وهو في سَكَرات الْمَوْت – قال :

( لقد حَضَر لأبيكِ [ما هو] ما اللهُ بِتاركٍ أحدًا لِمُوافاته يومَ القيامة )

 

{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ } :

وهذا في بيان حال الصحابة رضي الله عنهم ، فإنّه لمّا ذكر قساوة اليهود ، فالصحابة رضي الله عنهم طَمِعوا في إيمان هؤلاء

{ أَفَتَطْمَعُونَ } :

طَمَع مِن الصحابة رضي الله عنهم ، طَمع به خير لعموم الناس ، وهذا يدلّ على أنّ المؤمن يحبُّ ويَطمع أن يَصِلَ الخيرُ إلى النَّاسِ كافّة

 

{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ } :

فهؤلاء لَدَيْهِمْ أسباب تمنعهم مِن الإيمان { أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ }

{ يَسْمَعُونَ } : مجرّد سماع ، وليس سَماعًا بِقَبُول

 

{ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ } :

يعني التوراة . وهذا يدلّ على أنّ التوراة كلام الله عزّ وجلّ

{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } بعد هذا السماع ( سماع كلام الله عزّ وجلّ ) يقْدِمون على على التحريف معَ أنّ هُناك زَمَنًا لِلتدبّر والتأمّل ، لأنّه أتى بكلمة { ثُمَّ } { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } وهذا مِن باب بَيان خُبث هؤلاء اليهود ، فإنّهم عَقَلوا كلام الله عزّ وجلّ وَمَعَ ذلك حرّفوه . وهذا يدلّ على طُغيان هؤلاء . أَفَيُطْمَعُ في إيمان هؤلاء ؟

 

{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } :

هل هذا التحريف للتوراة هل هُوَ تحريفٌ لألفاظها أو تحريفٌ لِمعانيها ؟ التحريف الذي وقعَ في التوراة هل هُوَ تحريفٌ لِألفاظها أم أنّ ألفاظَها باقية ، وَحُرِّفَ الْمَعْنَىٰ ؟

 

بعضُ العُلماء يقول : هي حُرِّفَت ألفاظُها، حَتَّىٰ إنّ بعضهم غَلا ، قال : إنّ هذه التوراة المَوجودة لَوْ أنّ الإنسان اسْتَجْمَر بها وأزال بها الأذى فإنّه يجوزُ له ذلك ، ولا شكّ أنّ هذا قَوْلٌ مَردود

 

القول الثاني : ليست محرَّفة مِن حيث الألفاظ ، وإنّما حرّفوا معانيها ، وهذا ما ذهبَ إِلَيْهِ البخاريّ رحمه الله في صحيحه ( يُحَرِّفون ) قال هُم يُبقُونَ اللفظ ولكن الْمَعْنَىٰ يحرِّفونه .

والصواب :

الذي تدلّ عليه الأدلّة وهو رأي شيخ الإسلام -رحمه الله- مِن أنّ اليهود مُعظم ما حرّفوه هو الْمَعْنَىٰ ، لكنّهم حرّفوا بعض الألفاظ .

نَعَم [ مِن بيْنِها ] : في التوراة موجود قَول الله عزّ وجلّ لإبراهيم ( اذْبَحْ ابنَكَ البِكر ) فأضافوا إسحاق . ومعلومٌ أنّ الذّبيح مَن ؟ هو إسماعيل .

فيقول رحمه الله : التحريف وَقَعَ في الْمَعْنَىٰ ، لكنّهم لَمْ يَسلَموا مِن تحريف بعض الألفاظ

 

{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ }

وحقيقة هؤلاء : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يَعلَمون عِظَم ما أقدَموا عليه ، ويَعلمون أَنَّ مَا أقدَموا عليه يُغضب الله عزّ وجلّ

 

{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا } هذا صِنف آخَر مِن صِنف اليهود . فالنِّفاق كما وَقَعَ في غيرهم وقعَ أيضًا في اليهود

{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ }

يقول بعضهم لِبَعْض ، يقول لهؤلاء الذين إذا لَقُوا المؤمنين قالوا آمَنَّا

{ أَتُحَدِّثُونَهُم } بأنّ في التوراة ، بأنّ فيها صفة محمّد ، وأنّ هذا الدِّين دينٌ صحيح ! كيف تُحدِّثونهم بهذا ؟!

{ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي مِن هذا العِلم . ودلّ هذا على أنّ العِلم الشرعيّ فَتحٌ مِن الله عزّ وجلّ إذا قام به العبد

{ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } غدًا { عِندَ رَبِّكُمْ } يُحاجِجكم هؤلاء المؤمنون فيقولون في التوراة صِفَة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم

{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } فيقول هؤلاء لهؤلاء { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } كيف تُقدِمون على ذلك ؟

فماذا قال عزّ وجلّ ؟

وهذا يدلّ على أنّ قَدْرَ الله عزّ وجلّ ليس عظيمًا عند هؤلاء فقال :

{ أَوَلَا يَعْلَمُونَ } يعني حَتَّىٰ لَوْ لَمْ يَقُل هؤلاء للمؤمنين إنّ في التوراة صِفَة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لمّا قالوا { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } نَسَبوا الجهلَ إلى الله عزّ وجلّ .

فماذا قال عزّ وجلّ

{ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } 

{ مَا يُسِرُّونَ } أي ما يُخفون { وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني ما يُظهِرون . سواءٌ أظْهَرتم هذا لِلصحابة أو لَمْ تُظهِروا ، فَاللهُ مُطَّلِعٌ على ذلك ، وسيُجازيكم على سوء أفعالكم .

 

{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } هذا صِنف آخر (منهم أُمِّيُّون ) عَوامّ

{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } وهذا ذَمّ أم مَدح ؟ ذَمَّ .

لكن لَوْ قال قائل : النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه في الصّحيحَين قال ( إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّة لا نَحسُب ولا نَكْتُب ) أهذا ذمّ لهذه الأُمّة ؟ لا ، هو في سِياق المدح ، بل هو صلّى الله عليه وآله وسلّم وُصِفَ بالأُميّة { النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } وإنّما المقصود بالأُمِّيَّة المحمودة هُنا : أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنّ كثيرًا مِن الصحابة كانوا لا يقرؤون ، وكانوا لا يكتبون ، وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يقرأ ولا يكتب ، ولكن كان إذا سَمِع الشيء حَفِظَه ، كان إذا سَمِع الشيء حَفِظَه . ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله : لمْ يَقُل صلّى الله عليه وآله وسلّم ( إنَّا أُمَّة أُمِّيَّة لا نقرأ ولا نَحفَظ ، قال ( إنَّا أُمَّة أُمِّيَّة لا نَحسُب ولا نَكْتُب )

قال : وذلكَ لأنّ الإنسان لَوْ تَلَقّى العِلم مِن غير أدوات التعليم مِن كِتابة وقِراءة كانَ أفضَل إذا ضَبَطه ؛ إذ إنّه بذلكَ يقتصِر عليه الوقت ، ويقتصر عَلَيْهِ الزّمن ، وأيضًا أسلَم مِن الخَطأ ممّن يكتُب وَمِمَّن يقرأ . فَلِذلك مُدِح صلّى الله عليه وآله وسلّم بالأُمِّيَّة ، ومُدِحَت هذه الأُمَّة بالأُمِّيَّة باعتِبار أنّهم يَتَلَقَّون العِلم ويحفَظونه مِن غير تَعبٍ ( قِراءة وكِتابة )

 

لكنْ هُنا ذمّ لهؤلاء { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ }

{ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } الذي هُوَ التوراة { إِلَّا أَمَانِيَّ } مُجرَّد تِلاوة للألفاظ مِن غير مَعرِفة المَعاني إضافةً إلى أنّهم يُضيفون إلى ذَلِكَ أنّهم يَتَمنَّون على الله الأمانِيّ، مِن بيْنِها :

{ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }

ومِن بَيْن هذه الأمانيّ أنّهم يفتَرون على الله عزّ وجلّ الكَذِب

{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } هذا ظنّ ، والحقّ لا يَكُونُ بِالظُّنون { إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا }

 

{ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } :

( إِنْ ) بمعنى ( ما ) أي ( ما هُم إلّا يَظُنُّونَ ) ، ومِن علامات ( إِنْ ) التي بمعنى ( ما النافية ) أن يأتي الاستِثناء بَعْدَها . ولذلك قال هُنا :

{ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }

 

{ فَوَيْلٌ } أتى بِالفاء ، لأنّها مُرتَّبة على ما سَبَقَ ، فِــعْــلُ هؤلاء حُكِمَ عليه بِالوَيْل { فَوَيْلٌ } وهي كلمة وعيد وتهديد ، وتَتَضمّن العُقوبة والعذاب من الله عزّ وجلّ . وَوَرَد حديثٌ عند التِّرمذيّ مِن أنّه : أي

( وَيْل  وادٍ في جَهَنَّم ) لكنّه لا يصحّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم

 

{ فَوَيْلٌ } وابْتُدِئ بِـ ( وَيْل ) معَ أنّه في اللغة العربيّة لا يُبْتدأ بالنَّكِرة ، لكن ابْتُدِئ بالنَّكِرة هُنا ( وَيْل ) لأنّها تَضمّنت معنى . ما هو الْمَعْنَىٰ ؟ العَذاب والعُقوبة

 

{ فَوَيْلٌ } هذا صِنف آخر مِن اليهود { لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } انْظُر ، قال { بِأَيْدِيهِمْ } يَعْنِي : لَمْ يأمُروا أحدًا ، وإنّما لِخُبثِ هؤلاء – مِن تحريفهم للتوراة – يكتُبون الكتاب بِأيْديهم { ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ } انْظُرْ إلى الطُّغيان والاعتِداء على شرع الله عزّ وجلّ

 

{ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ } ما الدَّاعي ؟

{ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } غَرَضٌ مِن أغراض الدُّنيا ، لَو اشتَروا الدُّنيا كلَّها ، لَوْ أخذوا الدُّنيا كُلَّها ، فالدُّنيا كلُّها ثَمنٌ قليل

 

{ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } كما قال عزّ وجلّ في سورة آل عمران { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ }

{ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم } يحرِّفون  ( بالقول وبالكِتابة )

{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ }

 

{ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم } :

كرَّرَ ( وَيْل ) ؛ لِعِظَم ما وقَعُوا فيه { فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } وكَرّر

( الوَيْل ) مرّة أخرى { وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ } أي مِن الأموال ، وما يَكسِبونَه مِن الذُّنوب والمعاصي

 

{ وَقَالُوا } انْظُرْ إلى القَول على الله عزّ وجلّ بِلا عِلْم !

فَـهُــمْ لَمْ يَقِفوا على التَّحريف فقط !  لا ، ادَّعَوا لِأنفُسِهم : أنّ لَهُم نَجاةً مِن النار ، وأنّ النار – بسبب أنّهم عَبَدوا العِجلَ – أنّ النار لن تَمَسَّهم إلّا أيّامًا مَعدُودة ، بعضهم قال : سبعة أيّام ، بعضهم قال : أربعين يَوْمًا ، وبَعضهم قالَ : هِيَ أيّام قليلة مِن غير تَحديد .

 

{ وَقَالُوا } مُجَرَّد قَوْل ( وكُلٌّ يَقول ) { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً }

في سورة آل عِمْران : { أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ }

 

فَلِماذا قال هنا { مَّعْدُودَةً } وهناك { مَّعْدُودَاتٍ } ؟

 

الجَمْع إذا كان مُؤنّثًا ( جَمْع التكسير ) يَجُوز ؛ لأنّ أيّامًا ( جَمْع تَكْسِير لِلمُؤنّث ) فيَصحّ أن تَقُولَ ( أيّام مَعْدودة ، وأيّام مَعدودات ) كَمَا تقُول ( جِبالٌ شاهِقة ، وجِبال شاهِقات ) ( أنْهارٌ جارِية وأنْهارٌ جَارِيَات ) مِن حيث اللفظ ،

 

ومِن حيثُ الْمَعْنَىٰ :

{ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } يعني قليلة .

 

فَقَال هُنا { مَّعْدُودَةً } باعْتِبار مَن قال مِنهم ( مِن أنّ النارَ لَنْ تَمَسَّنا إلّا سبعةَ أيّام أو أربعين يَوْمًا )

 

لكِن قال في سورة آل عِمْران  { مَّعْدُودَاتٍ } باعتِبار ما قالَه أُولَئِك الَّذِينَ يقولون ( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا سبعة أيّام أو أربعين يومًا )

 

لكن قال هُنا { إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } لِمَن قال ( لَنْ تَمَسَّنا النار إلّا أيّامًا معدودة لكنَّها قليلة )

 

{ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا } أَلَكُم عَهْدٌ عِنْدَ الله ؟

 

بَعْضُهُمْ قال : أَلَكُم عهد ( وهو التمسُّك بالتوحيد ) ؟

وبعضهم قال : أَتّخذتم عهدًا ؟

{ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا } يعني ألَكُم عهد من الله أنّ النار لن تمسّكم إلّا أيّامًا قليلة؟ { فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ } لكنّ الحقيقة أنّكم كَذَبة

{ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

 

{ بَلَى } نفي ما ذَكَروه مِن الحُكم لهم { بَلَى } ثمّ استأنف { مَن كَسَبَ سَيِّئَةً }

 

{ مَن كَسَبَ } دلّ على سهولة وقوع هؤلاء وأمثالهم  في السيّئة ، ولذلك قَول بعض العلماء في قوله تعالى { لَهَا مَا كَسَبَتْ } مِن الخير { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } يعني مِن الشرّ باعتبار أنّ الكسب للخير سهل ميسّر والاكتساب للشّرّ هو صعب . نعم ، لكن ليس على إطلاقه

 

فإنّ بعضًا ممّن استقرّ السُّوء في قلبه يفعل الخطايا تِلْوَ الخطايا بسهولة

{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } كَسَبَها هُوَ بِفِعله

 

الله عزّ وجلّ جعَلَ له إرادة { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } الحُكم : { فَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

 

وليـسَ في هذه الآية حُجّة لِلخوارج الذين يقولون إنّ هذه الآية دليل على أنّ مَن ارتكَبَ الكبيرة فهو كافر ، فيُقال لهم : الآية ما هِيَ ؟ { مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } فكَون الخطيئة أحاطت به دلّ على أنّه لَمْ يأتِ اللهَ عزّوجلّ إلّا بالسيّئات

 

ثمّ كما هو شأن القرآن باعتبار أنّه مَثاني إذا ذَكَر حال أهل النار ذَكَر حال أهل الجنّة، قال { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ماكِثون

 

{ وَإِذْ أَخَذْنَا  } السياق عاد مرّة أخرى إلى بني إسرائيل { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } الميثاق مذكور في نفس الآية ، أَخَذَ عليهم كم ميثاق ؟

ثمانية في الآية :

{ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }

 

 

{ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّهَ } :

{ لَا } نافية تَتضمّن النهي ، وهذا أبلغ . وقيل بأنّ الأصل ( ألّا تعبدوا إلّا الله ) فحُذِفَت ( أنْ ) فرُفِعَ الفِعل

 

{ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّهَ } :

فالعبادة لا تكون إلّا لله عزّ وجلّ ، حَصَر العبادة هُنا لله ، كما قال تعالى في سورة الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }

 

{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } :

دلّ هذا على أنّ البِرّ والإحسان إلى الوالدين في الأمم السابقة ، والإحسان إلى الوالدين يَشمَل الإحسان القَولِيّ والفِعلِيّ بِشَتّى أنواعه ولذلك أطلَقَ هنا ، والإطلاق يدلّ على أنّ الإنسان مأمورٌ بِكُلّ نوعٍ مِن أنواع الإحسان

 

{ وَذِي الْقُرْبَى } أي قَرابة الإنسان ، فهُم أحقّ الناس بَعْد الوالدين بالإحسان إليه حتّى ولو كان مُبغِضًا لك ، ولذلك صحّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قَولُه ( أفضل الصَّدَقة الصَّدَقة على ذي الرَّحِم الكاشِح ) أي المُبغِض ، تعرِف أنّه يُبغِضُك ، فالصدقة عليه والإحسان إليه أفضل

 

 { وَالْيَتَامَى } اليتيم في البَشَر مَن مات أبوه قَبل أن يَبلُغَ ، أمّا بَعْدَ البُلوغ فلا يُتْمَ

ولذلك ثَبَتَ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قَولُه ( لا يُتْمَ بَعْدَ احتِلام )

أمّا اليُتْم في البهائم فهو الحيوان الذي ماتت أُمُّه

 أمّا في البَشَر : الذي مات أبوه، وقيل الذي ماتت أمُّه لكنّ الأصحّ : في البَشَر مَن مات أبوه

 

وهنا يدلّ على أنّ الإحسان إلى اليتامى مأمورٌ به في دِين بَني إسرائيل

 

{ وَالْمَسَاكِينِ } ( المساكين ) : الفقراء ، أُمِروا بِالإحسان إلى المساكين

 

{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } لِجميع الناس ( المؤمن والكافر ) ، فَعَلى المسلم وعلى العَبد أن يُحسِن في قَوله

 

{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } أي أَدُّوها بِأركانها وبِواجباتها وبِشروطها

 { وَآتُوا الزَّكَاةَ }

 

ما الذي حَصَلَ مِن هؤلاء ؟ { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أي انصَرَفتُم عن هذا الميثاق { إِلَّا قَلِيلاً مِّنكُمْ } إلّا القِلّة ، كعبدالله بن سَلام

 

وإعراضُكم وتَوَلِّيكُم { وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ } فمَن تَوَلّى ربّما أنّه يعود ، لكن مَن تولّى مع إعراض دلّ هذا على أنّه بعيد عن الخير

 

ولقد أُمِرَت أُمّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأُمِرَ صحابتُه رضي الله عنهم بِأعظم مِمّا أُخِذَ على بني إسرائيل ، ومع ذلك وَفَّى الصحابة رضي الله عنهم بِالميثاق أعظم مِن هؤلاء

 

في سورة النساء خِطاب لِلصحابة رضي الله عنهم ولِلأُمّة :

{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }

وهذا يدلّ على فَضْل أُمّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنّ قلوبَهم ليّنة ،

ومع ذلك هذه الأُمّة أُمِرَت ألّا تتّخذ سبيل هؤلاء اليهود

ولِلحديث تتمّة إن شاء الله وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد .