التفسير المختصر الشامل ( 39 )
تفسير سورة آل عمران
من الآية ( 86) إلى الآية ( 97)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ٨٦ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ٨٧ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ٨٨ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ٨٩ } [آل عمران:86 ــ 89 ]
{ كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ٨٦ } [آل عمران:86]
استفهام ومنه تعجب { كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ } وأيضا يتضمن النفي
{ كَيۡفَ يَهۡدِي } يعني لا يهدي الله
{ كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ } أي بعد أن شهدوا أن الرسول حق ، وهذا شامل لكل من ارتد عن دين الإسلام
{ كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ } بما أتى به من الدلائل والآيات ومن أعظم ما يكون القرآن ، ومن ثم جمع بينهما { كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ } فلابد في الدين من الإتيان بما يجب من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
{ كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ } ولذا قال بعدها { وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ }
ذكِّر هنا الفعل لم يقل وجاءتهم ، { وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ } أي جاءهم جمع البينات فالتذكير هنا باعتبار كلمة جمع
{ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ } قامت عليهم الحجة { وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ } فمن هذه حالته فهو ظالم ، إذ إن البينات وضحت له وشهد شهادة التوحيد وشهادة الرسالة ومع ذلك ما أعرض إلا لأنه ظالم وأعظم الظلم هو الكفر بالله عز وجل
{ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ } وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن الإنسان مع أن الآية تدل على أن ما فعلوه كفر وأعظم الظلم هو الكفر بالله إلا أن الإنسان يحذر من الظلم بجميع أنواعه
ولذا قال { وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ } وإذا انتفت هداية الله للظالم فكيف يصل إلى الخير ؟
ولذا : ماذا قال عز وجل عن ذلك الذي حاج إبراهيم ؟
{ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ}
{ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ٨٧ }
{ أُوْلَٰٓئِكَ } من ذكر ممن كفر بآيات الله وكفر بشهادة رسول الله وجاءته البينات { أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ } واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله
{ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ٨٧ }
وهذا مر معنا في سورة البقرة مما يدل على أن هؤلاء أصحاب علم وضلوا وأضلوا قال عز وجل : {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ١٥٩ }
وقال بعدها { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ١٦١ }
{ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ٨٧ }
وهذا يفهم منه كما مر معنا ما يدل له قوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه ( معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء )
فمن أظهر العلم فإن المخلوقات تستغفر له ومن كتم العلم فإن المخلوقات تلعنه
{ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ٨٨ }
{ خَٰلِدِينَ فِيهَا } أي في اللعنة أو في النار لأن اللعنة مؤدية بالإنسان إلى النار فلا تعارض بين القولين .
{ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ } من حيث الزمن ومن حيث الكيفية { وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ } أي لا يملهون ولا يؤخرون ، ومر معنا ذلك في سورة البقرة
{ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ٨٩ }
{ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ } انظر إلى رحمة الله فمن تاب لكن مع التوبة لابد من الإصلاح لأن ما قام به ضلل به غيره
ومن ثم فإن عليه أن يتبرأ مما أتى به من الضلال وأن يبين وأن يصلح حاله وأن يصلح من حال الناس بالتبيين
ولذلك في سورة البقرة { إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ١٦٠ }
{ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ٨٩ }
إثبات اسمين من أسمائه عز وجل الغفور والرحيم
ومر معنا هذا الاسم والحديث عنه مفصلا في سورة البقرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ٩٠ } [آل عمران:90]
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ } هذا صنف آخر ممن كفر
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ }
قال هنا { لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ }
لو قيل : ألا تقبل التوبة ممن عظم ذنبه ؟ نعم تقبل
لكن هنا قال { لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ } أي إذا عاينوا الموت فمن عاين الموت فإن توبته لا تقبل ، ولذلك ثبت عنه قوله عليه الصلاة والسلام ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) فإذا بلغت الروح الحلقوم هنا لا تقبل لكن قبل ذلك تقبل منه
ولذلك : انظر ماذا قال هنا { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الاسم الموصول يأتي في خبره أحيانا بحرف الفاء تشبيها باسم الشرط وأحيانا لا ، ومر معنا ذلك في سورة البقرة
{ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ } أهل الضلال : ومن ضل هم هؤلاء باعتبار ماذا ؟
باعتبار أنهم ذاقوا طعم الإيمان ومن ذاق طعم الإيمان فكما قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في الصحيحين ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار )
فدل هذا على ماذا ؟على أن هؤلاء تركوا دين الله بعد أن ذاقوا هذا الإيمان
وهذا يدل على أن الضلال قد ترسخ فيهم
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ٩٠ }
ولذا قال عز وجل في سورة النساء :
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا١٣٧ } باعتبار أنهم ماتوا على الكفر
ولذا قال تعالى {وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّئَِّاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ٩١ } [آل عمران:91]
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا }
انظر : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم } قال هنا { فَلَن } أتى بالفاء بعد اسم الموصول ، ويؤتى بها في خبر اسم الموصول باعتبار أن اسم الموصول يشبه اسم الشرط
قوله تعالى في الآية السابقة { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ }
لم يقل فلن باعتبار أنهم لم يموتوا بعد بخلاف هذه الآية
ففي الآية السابقة { لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ } باعتبار أنهم لو تابوا قبل حضور الموت فإن توبتهم مقبولة
لكن هنا ماذا قال { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ } رتب بالحرف باعتبار ماذا ؟ باعتبار أنهم بعد أن ماتوا لا يمكن أن يعودوا
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ }
{ وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَٰٓئِكَ }
وذلك لم ؟ لأنه كما قال عز وجل { يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ٨٩ }
{ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ } عذاب مؤلم وهو عذاب النار
{ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ } بمعنى : أنه ليس هناك أحد ينصرهم وليس هناك أحد يدفع عنهم هذا العذاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ٩٢ } [آل عمران:92]
{ لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ }
{ لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ } { ٱلۡبِرَّ } قال بعضهم : الجنة ، وقال بعضهم : في ذكر بعض الأعمال الصالحة
ولكن البر اسم يجمع خصال الخير التي تؤدي إلى الجنة وتفسيره في سورة البقرة { وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ } إلى ما ذكره عز وجل في الآية ، وسبق تفسيرها
{ لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ } وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن العبد متى ما أنفق الذي يحبه دل هذا على أنه ما أنفق هذا المال الذي هو محبوب للنفس{ وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ }أي لحب المال{ لَشَدِيدٌ } { وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ } ما أنفقه إلا لأنه يحب الله أعظم
{ لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ }
من ثم فإن بعض الصحابة لما سمع بهذه الآية كأبي طلحة قال : ( إن أحب ما لدي يا رسول الله بيرحاء ) وهي حديقة بستان ، فتصدق بها رضي الله عنه
{ لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ }
وأتت هذه الاية بعد الآية السابقة من باب بيان أن من أراد أن ينفعه ماله في الآخرة قال في الآية السابقة { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ }
فمن أراد أن ينفعه ماله في الآخرة فلينفقه فيما يحبه الله
{ لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ } أي شيء وما هنا شرطية ، فالجواب : { فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ }
وقلت لكم قال هنا { فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ } لم يذكر حكما ولم يذكر ثوابا فدل هذا على أنه عز وجل ذكر اسم العليم من باب أنه عز وجل عالم بنفقتكم ومن أنفق ابتغاء وجه الله فإن له الجزاء من عند الله والله لا يضيع أجر من أحسن عملا
قال هنا { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ }
وهذه الآية ليس بها نسخ وإنما هي في صدقة التطوع
وأيضا متعين على الإنسان إذا أخرج الزكاة الواجبة أن يخرج الطيب
قال تعالى { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ } كما مر معنا في تفسيرها
ولذلك لا يجوز للإنسان في الصدقة الواجبة أن يخرج الرديء إلا إذا كان كل ما لديه رديئا فلا يكلف الله إلا ما آتاها ، أو كان بعضه رديئا وبعضه طيبا فيجب أن يخرج من الكل ، لا يظلم ولا يظلم
ومن ثم : فقوله عز وجل { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ } قال في الجملة السابقة { لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ } أعظم درجات ما يكون من العمل الصالح أن تنفق الطيب لكن لو أن الإنسان أنفق شيئا لا ترتضيه نفسه ولا يحبه وغيره يستفيد منه يؤجر ، فلا تحرم نفسك أن تخرج مثلا طعاما أو ما شابه ذلك لا ترغبه نفسك فلا حرج في ذلك بدل أن يرمى يعطى من يستفيد منه
ولذلك عمم هنا قال { وَمَا تُنفِقُواْ } لأنه قد يظن البعض أن النفقة لا تقبل إلا من الشيء الطيب الذي تحبه النفس
قال { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ٩٣ } [آل عمران:93]
{ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ }
{ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا } أي حلالا { لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ } وهو يعقوب على نفسه { مِن قَبۡلِ } لأن يعقوب قبل اليهود قبل نزول التوراة
{ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ }
لم ؟
لأنهم لما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام لما رأت اليهود النبي عليه الصلاة والسلام يأكل لحم الإبل ويشرب ألبانها قالوا تزعم أنك على ملة إبراهيم وإبراهيم ما كان يأكل لحوم الإبل وما كان يشرب ألبانها فرد الله عز وجل عليهم
{ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ }
وإسرائيل قبله من ؟ إبراهيم عليه السلام وبعده التوراة
فمن أين لكم هذا القول ؟
فإذن : يعقوب عليه السلام منع نفسه من أكل لحوم الإبل ومن شرب ألبانها لأنه كما جاءت بذلك الأحاديث ويقوي بعضها بعضا من أنه أصيب بمرض وهو عرق النسا وهو عرق يكون في القدم عرق النسا لشدة ألمه قد يصيب الإنسان قد يصيبه شيء من النسيان، فقال : ( لئن شفاني الله لأدعن أحب ما لدي من الطعام والشراب ، فشفاه الله
فقال عز وجل كل الطعام { كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ }
وأما ما ورد من أن يعقوب نذر أن يذبح أحد أولاده وأنه كان في سفر وأتى ملك وضربه في عقبه فأصابه هذا الألم وهي قصة طويلة فلا أعلم لها حديثا صحيحا عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وإنما الوارد ما ذكر لكم هنا
إذن : فامتنع يعقوب من ذلك ، وهذا جائز في شريعته ، ولذلك الله عز وجل قال للنبي عليه الصلاة والسلام { يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ١ }
{ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ } فهذا التحريم ليس موجودا في التوراة { قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ } فيما زعمتم من أن إبراهيم حرم على نفسه لحوم الإبل وألبان الإبل
{ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ } لكنهم أصحاب افتراء
{ فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ٩٤ } [آل عمران:94]
{ فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ } من بعد ما بين هذا البيان { فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ } ومن كان ظالما فإنه يكون ممن ضل
{ فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ٩٤ } وقد بين عز وجل أن صاحب الافتراء أنه في خيبة { وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ }
{ فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ } إذن هم افتروا على الله الكذب وقالوا على الله بلا علم
{ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ٩٥ } [آل عمران:95]
{ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ } قل يا محمد صدق الله في كل قول قاله فقوله صدق قال تعالى { وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا}
{ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ } فيما أخبر به جل وعلا في الكتب السابقة وفي هذا القرآن
{ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ } ومن ثم بعض من الناس إذا فرغ من قراءة القرآن قال صدق الله العظيم ، وهذه لم ترد عن النبي عليه الصلاة والسلام
صحيح : صدق الله ، نعم ، صدق الله ، لكن قيد ذلك بعد الفراغ من قراءة القرآن هذا ليس بثابت ، وإنما الثابت أن يقول العبد إذا قرئ عليه القرآن كما صنع النبي عليه الصلاة والسلام لما قال لابن مسعود رضي الله عنه ( اقرأ علي قال أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ ) فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى { فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا٤١ } ، قال : ( حسبك )
فمن قرأ عليه شخص بعض الآيات وأراد أن يوقفه فليقل حسبك
{ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ } صدق الله فيما أخبر به من أن تحريم الإبل وشرب ألبانها إنما وقع من يعقوب عليه السلام
{ قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ } في كل أقواله { فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ }
لأنهم قالوا كما مر معنا في سورة البقرة { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِۧمَ حَنِيفٗاۖ }
{ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ }
في هذه السورة { مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّٗا وَلَا نَصۡرَانِيّٗا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ٦٧ إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۗ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ٦٨ }
{ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ٩٧ } [آل عمران:96 ، 97]
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ٩٦ }
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ } جاء ذكر البيت لأن من بناه من ؟
إبراهيم عليه السلام ومر معنا من أن الصحيح من أن من بناه هو إبراهيم عليه السلام ، ومر معنا ذلك مفصلا وبيان الآثار والأدلة عند قوله عز وجل { وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا }
وعند قوله : { وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ } مفصلا الحديث هناك
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } { إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ } أي مكانا يتعبد لله عز وجل فيه
ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام ( لما سئل ما هو أول بيت وضع للناس ؟ فقال عليه الصلاة والسلام المسجد الحرام ، قيل ثم ماذا ؟ قال المسجد الأقصى ، قيل كم بينهما ؟ قال أربعون سنة )
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } بكة : أي مكة قيل : إن كلمة بكة مع مكة يتناوب الحرفان وسميت مكة ببكة قيل : لأن الناس يتباكون فيها يعني يزدحمون ، وقيل لأنها تبك أعناق الجبابرة كأبرهة لما أراد أن يهدمها ، وقيل لأن الناس يبكون عندها ، وقيل غير ذلك
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا }
{ مُبَارَكٗا } : ذلكم البيت البيت الحرام مبارك مبارك باعتبار ما جاء به الشرع لا باعتبار ما أتت به البدع وأهل البدع وأتت به أهواء الناس
مبارك من حيث إن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة
من حيث ما ذكر من عبادات تكفر الذنوب ويكون للعبد الحسنات
أما البركة التي يفعلها بعض الناس طلب التبرك من التمسح بالمقام أو بالجدران أو بالحيطان أو ما شابه ذلك فإن مثل هذا من البدع أو من التبرك المذموم حتى التعلق بأستار الكعبة والتمسح بأستار الكعبة فمثل هذا أيضا من البدع
وإنما ورد مسح أو تقبيل الحجر الأسود ومسح الركن اليماني ، ولم يأت دليل التعلق بأستار الكعبة إلا فيما يسمى بالملتزم وهو ما بين الحجر الأسود والباب مكان محدود وصغير هذا ورد عن الصحابة وورد حديث مرفوع لعله يتقوى بهذا
هذا هو الوارد بمعنى أن الإنسان يضع صدره ووجهه ويدعو الله في الملتزم ، أما ما عدا ذلك من التعلق بأستار الكعبة فليس هذا واردا بل من البدع والمخالفات
{ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ } ، سبحان الله !
كيف يكون البيت هدى للعالمين ؟
العالم :هم كل ما سوء الله ، لكن المقصود هنا : البشر
{ وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ } باعتبار ماذا ؟ باعتبار أن الكفار حتى الكفار إذا رأوا اجتماع المسلمين في هذا المكان ، وهذا المكان يقبل الناس عليه إقبالا والناس يأتون في الحج في أوقات محددة ، من نظر نظرة تعقل وتأمل فإن في مثل هذا هداية له حيث يهتدي إلى الدين إلى غير ذلك من الهداية التي جعلها الله في هذا البيت لمن أمعن النظر في ذلك
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ}
{ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ }
{ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ } دلائل واضحة { بَيِّنَٰتٞ } مما يتعلق بالمشاعر ، مما يتعلق بمقام إبراهيم ، مما يتعلق بالكعبة ، كل ذلك آيات بينات واضحات لمن له عقل { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِيدٞ٣٧ }
{ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ }
مقام إبراهيم : مر معنا تفصيل ذلك في قوله عز وجل في سورة البقرة { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗىۖ }
هل المقصود هو المقام المعروف أو أن كل ما في مكة يعتبر مقاما ؟
مر الحديث عن ذلك
{ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ }
{ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } فهو آمن من دخله حتى الطيور آمنة فالطيور تكون آمنة ، ولذلك كانوا في الجاهلية إذا أتى الإنسان القاتل فرأى الولد الذي قتل أبوه رأى قاتله فإنه لا يعتدي عليه
{ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } ويتضمن أيضا هو خبر { وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } باعتبار ما كانت قريش تصنعه ، إذا دخل أحد في البيت فإنه لا يعتدى عليه
وأيضا يتضمن الأمر ، ولذلك الزنديق الباطني الطاغية والذي أتى إلى مكة وقتل الحجاج في القرون السابقة قال لهم مشككا لهم أين دينهم ؟ وأين رسولكم الذي يقول عن ربه { وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ }
فهنا { وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } خبر يتضمن الأمر أي أمِّنُوا
{ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } يعني أمِّنوا من دخل فيه ، فهو أمر للناس بأن يجعلوه ذا أمن
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا }
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا }
{ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } حتى إن العلماء اختلفوا فيمن فعل ذنبا ثم دخل مع أنهم قالوا من فعل حدا في مكة فإنه يقام عليه لكن لو فعله خارج مكة ثم دخل اختلفوا في ذلك ، فدل هذا على ماذا ؟
وبيان ذلك في الفقه ، لكن دل هذا على ماذا ؟ دل على حرمة هذا البلد
{ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } وهم يذكرون ولا أدري هل هو وقع قدرا لم أر ذلك بعيني ولم أر دليلا على ذلك قالوا إن الطيور التي في الحرم قالوا إنها لا تطير فوق الكعبة ولا تطير على المقام ، فإن وجد دليل ولم أر دليلا صحيحا في مثل هذا
أيضا : من حيث النظر لم أر ذلك لم أتمعن يعني لم أتمعن هذا الأمر
فإن كان فمقاله ليس عليه دليل لا من حيث الواقع ولا من حيث الشرع والله أعلم بذلك
{ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام ماذا قال ؟
قال ( ولا ينفر صيده )
كما أنه لا يصاد فيه الصيد لا ينفر لا تأتي إلى الطيور التي فيه من الحمام وإذا بك تنفرها بمعنى تزعجها حتى تطير
( ولا ينفر صيده ) مما يدل على عظم هذا المكان
{ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ } وأما ما يقال من أن الحمام الموجود فيه من أنها من نسل الحمامتين اللتين على الغار وأن ذلك الحمام له صفات معينة وما شابه ذلك فهذا لا دليل عليه ولا يصح في ذلك خبر فيما نعلم
{وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ } انظر { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ } جميع الناس من باب ماذا ؟ ما تقدم ذكر لمن ؟ لأهل الكتاب وأهل الكتاب يعظمون المسجد الأقصى ، ولاشك أن المسجد الأقصى له تعظيم من حيث الشرع ويعظمونه على مكة ، فقال عز وجل { إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا } ثم بين ما له من الصفات
ثم بعد ذلك أمر الجميع { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ }
وهذا يدل على ماذا ؟
يدل على أن الحج فرض في السنة التاسعة لأن وفد نصارى نجران أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في العام التاسع لكنه عليه الصلاة والسلام ما حج إلا في السنة العاشرة ؛ لأمور ذكرتها في غير هذا الموطن من بينها : أن البيت يتطهر من أدران الشرك ولذا ( أرسل في السنة التاسعة ألا يحج بعد هذا العام مشرك وألا يطوف بالبيت عريان ) وكان يستقبل الوفود في العام التاسع إلى غير ذلك من الأحكام التي ذكرناها فيما يتعلق بالحج في مسائل الحج
{ وَلِلَّهِ } كلمة اللام تدل على الوجود { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ }
و{ عَلَى } تدل على الوجوب
{ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ }
{ مَنِ } هنا بدل من { ٱلنَّاسِ } ، { مَنِ } بدل بعض كل من كل
{ ٱلنَّاسِ } كل { مَنِ } بدل بعض من كل
بمعنى أن هذا الوجوب ليس على الجميع إلا من توفرت فيه هذه الصفات
{ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ }
من لم يستطع فلا يلزمه الحد
وإطلاق الآية { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ } يدل على أنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة
وقد بين عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم ( إن الله فرض عليكم الحج فحجوا ، قيل يا رسول الله أكل عام ؟ قال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم )
{ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ }
من استطاع أن يصل إلى البيت فيجب عليه الحج
وقد جاء حديث فسر النبي عليه الصلاة والسلام هذا السبيل من استطاع إليه سبيلا ( الزاد والراحلة ) من لديه طعام وراحلة يصل إلى البيت
وهذا الحديث فيه مقال كثير ولو صح مع أن به ضعفا ولو صح فإنه لا يقيد بالطعام وبالراحلة
بل نقول : إنه يجب الحج على من استطاع ببدنه وبماله ، فإن عجز بماله وببدنه سقط عنه ، وإن عجز ببدنه عجزا مستمرا وقدر بماله ينيب غيره وإن عجز بماله واستطاع ببدنه فالصحيح أنه يلزمه
وذلك : كأهل مكة من عجز بماله منهم واستطاع ببدنه بحيث يصل لقربه ويتنقل هنا يلزمه الحج ، ومن ثم نقول هذا الحديث لو صح ليس على عمومه وإطلاقه
{ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِين }
قال { وَمَن كَفَرَ } وهذا دليل لمن قال إن من ترك الحج من غير جحد بوجوبه لأن من جحد وجوبه كفر لأنه كذب الله وكذب النبي عليه الصلاة والسلام وكذب إجماع الأمة لكنه لو تركه تهاونا منه مع قدرته ببدنه وبماله قالوا بعض العلماء يكفر كفرا يخرجه عن ملة الإسلام
والصحيح أنه لا يكفر
ولذلك حديث عبد الله بن شقيق كما عند الترمذي كما ثبت عنه قال ( لم يكن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام يرون من الأعمال تركه كفر غير الصلاة )
لكن : هنا { وَمَن كَفَرَ } تحمل على { وَمَن كَفَرَ } لأنه لم يقيد
{ وَمَن كَفَرَ } أي بوجوبه ، أو { وَمَن كَفَرَ } على وجه الإطلاق بأي نوع من أنواع الكفر ، وهذا هو الأقرب
ومن ثم { وَمَن كَفَرَ } لأن بعضا من الناس قد يحصر الكفر في الشك في الاعتقاد كفر
يقول وهذا مذهب الجهيمة ومذهب المرجئة وهذا يروج له في مثل هذا العصر فيحصرون الكفر بما وقع من شك فقط في القلب
ولكن الكفر أنواع والردة عن دين الله يحصل بالقول ويحصل بالفعل
ويحصل بالاعتقاد ، فأنواع الكفر متعددة
{ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ }
فله الغنى المطلق والناس محتاجون إليه فطاعة العبد من حج أو غيره إنما تنفعه هو ، ولذلك قال عز وجل {وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ وَإِن تَشۡكُرُواْ يَرۡضَهُ لَكُمۡۗ} { وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفۡسِهِۦٓۚ } فالعمل الصالح لك أنت فطاعة المطيع لا تنفع الله ، ومعصية العاصي لا تضر الله
ولذلك في الحديث القدسي في صيح مسلم في الحديث الطويل العظيم حقيقة هو عظيم وبينت ما فيه من فوائد في خطب كثيرة الله عز وجل يقول في الحديث القدسي ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني )
فالشاهد من هذا :
قوله عز وجل { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ }
لأن الجميع محتاج إليه ، محتاج إليه في الدنيا محتاجون إليه في الدنيا وفي الآخرة وفي كل حال من أحوالنا
{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ١٥ }