التفسير المختصر الشامل الدرس (9) تفسير سورة البقرة من الآية (101) إلى (110)

التفسير المختصر الشامل الدرس (9) تفسير سورة البقرة من الآية (101) إلى (110)

مشاهدات: 481

التفسير المختصر الشامل ( 9 )

تفسير سورة البقرة 

من الآية [101] إلى الآية [110] )

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ } :

وهوَ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم { مِّنْ عِندِ الله } ليسَ مِن مَخْلوق ، أتى مِن عند الله ، وَلَمْ يأتِ مِن تِلْقاء نَفْسِه

 

{ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } :

أتَى بهذا القرآن ، الذي هُوَ مُصَدِّق لِـمـا معهم ممّا يقرؤونه في التوراة ، وأيضًا يقرؤون صِفات هذا النبيّ :

{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ }

{ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } :

أي التوراة { نَبَذَ } أي طَرَحَ  { فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ } طَرَحوا كِتَاب الله ونَبَذوه

 

 ( كِتَابُ اللَّهِ ) :

هل هُوَ التوراة أو القرآن ؟

قولان ، ولا تَعارُض بينهما ؛ لأنّهم إذا لَمْ يؤمنوا بالقرآن لَمْ يؤمنوا بالتوراة ، وَلَوْ آمنوا بالتوراة لآمنوا بالقرآن

 

{ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } :

والذي يُلقَى وراء الظَّهْر لا يَهتمّ به صاحبه { كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } حالهم كَحال مَن لا يَعْلَم ، وَهُمْ يَعْلَمُون أنّهم كَذَبَة ، ويَعلمون أنّهم خَوَنَة ، ويَعْلَمون أنّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولٌ مِن عند الله ، ويَعلمون العاقِبةَ السَّيّئة لِــمَـنْ لَمْ يؤمن بهذا النبيّ ، ولذلك أخذ الله عزّ وجلّ – كما سيأتي في سورة آل عمران – أخذ الله عزّ وجلّ المِيثاق على كلّ نبيّ إذا أتى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يَتَّبِعَهُ وأن تَتَّبِعَهُ أقوامُهم

{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي  قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }

 

 { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } :

جَرَت سُنَّة الله عزّ وجلّ أنّ مَن اشتغلَ بالباطِل أعرَضَ عن الحقّ ، وأنّ مَن أعرَضَ عن شرع الله وقعَ في الــبِـــدَع والشِّرك والمُخالفات ، فإنّهم لمّا نبَذوا كِتَاب الله ما مَصيرهم ؟ اتَّبَعوا الشياطين وما تَتْلوه الشياطين

 

{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } :

أي ما تَقرأ { تَتْلُو } أي تَقْرَأ { تَتْلُو } أيضًا تَتَّبِع ؛ لأنّ التِلاوة تكون بِمَعْنَىٰ الاتِّباع ، كما قال تعالى : { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } أي إذا تَبِعَ الشمس

{ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } :

أي ما تَلَتْ { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } :

{ عَلَى } : قِيل بِمَعْنَىٰ ( في ) أي ( في مُلْك سليمان ) والصَّحيح إبقاؤها على ظاهرها ، فالحروف – على القول الصحيح – لا يَنوب بعضُها عَن بعض ، وإنّما يُضَمَّن الفِعْل فِعلًا آخر ، مِن باب الإتيان بِمَعاني أكثر في كتاب الله عزّ وجلّ

 

{ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } :

تَضمَّن ذلك الكَذِب ، أي ممّا تَتْلوه أي ( تَكذِب الشياطين على مُلْك سليمان ) وذلك بأنّ الشياطين لمّا مات سُليمان ، قالوا : إنّ سليمان ما مَلَكَكُم إلّا عن طريق السِّحر .

فقال الله عزّ وجلّ : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } لأنّ اليهود لمّا سَمِعوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يذكُر سُليمان ، قالوا : كيف يذكُرُ ساحِرًا ؟ فقال الله عزّ وجلّ : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } لأنّ السِّحر كُفر { وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }

 

 ما الـسّــبـب أو الإيضاح لهذا الكُفر؟

{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } : أي ويُعَلِّمون ( الذي ) أُنزِل .

( ما ) هُنا ( مَوْصوليّة ) على الصحيح { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } أي هؤلاء الشياطين يُعلِّمون الذي أُنزِل على المَلَكين .

 

أين ؟

{ بِـبَابِلَ } [ ببابل في العراق على الصحيح ] ، بابل : المقصود التي في العِراق

 

{ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } :

هاروت وماروت : مَلَكان أنزَلَهما الله عزّ وجلّ ابتِلاءً وامتِحانًا للناس .

ولذلك :

القرطبيّ – رحمه الله – يقول { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ }

( ما ) نافية ليست موصوليّة ، فيقول { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } نَفَى أن يكون هناك إنزالٌ للسِّحر على هاروت وماروت . وقال يكون معنى الآية :

{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ }

لَمْ يُنزَل على المَلَكين شيء .

فيكون ( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) فهَارُوتَ وَمَارُوتَ يَعود إلى الشياطين ، فيكون هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِن الشياطين .

وهذا ليسَ بِصحيح .

فهَارُوتَ وَمَارُوتَ مَلَكان أنزلهما الله عزّ وجلّ ابتِلاءً وامتِحانًا .

 

ولذلك :

{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا } أي هَارُوتَ وَمَارُوتَ

{ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } أي اختبار وابتِلاء { فَلَا تَكْفُرْ } فَيُحذِّرونه مِن تَعَلُّم السِّحر .

 

وهذه الآية في قصّة هاروت وماروت فيها روايات مُتَعدِّدة ، يمكن خمس أو ستّ روايات ،وأحاديث عن هاروت وماروت ،

ومِن بِيْنها :

أنّ الملائكة لمّا قالوا :

{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }

قال اختاروا اثنين مِن الملائكة فَنَزَلا ، ومِن ضِمْن ذلك مِن أنّ امرأةً أتَتْهما ، وأرادا أن يفعلا بِها الفاحِشة ، فَرفَضَت ، وقالت : حَتَّىٰ تُشرِكا بالله ، وتَقتُلا هذا الطِّفل إلى آخر ما ذُكِر ، حَتَّىٰ هِيَ لمّا مَكَّنَتْهُما مِن نَفسِها مَسَخَها الله ، فكانت نَجم الزُّهرة . وهذه مِن حيثُ أسانيدُها باطِلة ولا تصحّ ، ولا تصحّ

 

حَتَّىٰ ما جاء مِن حديث ( اتّقوا الدُّنيا فإنّها أسحَر مِن هاروت وماروت ) هذه أحاديث لا تصحّ .

 

إذَن القصِّةُ لها رِوايات كثيرة لا أُريد الدُّخول فيها ، لَكِنْ الخُلاصة : أنّ الله عزّ وجلّ أَنزَلَ هذَين المَلَكين لِكَي يُعَلِّما الناس السحر ابتِلاءً وامتِحانًا :

{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ  فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا  }

 

 { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } :

أي مِن هاروت وماروت { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } يَعْنِي إذا نَصَحاه وَلَمْ يَنتَصِح ، فَتَعلَّم :

{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }

{ الْمَرْءِ } الرَّجُل ، { وَزَوْجِهِ } يعني الزَّوجة . ولذلك مرّ مَعَنا الأشْهَر في الإطلاق على المرأة ، أن يُقال ( زَوْج ) ويَصِحّ ( زوجة ) كما في قوْلِه تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } كما مرّ مَعَنا

 

{ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } هذا يدلّ على الصَّرف ( الصَّرفُ بِيْنَ الزَّوجَين ) بِحَيث يُصْرَف أحدُهُما عن الآخر ، بِحِيْث يتَمثّل له مِن أنّه بهِ صِفَةٌ قَبيحةٌ أَوْ أنّه يَتَخيّلُه على صورةٍ لَـيْـسَتْ بِحَسَنةٍ . أو ما شابه ذلك .

 

وهذا يدلّ على خُــطـــورة السِّحْر ، فإنّ السِّحرَ إلى درجة أنّ الوِفاق الذي يكون بينَ الزَّوجين مِن المودّة والمحبّة يَحصُل الفِراق لَكِنْ مع ذلك

{ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ }

{ وَمَا هُم } :

الشياطين والسَّحَرة { وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } ما يَقَع شيء إلّا بِأمْر الله عزّ وجلّ ، ولا يستطيع الساحر ولا الشيطان أن يفعل شيئًا إلّا إذا أمَرَه الله عزّ وجلّ .

 

ومِن ثَمَّ أنّ اللهَ عزّ وجلّ أمرَ النَّاسَ بأن يتَّخِذوا الأسبابَ الشرعيّّة مِن قراءة القرآن والأَوْراد في دَفْعِ السِّحرِ قَبْلَ وُقوعِه حتّى بَعْد وُقوعِه

 

{ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } :

مِن هذا السِّحر ، السِّحر ضَرَر { وَلَا يَنفَعُهُمْ } أتى بكلمة { وَلَا يَنفَعُهُمْ } مِن أجلِ أن ينْفِيَ وجود أيّ نَفعٍ في السِّحر ، فإنّه لَوْ قال

{ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } لَرُبَّما انْقَدَحَ في الذِّهن أنّ هُناك نَوْعًا مِن الـنَّـفـع فَقَال { وَلَا يَنفَعُهُمْ }

 

{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } :

أي اليهود ومَن سارَ على طريقتهم { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي السِّحر

{ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } :

{ مَا لَهُ } أي ليسَ لهُ مِن نَصِيب { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي مِن نصيب . وهذا يدلّ على أنّ السِّحر كُفر بالله عزّ وجلّ إذا كان استِعانةً بالشياطين ، أمّا إذا كان عزائم ورُقَى ، ويَنْفخ الإنسان فيها ويَنْفُثُ فيها دُون استعانةً بالشياطين ، فهناك خِلاف بَيْنَ أهل الْعِلْمِ .

 

الشاهِد مِن هذا :

أنّ السِّحرَ به خطرٌ عظيم على عَقيدة المُسلم

 

{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ } :

{ شَرَوْا } قُلْنَا ماذا ؟ باعُوا { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي باعوا أنفُسَهم { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } لَوْ كانوا يعلمون خُطورة السِّحر وما يؤدّي إِلَيْهِ ما باعوا أنفُسَهم وعَرَّضوها لِسَخَطِ الله ولِعِقابِ الله .

 

ثُمَّ قال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا } دَلَّهُم على الطريق الصحيح الذي به الرِّفعة والفلاح والخير في الدُّنيا والآخرة :

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا }

{ آمَنُوا } بِقُلوبهم وبِأَلْسِنَتهم وعَمِلوا بِجَوارِحهم { وَاتَّقَوْا } سخَط الله

{ لَمَثُوبَةٌ }

جَوَاب ( لَوْ ) : { لَمَثُوبَةٌ }

أَوْ الجـَـوابُ : يَتضمّنه كلمة { لَمَثُوبَةٌ } أي لَأُثِيبُوا

{ لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ } :

وأَعْظِمْ بِثَواب يكون مِن عند الله ، فَهُوَ خَيْرٌ كلُّه في نوعِه وفي قَدْرِه وفي كَيْفيّتهِ

 { لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } :

لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أنّ هذا الإيمان وهذه التَّقوى بها الثواب العظيم لَما أقدَموا على تَرْك الإيمان والتقوى ، ولمَا أقدَموا على فِعْلِ ما يُغضِب الله عزّ وجلّ .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } : نِداء لأهل الإيمان .

ولذلك :

ابن مسعود رضي الله عنه قال : إذا سَمِعْتَ اللهَ يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَارْعِ لها سمعَك ؛ فإمَّا أمرٌ تُؤْمَر به ، أَوْ نَهْيٌ تُنهى عنه

 

 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } :

{ رَاعِنَا } :

أي مِن التَّرَفُّق ، وتَمَهّل بِنا وتَرَفَّق بِنَا ، فكان الصحابة رضي الله عنهم يقولون هذا الْقَوْل للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لَكِنَّ معناه عند اليهود يُريدون بهِ مَعنًى خبيثًا سَيّئًا

 

ولذلك لمّا حذَّرَ عزّ وجلّ الأُمّة مِن صَنيع اليهود مِن فِــعْــل اليهود عن طريق السِّحر حذَّرهُم أيضًا ممّا يكون مِن قَوْلٍ يقولُه اليهود { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا }

ما البَديل ؟

{ وَقُولُوا انظُرْنَا } بَدَل أن تقولوا ( رَاعِنَا ) قولوا ( انظُرْنَا )

  • وذلك لأنّ قَول اليهود { رَاعِنَا } يَقصدون بها عندهم :
  • إمّا مِن الرُّعونة وهو الحُمْق ، فيقولون للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ( راعِنا ) مِن باب أنّهم يَنسُبون إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الحُمْق
  • أوْ مِن – وطبْعًا هذا سُوء منهم – أو مِن المُراعاة : أي راعِنا ونُرَاعِك ، وهذا لا يليق إلّا إذا كان بَيْنَ صِنْفَيْن مُتَماثِلَيْن ، والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أَعَلَىٰ ، فَفِي هذا سُوء أدَب
  • أَوْ مِن الرِّعاية ، يقولون : احْفَظْ قَوْلنا ونَحفَظ قولَك ، وهذا أيضًا لا يكون إلّا بَيْنَ نَظِيرَيْن ؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هُوَ الأعلى

 

فَكَان في قولِهم { رَاعِنَا } كان فيه قَوْلٌ يُسيئون فيه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .

  • إذَن ما البَديل ؟

{ انظُرْنَا }

{ وَاسْمَعُوا } أي اسْمَعوا سَماعَ قَبول ، فإذا أُمِرتُم بِأَمْر فَاسْمَعوا ، ليسَ سماعًا مُجرّدًا ، وإنّما سَماع قَبول .

  • ولذلك :

قالَ عزّ وجلّ- كما سيأتي معنا إن شاء الله في سورة النِّساء –

{ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }

 

فَنُهِيَ الصحابة رضي الله عنهم عن قَوْل { رَاعِنَا }

ولِذا على الْمُسْلِم أن يَحذَرَ وأن يَجْتَنِبَ قَوْلَ -كما يحصل مِن البعض يقول للبائع- راعِنا ( يَعْنِي راعِنا في السِّلعة ) فَيَحذر مِن هذا القول ؛ لأنّ فيه مِن حيث الصورة مُشابهة لِهؤلاء اليهود

 

 { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }  :

{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } :

أي مُؤْلِم ، وَوُصِفَ العذابُ أنّه أليم ؛ لأنّهم إذا قالوا  { رَاعِنَا } فإنّهم يتلذّذون بِـهــذا القَول ، يَفرحون بهِ ، فيأتيهم مِن العذاب ما يؤلِمُهم ويُزعِجُهم

وصرَّح هُنا ، قال : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بِاعتِبار أنّ الحُكم يَشمَل كلّ كافِر ، وأنّ هؤلاء في قَولِهم وفي فِعلهم وفي مَوقِفهم مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هُـمْ كَفَرة .

 

{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } :

انْظُرْ ، لمّا حذَّرَ مِن فِعلِهم السَّيِّئ وهوَ السِّحر ، ومِن قِولهم البذيء وهوَ قَوْل ( رَاعِنَا ) بيّن أنّ قلوبهم فاسدة قد امتلأت بِالحَسَد لهذه الأُمّة

ولذلك كما سيأتي مَعَنا في سورة آل عِمْران يقولون { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } يَعْنِي أموال الْعَرَب حِلٌّ لَـنـا ، ولا إثمَ عَلَيْنا في الأَخذِ منها

 { مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } :

بَيَّنَ هؤلاء الذين كَفَروا { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } فأهلُ الْكِتَاب بهذه الصورة كَفَروا ، ثُمَّ لمّا كان السِّياق في شأن الكفّار بَيَّنَ أنّ الحسدَ أيضًا لَمْ يُقْتَصَر فيه على هؤلاء ( أهل الْكِتَاب ) بل حَتَّى إنّ المشركين لا يريدون أن يَنزِل هذا القرآن على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

 

{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ }

ويَظنّون أنّ الخيرَ بأيديهم ، يُعطونه مَن يشاؤون ، ولذلك قال بعدها :

{ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ } :

{ يَخْتَصُّ } ويَخصّ ويمنح مَن يشاء

 

 { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } :

{ ذُو الْفَضْلِ } والجُود والكَرَم { الْعَظِيمِ } الذي لا يستطيع أحد مَهْما كانت له مِن القوّة أن يَرُدّ فضل الله عزّ وجلّ ، ولذلك في آخر سورة الحديد ، ماذا قال عزّ وجلّ :

{ لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ  وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ }

 

{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } :

لمّا نُسِخَ حُـكْــم التَّوَجُّه مِن بيت المَقدِس في الصلاة إلى الكعبة ، شَكّكَ وأنكرَ اليهود النَّسْخ ، وقد أنكرَ النَّسخَ اليهود وبعض أهل الكلام

ولذلك قالت اليهود مُمَوِّهَةً ، يقولون : لَوْ ثَبَتَ النَّسْخ ، بمعنَى نَسْخ حُكم شرعيّ إلى حُكم آخر يقولون ( إنّ في هذا فيه البَداءة ) يُوصَف الله ( بِالبَداءة ) يعني أنّه يبدو له الشيء ثُمَّ يعود مرّة أخرى فيُغيّر الحُكْم . ولا شكّ أنّ مثل هذا تمويه وضلال وكُفرٌ بالله عزّ وجلّ

 

{ مَا نَنسَخْ } أي نُغيِّر ونبدِّل

و{ مَا } شَرْطيّة ، ولذلك جُزِمَ الفِعل { نَنْسَخْ }

 

{ مَا نَنسَخْ } أي نُبدِّل حُكْمًا إلى حُكْمٍ آخر . والنسخ ( هُنا ) معناه التبديل ، وقد يأتي بمعنى النَّقل ، ( قد يأتي بمعنى النَّقل )

 

ولذلك القرآن أُخِذَ مِن اللوح المَحفوظ ، فيكون القرآن باعتِبار معنى النّقل ، يكون كلّه منسوخًا .

ولكن المقصود هُنا هُوَ التّغيير والتبديل لِحُكم دون حُكم مِثل ما حصل في القِبلة كما سيأتي .

 

{ أَوْ نُنسِهَا }  :

{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا }

{ نُنسِهَا } النّسيان ( هُنا ) قِيل : أي نؤخِّرُها ؛ لأنّ مِن معاني النِّسيان التأخير .

أي { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي نُبدِّل حُكم آية : سواء التَّبديل رَفْع اللفظ ، أو رَفْع اللفظ مع الحُكْم . كما سيأتي معَنا إن شاء الله

 

{ أَوْ نُنسِهَا } أي نؤخّرُها ، فلا نَنسخُها ، تبقى على حالِها

 

لَكِنْ قَوله عزّ وجلّ { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } أثبت النسيان ( هُنا )

{ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } المقصود مِن ذلك : إلّا إذا شاء الله . وَلَمْ يَشأ الله أن يُنْسِها ، هذا على القَول .

 

 قَوْل آخر :

{ أَوْ نُنسِهَا } أي أنّ النِّسيان نَوْع مِن أنواع النَّسخ ، بِمَعْنَىٰ نأمُرُك يا محمّد أن تَدَع قراءة هذه الآية ، وأن تأمُر أصحابك بِتَرْكِها ، وَمَعَ الأيّام تُنسى . فيكون النسيان نوعًا مِن أنواع النَّسخ . ويكون معنى { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } أي ممّا أمَرَ الله عزّ وجلّ بِنَسخِهِ .

 

جَواب :

 { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا }

{ نَأْتِ } : الجواب ( هُنا ) مجزوم ، وعلامة جَزمه حذف حرف العلّة ( نأتِ ) ، لأنّه جواب الشرط ( ما )

 

 { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } :

{ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } :

إمّا أن يكون الحُكم نفس الحُكم السابق مِن حيث اليُسْر والسُّهولة ، أو

{ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } بِمَعْنَىٰ أنّ الحُكْم الذي هُوَ الأشدّ يَكُونُ أخفّ ، أَوْ أنْ يكون تغيير الحكم مِن الأخفّ إلى الأشدّ ، لَكِنْ كيف يَكُونُ خيرًا ، يَكُونُ خيرًا باعتبار زيادة الأجر

 

 { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ } :

الاستِفهام للإقرار، والخِطاب للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولكُلّ مَن يَصِحُّ الخطابُ إِلَيْهِ

 

{ أَلَمْ تَعْلَمْ } :

إقرار، استِفهام للتقرير ( فَهُوَ يُقِرّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكلّ مُخاطَب مؤمن يُقِرّ )

 

{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } :

الله عزّ وجلّ على كلّ شيء قدير ، فَلَهُ الحِكمةُ البالغة ، ولهُ القُدرةُ الكامِلة

 

وَهُــنــا لَمْ يُصَرِّح باليهود ، قال :

{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا  أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

قديرٌ على أن ينتَقمَ مِن هؤلاء اليهود ، وقدير عزّ وجلّ على أنّ هؤلاء اليهود ، على أنّهم يؤمنون ، وَلَمْ يأتِ ذِكرٌ لهؤلاء اليهود .

 

ويُستفاد مِن هذا فائدة : أنّ تَبْيين منهَج أهل السنّة والجَماعة بإيضاحِه وتَبْيينه وبِنَشره مِن غير أن يُذْكَر المُخالِف .

وقد يُذكر المُخالِف – أيضًا – مِن باب بَيان شرِّه والتصريح باسمه مِن باب دَفْعِ ضلاله عن الناس ، لَكِنْ مِن بَيْنِ الأنواع : أنّ النَّاسَ إذا تعلّموا الْعِلْم الشرعيّ الصحيح ، فإنّه يَكُونُ في تَعلُّمهم لهذا العلم الصحيح ، يَكُونُ ردًّا على كُلّ ضالّ ، وعلى كلّ مُبْتَدِع ، وَلَوْ لَمْ يُذْكَر ، وهذا يدلّ على وجوب تَعَلُّم الْعِلْمِ الشرعيّ ، فإنّ بِتَعَلُّمِه بإذن الله عزّ وجلّ تَندَفِع الشرور عن الأُمّة

 

{ أَلَمْ تَعْلَمْ } : كَرَّرَ ذلك للتأكيد أو لِبيان العلّة والسبب

{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :

{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :

يَتَصرّف بِما شاء ، وهو عزّ وجلّ لهُ الحِكمةُ البالغة في نَسخِ حُكْمٍ إلى حُكْمٍ آخَر { وَمَا لَكُم } وَلَمْ يَقُل ( وما لكَ )

{ وَمَا لَكُم } { أَلَمْ تَعْلَمْ } وإن كان خِطابًا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فإنّه خِطابٌ يَصِحّ لكلّ مَن يَصِحّ الخِطاب له ، ولِذَلِك أتى بالجَمِع

 

{ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } :

{ مِن } : هُنا زائدة

( مَا لَكُمْ ) الأصل : ( ما لكم وليّ ولا نصير )

و ( مِن ) تُزاد عِنْدَ البَصْرِيّين في سِياق النّفي [ كما هو هُنا ]

 

{ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ } : أي وليّ يتولّى أُموركم ويأتِيكم بالخير { وَلَا نَصِيرٍ } أي يِدفع عنكم الشرّ .

فإذا اجتمعت كلمة ( الوليّ والنّصير ) ما لَكُمْ مِن دون الله مِن ( وليّ ) ينفعكم ، ولا ( نصير ) يَدفع عنكم الضُّرّ

 

  { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ } :

وهو محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم { كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ } أَتريدون أنتم أيّها العَرَب ، وقد يدخل فيه كما قيل أيضًا اليهود الذين في عصره صلّى الله عليه وآله وسلّم  [ ويدخل في ذلك ]

 

 { كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ } :

وموسى سُئل ، أسئلة فيها تَعنُّت ، وفي هذا تحذير للأمّة ، وتحذير للصحابة رضي الله عنهم . في ذلك تحذير للصحابة وفي ذلك تحذير للعَرَب الذين أتى إليهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يسألوا الأسئلة المتعنِّتة .

ولذلك :

قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه :

( إنَّمَا أَهْلَكَ مَن كان قَبلَكم كثرةُ سؤالهم ، واختلافُهم على أنبيائهم )

 

{ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ } :

دائمًا إذا أتَتْ الباء في قضيّة البيع والشُّراء ، الباء هُوَ الثّمن ، فيكون الثّمن هنا الذي دفعوه ( هُوَ الإيمان ) والسِّلعة التي أخذوها ( الكُفر )

 

{ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ } :

والتبديل هنا معناه ( البيع ) وفي هذا دليل لِـمـا ذَكَره الفقهاء مِن تعريف البيع إذ قالوا ( مُبادلةُ مالٍ بِمالٍ )

 

وَهُــنــا بَيع  { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ }

 النتيجة :

{ فَقَدْ ضَلَّ } أي تاهَ وضاعَ { سَوَاءَ السَّبِيلِ } يعني عن

{ سَوَاءَ } وسَط { السَّبِيلِ } الطريق ، الذي جعله الله عزّ وجلّ لِعِباده .

ومَن ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ! فإنّه هالكٌ لا مَحالة .

 

و( السَّواء ) هُوَ الوسط ، ولذلك قال بعضُ العُلماء ( كتَبْتُ كِتابًا كادَ سَوائي أن يَنْقَطِع ) يعني وسَطِي أن ينقطع

 

{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } :

 { وَدَّ } أي أَحَبَّ محبّةً عُظْمَى { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } { كَثِيرٌ } : هُنا

في الآيات التي قَبْلَها ( العُموم ) { مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ }

هُنا قال : { وَدَّ كَثِيرٌ } إمّا أن تكونَ كلمة { كَثِيرٌ } بمعنى الكلّ كما سَبَقَ ، أَوْ أَنَّ قِلّة منهم لمّا أتى هذا الدِّين ودخَلَ فِيهِ مَن دَخَل وعَرَفوا أنّه دين حقّ سَكَتوا ، لَكِنَّ الكثرة تمَنَّوا وأَحَبُّوا

 

{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ } :

وفي هذا تَــحْـــذيــــرٌ للمسلمين مِن أن يسيروا حيثُ سارت اليهود والنصارى

[ ولذلك قال عزّ وجلّ كما سيأتي معَنا ] { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ }

ولا تظنّ أنَّك إذا داهَنتَ معهم أو أنَّك إذا اتّبعتَهم في تَرْك شيء مِن أُمور الشرع أنّهم سيَرضَون عنك ، لن يرضَوا عنك حَتَّىٰ تَخْرُجَ مِن الدِّين كُلِّيًّةً

 

 { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا } يُريدون أن تَكفروا . السَّبَب { حَسَدًا }

 

مفعول لأجلِه أو مَصْدَر ( يَحسُدونكم حَسَدًا )  { حَسَدًا } والأوّل أظهر

{ حَسَدًا } مفعول لأجلِه . لِسَبَب الحَسَد

 

 { حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم } تَمَكَّنَ هذا الحسَد مِن أَنْفُسِهِمْ . وإذا تَمَكَّنَ الحسد مِن النّفس أَضَرَّ بصاحِبه ، وأساءَ إلى غَيرِه .

 

ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة النساء :

{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ  فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا }

وهذه المحبّة والمودّة الناتِجة عن الحَسَد { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }

وهذا مِن أعظم الطُّغيان والضلال أن الحقَّ يَتَبيَّن للإنسان بَيانًا واضِحًا ، وَمَعَ ذلك يُعارِضُهُ وَيُرِيد الشرّ .

فَالحُجَّة قائمةٌ عَلَيْهِمْ  { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }

 

{ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا } أَنتُم أيّها المسلمون معَ هؤلاء

{ فَاعْفُوا } العَفْو إذا أتى معَ الصَّفح : فالعَفو ( تَرْك المؤاخَذَة على الــذَّنـب ) ، والصَّفح ( الإعراض عنه حَتَّىٰ لا يبقى في النّفْس )

 

 { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا } :

وَلَوْ قيل : لَوْ قال ( واصفَحوا ) لَدَخَل العفو معهُ ، لَكِنْ أتى بهِ للتّدرّج ؛ لأنّ النُّفُوس ( نفوس المؤمنين ) تحتاج لأن يُتَدرّج بها مِن العَفو إلى الأعلى

{ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } أي حتّى يَأذن الله عزّ وجلّ لَكُم بِمُقاتلة هؤلاء أو بِالجِهاد .

 

ولذلك بعضُ المُفسِّرين يقول هذه الآية مَنْسوخة بِآية السَّيف أَوْ بِآيات الجِهاد أَوْ بِآيات القِتال .

 

والذي أراه وهو قَوْل لبعضِ أهل الْعِلْمِ أنّ هذه الآية وغيرَها مِن الآيات لَيْسَتْ مَنسوخة ، وإنّما تُنَزَّل على حال دون حال ، فَــمَـــنْ حالُه في هذا الزّمن أَوْ في غَيرِه ، فَــمَـــنْ حــالُـــه كَحال الصّحابة رضي الله عنهم في أوّل الأمر ، فَلْيَفْعَل هذا الْأَمْـــر ؛ حَتَّىٰ يَتَقَوّى ، ولذلك قال  { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قادِر على أن يُهلِكَهم ، وقادِر على أنّهم يؤمنون

 

{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } :

أرْشَدَهم إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ( إقامة الصلاة ) حقّ لله ، ( إيتاء الزَّكاة ) حقّ للغَيْر .

 

 { فَاعْفُوا } أَمَرَهم بالعفْو والصَّفح في مِثْل هذه الحالة ، حتى يأتي الله عزّ وجلّ بأمره بالجِهاد أَمَرَهم بِأَمْرٍ آخر وهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

 

ولذلك المسلمون في مِثْل هذا الزّمن ، إذا لَمْ يَكُنْ هناك جِهاد ، ويَرَوْن أعداء الدِّين وما شابه ذلك ، لأنّ الجِهاد له شروطُه : إِذْن وَليّ أمر المسلمين … المهمّ الجِهاد الشرعيّ  . ومِن ثَمّ فإنّ على المسلم أن تكون حالُه كَحال هؤلاء الصحابة ، لَكِنْ لا يأتي كما يفعل البعض في المَجالِس ويتحدّث ويفعل ويفعل ويتكلّم ، أو أنّه يتصرّف بتصرُّفات ما تُفيده ، تَجِدْ أنّه يَضيع مِنهُ الزّمن ، وهوَ لَمْ يَتعلّم العِلم الشرعيّ ، وَلَمْ يَعبُد الله حقّ عِبادته .

 

إِذَن الإرشاد هُنا في أي حال مِن أحوال المسلمين ؟

في حال الضَّعْف هُنا . هُنا عليهم أن يَنتَظروا حتّى يَأذَن الله عزّ وجلّ بِأمرِه عزّ وجلّ ، فيَحصُل الجِهاد الشرعيّ ، ويكون الإنسان يُجاهِد نفسَه . في مِثْل هذه المَرحلَة يُجاهِد نفسَه { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }

 

ثُمَّ قال { وَمَا تُقَدِّمُوا } :

{ ما } هُنا شرطيّة ، { تُقَدِّمُوا } جُزِم فِعلُ الشَّرط { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } لَمْ يَقُل تَجِدونه ؛ لأنّه جواب الشرط

 

{ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ } ما يَضيعُ شيء { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تَضَمّنَت أمرًا ونَهْيًا وَوَعدًا وَوَعيدًا

 

{ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } :

إِذَن ما الذي يَلْزَمُكم ؟ أن تَأْتَمِروا بِأمْرِ الله عزّ وجلّ ، وإذا فَعَلتُم حَصَلَ لَكُم الوَعد والنّعيم ، وتَضَمّنَت النَّهْي عن فِعل ما يُسخِط الله عزّ وجلّ ، فإن اقْتَرفَ الإنسان ، فإنّ هُناك وعيدًا شديدًا له .