بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأنعام
من آية 136 إلى آية 145
للشيخ زيد البحري – حفظه الله-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فكنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل:) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا).
فإنه عز وجل لما ذكر الآية التي قبلها: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ): بيّن أن من الظلم ما يفعله هؤلاء المشركون مما خلقه الله عز وجل من الأنعام والزروع.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ): أي: افتراءً، (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ): أي مما خلق. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا): من الحرث أي: الزرع، والأنعام: هي بهيمة الأنعام. ولذا مر معنا في سورة المائدة: (ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حام). وسيأتي معنا في الآيات القادمات بإذن الله عز وجل تفصيلٌ لهذا.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ): أي: هذا من الزعم الذي افتروه فقالوا هذا لله بزعمهم. (وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا): أي: هذا النصيب، فإنه لم يذكر الزعم هنا فيما يتعلق بنصيب شركائهم لدلالة ما سبق. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا).
(فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ): أي: أن هؤلاء جعلوا نصيباً (بزعمهم)، جعلوا نصيباً من الزروع لله عز وجل ونصيباً من الزروع لأوثانهم ولسدنة أوثانهم يعني: الخدام لها، فإذا كان الشيء انتقل إلى نصيب الله عز وجل من نصيب شركائهم ردّوه وإذا كان العكس فإنهم لا يردونه، وكذلك فإنهم يجعلون ما لله من نصيب يجعلونه للضيوف وما شابه ذلك.
أما ما كان لأصنامهم فيبقى لسدنتها، وكذلك فإنهم يجعلون الطيب في نصيبهم ولا يجعلون الطيب لله عز وجل، وهذا مع أنه افتراءٌ على الله عز وجل فإنها قسمةٌ جائرة، ولذا قال تعالى لما جعلوا له عز وجل بنين وبنات قال تعالى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى): أي: جائرة، (فمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ): أي: هذا ذمٌ لحكمهم؛ لأنه حكمٌ مبنيٌ على افتراء وليس من عند الله عز وجل. ثم مع أنه افتراء فهو جائر فهم لم يعظموا الله عز وجل حق تعظيمه، ولذا قال عز وجل: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)، ساء ما يحكمون.
*(وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ): لما ذكر عز وجل ما يتعلق بافتراء وبظلم هؤلاء في هذه الزروع وفي هذه الأنعام، بيّن ظلم هؤلاء فيما يتعلق بأولادهم، فإنهم يقتلون البنات خيفةً من العار، ويقتلون الأبناء خيفةً من الفقر كما سيأتي في قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهم)، فقال عز وجل هنا: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ): ليسوا قلة. (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ): أي من الذي زيّن؟ الشركاء، الشركاء من الشياطين أو من سدنة الأصنام أو مما يشابه هؤلاء. وهذا تزيين إما خيفةً من العار أو خيفةً من الفقر. فالمزيِّن هم الشركاء، ما النتيجة؟ (لِيُرْدُوهُمْ): أي: ليهلكوهم، فإن في هذا الهلاك في الدنيا وفي الاخرة، إذ يفقدون البنات ويفقدون الأولاد وما بهما من المصالح، وأيضاً هلاكٌ لهم في أخراهم؛ لأنهم افتروا على الله وأقدموا على قتل نفوسٍ محرمة.
قال عز وجل: (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ): أي: ليوقعوا هؤلاء في الخلط والاشتباه في دينهم؛ لأنهم كما قال العلماء: كانوا على بقايا من ملة ومن دين إسماعيل عليه السلام – قلتُ: – ولعله فيما يتعلق بهذه الأحكام أو بهذا الحكم أو بهذا الأمر. قال هنا: (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ): لمَ؟ لأنه عز وجل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهنا الذي يظهر لي -والعلم عند الله- أنه قال هنا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ)، وقال في الآيات التي تتعلق بشياطين الأنس والجن: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ): ذكر الربوبية هناك والعلم عند الله باعتبار ماذا؟ باعتبار أن هؤلاء مهما صنعوا -وهم شياطين الإنس والجن- فالله عز وجل ربك وربهم، ومن ثم فإنه يحفظك من هؤلاء ويحفظ عليهم أعمالهم وسيجازيهم، وأما هنا ذكر اسم الله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ): لعله -والعلم عند الله- باعتبار أنه لما ذكر الخلط من هؤلاء في الدين ذكر اسم الله لأن الله هو الله المألوه المعبود محبةً وتعظيماً، وهذا يتناسب مع كلمة الدين. (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ): أي: فاتركهم، وهذا الافتراء وهو أعظم الكذب، أنهم افتروا على الله عز وجل، وأيُّ افتراءٍ أعظم من أن يفتري العبد على الله عز وجل.
*(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ): لما ذكر عز وجل ما يتعلق بصنيع هؤلاء ذكر الأنعام مجملاً في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا). وفصّل فيما يتعلق بالحرث الذي هو الزرع -الذي ذكر هنا- بعد أن ذكر ما يتعلق بقتل الأولاد ذكر ما يتعلق بالأنعام مفصلة، فقال عز وجل عن هؤلاء: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا): حرث: يعني الزرع -كما مر معنا- (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ): وهي بهيمة الأنعام، وذكروا اسم الإشارة باعتبار أنها أشياء معينة قد خصصوها. (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ): أي: ممنوع محرمة. (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا): يعني: أنه يمتنع أن تأكل أو أن يصنع بها شيء حسب ما نراه كما زعموا. (هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا): أي: لا يأكلها، (إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ): أي: بافتراء منهم، (وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا)، وتلك الأنعام التي أشاروا اليها: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ): هي ما ذكره عز وجل في سورة المائدة وما سيأتي قال تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) ثم ذكر هنا: (لايَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا): أي: أنعام حرموا أن يحمل عليها أو أن تركب كما سبق معنا: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ)، وذلك أن الذكر من الإبل إذا خرج من صلبه كما زعموا عشرا فإنهم يقولون: حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه. (إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا): لا يذكرون: يتركون اسم الله في الذبح عليها، (افْتِرَاءً عَلَيْهِ): إنما هذا افتراء وليس من حكم الله، (افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
ولذا قال عز وجل: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ).
*(وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا): ما في بطون هذه الأنعام: قيل: اللبن، وقيل: الأجنة التي في بطون هذه الأنعام، وإن كان اللبن داخل الإناء، الأظهر من حيث السياق الذي سيأتي من أنها هي الأجنة. (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ): ولم يقل خالصٌ باعتبار المبالغة، (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا): أي: أنها حلال لمن؟ للذكور فقط. (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا): بمعنى: أنه لا يحق لأنثى أن تأكل من هذه الأجنة أو أن تشرب من هذا اللبن. قالوا :(وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا): وهنا والعلم عند الله لما ذكر الأزواج تبين أن المقصود الإناث باعتبار ذكر الذكور. وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن النساء يطلق عليهن الأزواج، باعتبار ماذا؟ باعتبار المجموع؛ لأن كل أنثى في الغالب مصيرها إلى أن تكون ذات زوج ولذا قالوا: (وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا). ولذا لو أن الإنسان أراد أن يقول لأخته مثلا أو يقول لعمته هذه زوجتي أفيجوز له استناداً لهذا النصب فالذي يظهر أنه لا يطلق هذا اللفظ على وجه الانفراد إنما على وجه العموم. (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً): هذا ما جعلني أؤكد من أن المقصود في بطون بهيمة الأنعام هي الأجنة وإن كان اللبن كما سبق يدخل في ذلك. قال هنا: (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ): يعني: إذا خرج حيا هذا الجنين من بطن هذه البهيمة يكون للذكور فقط ومحرم على الإناث، لكن لو خرج ميت فإن الجنسين يشتركان فيه: (وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ): أي: جزاء وصفهم. حذف المضاف وجعل المضاف في محله فانتصب، أو يكون منصوب على نزع الخافض، (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ): أي: على وصفهم أو بوصفهم، (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ): وهو أشد الكذب سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ): فهو حكيمٌ عز وجل إذا حكم فيما يتعلق بهؤلاء وبغيرهم وهو عليمٌ عز وجل بحال هؤلاء وبحال خلقه، فهو عز وجل أحكامه فيها الخير وهو عز وجل عالمٌ بمن يطيعه ممن يعصيه. فقال هنا: (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
*(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ): (قد): هنا للتحقيق، أي: لتحقق خسرانهم. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا): دل هذا على أن قتل أولئك لأولادهم هو السَّفَه لما مر معنا: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)، فهذا هو السَّفَه، ومن السفه أنهم أطاعوا الشركاء، فمن أطاع غير الله عز في تحريم حلال أو تحليل حرام أو الاقدام على ذنب أو ترك طاعة فإنه يعد من السفهاء لمَ؟ لأنه عصى الله وقدّم أمر المخلوق على أمر الله. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ): وخسرانهم كما سبق من أنهم خسروا ماذا؟ خسروا دنياهم بفقد هؤلاء الأولاد وخسروا آخرتهم إذا أنزل الله بهم. والسَّفَه هو: عدم حسن التصرف وهو سوء التصرف، ثم إنهم مع هذا السّفَه هذا سَفَهٌ مؤكد على أنه خالٍ من العلم فالسّفه من حيث الحقيقة ليس به علم لكن هنا من باب التأكيد على أنه سفَه، وأُكِّدَ هذا السّفَه من أنه مبناه على الجهل: (سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ)، (وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ): من ماذا؟ من هذه الأنعام، (وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ) ولم يقل افتراءً عليه من باب ماذا؟ أظهر الاسم من باب التعظيم لأن هؤلاء ما أقدموا على أمرٍ يسير وإنما أقدموا على أمرٍ عظيم إذا افتروا على مَن؟ على الله عز وجل: (افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا): أي تحقق ضلالهم، (قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ): من أنهم زاغوا عن الهدى فإنهم ضلوا، ثم أثبت لهم ماذا؟ من أنهم غير مهتدين، فدل هذا على أن هؤلاء أصبحوا في ضلالٍ بعيد، ولذا قال: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ): نافياً الهداية لهم.
*(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ): (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأ): أي: خلق، (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ): أي بساتين، (مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ): معروشات: الخلاف فيها كثيرٌ فيما يتعلق بالمعروشات وبغير المعروشات، لكن الذي سأقوله بإذن الله يجمع الأقوال. المعروشات هي التي لا ساق لها مما تنبسط على الأرض وإذا بالناس يرفعونها، وذلك كالعنب. وغير معروشات التي لها ساق فلا تحتاج الى أن يرفعها الناس. (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ): ولعله عز وجل ذكر هذا الأمر فيما يتعلق بالزرع؛ لأنهم لما حرموا وجعلوا هذه الزروع حسبما تهواه أنفسهم بيّن أن الذي أنشأ هذه الجنات وهذه الزروع هو الله عز وجل فكيف لهؤلاء أن يحكموا عقولهم وأهواءهم في تصريفها كما مر معنا في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا). فقال هنا: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ): فصل تفصيلا دقيقا من أجل أن يبين أن الذي أوجد هذه الأشياء هو الله وهو عز وجل أباحها للخلق، فكيف تعمدون إلى مثل هذه الأحكام الجائرة! ولذا قال في الآيات السابقات: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ). (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ): أيضاً والنخل، يعني: أنشأ وخلق النخل والزرع مختلفاً أُكٌله. وهنا قدم النخل على الزرع. ومر معنا في الآيات السابقات أنه قدم الزرع على النخل؛ لأن الزرع هو الغذاء، والنخل يعتبر فاكهة وأيضاً يعد غذاء، -والعلم عند الله- أن ما مضى يكون مفصلاً ففصل عز وجل في الآيات السابقات: (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)، لكن هنا لما جاء على وجه الإجمال -وهو مفصل- لكنه ليس كالتفصيل السابق قال: (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ). وأيضاً فيه ماذا؟ فيه التذكير والتنبيه للعقول أن تحضر، فسبحان الله! فإذا رأى العبد بأن النخل قدم هنا على الزرع والآية التي قبلها ليست كذلك هذا يدعوه الى أن يكون حاضر القلب. (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ): ومر معنا تفصيل ذلك في الآيات السابقات: (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)، (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ): أي وأنشأ الزيتون والرمان. وبينا ذلك أيضاً في الآية التي مرت معنا: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ). (مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) قال هنا متشابهاً غير متشابه في الآية التي مرت معنا مشتبهاً وغير متشابه، بعض المفسرين قال: هِيَ هِيَ، وإنما المشتبه والمتشابه سواء، وإنما هذا كما قال تنويع في الأسلوب، والذي يظهر لي من أن قوله مشتبهًا وغير متشابه؛ لأنه لما ذكر التفصيل هناك ذكر كلمة مشتبهاً فهي أقوى -والعلم عند الله- من قوله متشابها بدليل ماذا؟ في الآيات السابقات ماذا قال؟: (انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) أما هنا قال: (مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) ما الذي بعدها؟ أمر بالأكل ولم يأمر بالنظر، فدل هذا على أن هذا هو السبب في التفريق بينهما. قال هنا: (مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).
(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ): فدل هذا على أن قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ). طبعاً هو يؤكل من ثمره متى؟ إذا أثمر، لكن لماذا قال إذا أثمر؟ قال بعض العلماء: من باب بيان أن أهل المزارع لو أكلوا حال وجود الثمار فإنهم لا حرج عليهم ولا يقال لهم من أن للفقراء حقاً في ذلك فلا تأكلوا حتى تقسموا للفقراء فلعل هذا هو الأمر كما قال بعض العلماء، (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ): (وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ): وبين هنا لما قال: (وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) وذلك هو إخراج الزكاة وهذا دليلٌ على ماذا؟ على وجوب الزكاة ومن ثم بعض العلماء قال ليس هو دليل على الزكاة الواجبة وإنما هو حق آخر والزكاة إنما فرضت في ماذا؟ في المدينة وهذه السورة مكية، ولكن الذي يظهر من أن الزكاة من حيث الوجوب وجبت في مكة لهذه الآية لكن الأنصاب فرضت في المدينة.
(وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ): أتى بهذه تدل على ماذا؟ على وجوب الزكاة في الحبوب وفي الزروع، يعني في الثمار. ولذا تجب الزكاة في كل حب، وأما بالنسبة إلى الثمار فإنها لا تجب إلا في كل ثمرٍ يكال، يعني: بالصاع ويدخر، يعني: يبقى، ولذا فالفواكه والخضار (الخضروات) فإنها لا زكاة فيها؛ لأنها لا تبقى: (وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ). وقوله: (يَوْمَ حَصَادِهِ): يدل على ماذا؟ يدل على أن الإنسان مأمورٌ بإخراج الزكاة حال وجوبها للتأكيد على ماذا؟ على إخراجها أول ما يكون الحصاد. (وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ). والقول الذي يقول بأن هناك حقاً واجباً سوى الزكاة وردت بعض الآثار بعض الأحاديث لكن بها ضعف، ولكن ليعلم أن الذي يجب على الإنسان ماذا؟ يجب على الإنسان الزكاة المفروضة المعروفة، لكن هل يجب عليه شيءٌ آخر؟ نعم متى ما وجد السبب من ضيافة، متى ما وجد السبب من وجود حاجة لأحد فيتعين على المسلم ماذا؟ يتعين على المسلم أن يقف مع أخيه المسلم لدلالة النصوص العامة الأخرى، ولذا قال هنا: (حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا): هذا شامل النهي عن الإسراف، والإسراف هو: مجاوزة الحد في كل شيء، وقال هنا ولم يذكر ما يتعلق بالأكل أو ما يتعلق بالإنفاق، (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ): فهو لا يحب المسرفين. لمَ؟ لأن الله عز وجل قال: (إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخْوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِ ۖ وَكَانَ ٱلشَّيْطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورًا): فالمبذر اخوان الشيطان وهو أيضاً لا يحبه الله عز وجل. قال: (وَلَا تُسْرِفُوا ): من ذلك أن الإنسان لا يسرف -حسب سياق الآية- من أنه لا يسرف في إخراج ماله كله فيبقى عالةً على الناس لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا)، لكن لو قال قائل ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه تصدق بماله كله فالجواب عن هذا من أن أبا بكر رضي الله عنه من كان حاله كحال أبي بكر يتصدق بماله كله مع يقينٍ وثقةٍ عظيمةٍ بالله عز وجل من أن الله سيخلف عليه المال ثم خرج ليكتسب كما صنع أبو بكر رضي الله عنه فلا إشكال في ذلك لكن الإنسان مأمورٌ بالتوسط. (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا )(وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
*(وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً): سبحان الله لما ذكر ما يتعلق بالزرع ذكر ما يتعلق ببهيمة الأنعام لأن ضلال هؤلاء في ماذا؟ في الزروع وفي بهيمة الأنعام، قال: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً): أي: من الأنعام أنشأ وخلق (حَمُولَةً وَفَرْشاً): والحمولة هي: الإبل أو الحيوانات العظام التي يحمل عليها، وفرشًا هي: التي ليست بمرتفعة وليست بعالية كالغنم، فإنها تفرش حين تذبح، أيضًا هي لا تستطيع أن يحمل عليها، قال بعض العلماء: يتخذ أكثر ما يتخذ منها الفرش يتخذ من هذه الغنم وما يشابهها يتخذ منها الفُرُش، قال: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ): أمرهم بالأكل مما رزقهم الله من بهيمة الأنعام ومن الزروع وما شابه ذلك. (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): أي: لا تتبعوا طرق الشيطان، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ): فهو عدوٌّ مبينٌ ظاهر العداوة وبانت عداوته واستبانت لمَ؟ لأن أولئك تتبعوا خطوات الشيطان وطرق الشيطان فأردى بهم إلى أن يحكموا هذه الأحكام في الزروع وفي بهيمة الأنعام.
*(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ): هذه بدل من قوله تعالى: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً)، فهي بدل من حمولة وفرشا فنصبت لأنها بدل، وقال بعضهم: ليست متعلقة بما سبق وإنما وأنشأ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)
ولكن لعل البدلية هي أوضح. (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) أزواج يعني من ماذا؟ من بهيمة الأنعام، الذكور والإناث ثمانية أزواج كل هذه الأزواج من الذكور والاناث هي مباحةُ لكم.
(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ): من الضأن اثنين وهو: الذكر الكبش، وبالنسبة للأنثى هي: النعجة وعندنا يسمونها: (الرِّخْلَة). (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ): المعز الذكر وهو التيس، والأنثى: العنز. قال: (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ): هذا من باب النكير على هؤلاء: (قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ): هل التحريم منكم لهذه الأشياء، العلة هي الذكورية؟ العلة هي الأنوثية؟ العلة هي ما اشتملت عليه هذه البطون؟ فإنها تشتمل على ذكور أو إناث أو ذكور وإناث. (قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ): أنتم لا تجعلون الذكورية علة في جميع التحريم! فأنتم حرمتم بعض الذكور وأبحتم بعضها ولم تجعلوا ذلك مطّرداً أيضاً في الأنوثية! أحللتم بعضها وحرمتم بعضها! ما اشتملت عليه بطون بهيمة الأنعام أيضًا، أنتم فرقتم فلم تجعلوا العلة للذكورية ولا الأنوثية ولا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين! إذاً ماذا قال عز وجل بعدها؟: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أخبروني إن كان عندكم علمٌ فيما ذهبتم إليه إن كنتم صادقين، ليس عندكم علم، وإنما هو الجهل وإنما هو الجهل.
*(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ ): كررها مره ثانية مع الإبل والبقر، (قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا): هل أوصاكم الله بهذا وأنتم شهداء؟ أشهدكم الله على هذا الأمر؟ لأن صنيعكم هذا لا يخلو من حالتين: إما أن يكون عن علم فانتفى عنكم العلم: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): فليس لكم وليس عندكم علم! إذاً إذا لم يبقَ عندكم علم، إذاً أنتم أخذتم ذلك عن طريق التعبد من الله، التعبد لله عز وجل فأخذتم هذا الحكم من الله، ولذا قال: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا): فالجواب لم يوصِّيهم الله عز وجل بهذا، وإذا قال بعدها: (فَمَنْ أَظْلَمُ): أي: لا أحد أظلم: (ممَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا): والسبيل والعلة: (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ): فالافتراء على الله ظلم لكن يكون ظلماً على ظلم إذا كان أيضاً يندرج تحته أن يضل الآخرين: (مَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ): فليس عنده علم وإنما عنده جهل. (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ): فالذي استمرأ الكفر واستمرأ الظلم فالله عز وجل لا يوفقه إلى طرق ماذا؟ إلى طرق الخير وطرق الهداية فان هؤلاء أغلقوا على أنفسهم باب الخير فجزاهم الله عز وجل بمثل ما عملوا: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ إن الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين). وختم الآية بالتنفير من الظلم ذكر قبلها: (فمن أظلم ممَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا): ليبين عظم الظلم ويبين أن هؤلاء ظلمة ويبين أن من افترى على الله الكذب بفتاوى أو بآراء أو بعقليات أو ما شابه ذلك فإنه من أعظم من ظَلَم، وأيضاً خليقٌ به ألا يوفق إلى هداية الله عز وجل.
*(قُلْ لَا أَجِدُ): قل يا محمد لهؤلاء. لما ذكر ما صنعه هؤلاء بين أن الأصل في الأشياء الإباحة وأنه عز وجل ما حرم إلا هذه الأشياء وما عداها فيكون مباحا. (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ): دل هذا على أن هذه الأحكام إنما تؤخذ من الوحي بخلافكم الذين أخذتم ذلك عن طريق السَّفه والجهل.
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ): أي: على أي آكلٍ يطعمه، وأكد ذلك بكلمة: (يطعمه) من باب أن يبين أن المقصود هو الطعم الحقيقي وهو الأكل الحقيقي. (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ): أي: لا شيء يحرَّم على أي آكلٍ يأكله إلا ما استثني: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا): وهو الذي يسيل إذا ذبح وذُكِّي المأكول من الحلقوم والمريء والودجين، هذا هو المسفوح، ومر معنا الدم الذي يكون في العروق فإنه مباح، ومر معنا فيما يتعلق باستثناء الميتة في سورة المائدة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ)، وذكرنا من أن ميتة البحر والجراد وما شابه ذلك مباحة، هنا المقصود الميتة ما مات حتف أنفه. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا): إلا أن يكون ميتةً؛ لأنهم كانوا كما ذكر عز وجل كانوا يجادلون أهل الإيمان: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ): فيقولون كيف لا تأكلون ما قتله الله! -يقصدون الميتة- وتأكلون مما قتلتم أنتم؟ فنص هنا على أن هذه لا يجوز أكلها: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِير)ٍ. ومر معنا في سورة المائدة ما يتعلق بهذا الأمر. (أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ): قذر ونجاسة، (فإنه رجسٌ): ما هو؟ قيل: عائد على لحم ماذا؟ على لحم الخنزير، وقيل: عائد على الخنزير، وبينا ذلك في سورة المائدة. والرد على من قال أنه عائدٌ على الخنزير فهو عائدٌ على اللحم كما قال بعض العلماء والذي يظهر (فَإِنَّهُ رِجْسٌ): يعود على ما سبق. (أَوْ فِسْقًا): أي إلا أن يكون فسقاً: (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ): ومر معنا ذلك في سورة المائدة. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ): أي: غير طالبٍ للحرام، (وَلَا عَادٍ): أي: معتدٍ بالأكل بأكثر مما يسد الرمق، ومر ذلك مفصلاً في سورة المائدة. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): لو قال قائل مر معنا في سورة البقرة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ): قال: (اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ): ذكر اسم الله، هنا ذكر اسم الرب، وقال عز وجل في سورة النحل:
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). هنا اختلَف، -فالعلم عند الله- لما كان الحديث هنا فيما يتعلق بالمشركين، وهم ماذا؟ وهم يعتقدون ويؤمنون بأن الله هو الرب بيّن لهم أن هذه الأحكام من الرب الذي تؤمنون به فواجبٌ عليكم أن تعبدوه، ومن عبادته أن لا تحرموا إلا ما حرم، وأن تحلوا ما أحل. وأما بالنسبة إلى الآية التي في سورة البقرة وسورة والنحل: فإن الخطاب والحديث مع أهل الإيمان فدل هذا على أن الأكل من الطيبات مما يتقرب به إلى الله فيزيدكم ذلك عبادة؛ لأن الله هو المألوه المعبود مع المحبة والتعظيم.
(فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): لو قال قائل لو كان المستثنى فقط هو ما هو موجودٌ في الآية لكانت السباع حلالاً؛ لأنها لم تذكر في الآية، لكانت الطيور التي بها مخلب والحيوانات التي لها ناب لكانت حلال إلى غير ذلك، لو كان هذا هو المستثنى فقط ومن ثم قال بعض العلماء: أن هذه الآية منسوخة بالأحاديث الواردة عن النبي ﷺ وإذا قالوا بهذا القول فيكون النسخ، يكون نسخ القرآن بماذا؟ بالسنة، يكون نسخ القرآن بالسنة، والذي يظهر من أنه لا نسخ هنا، باعتبار ماذا؟ باعتبار أن الآية بينت المستثنى المحرم في حينها؛ لأن السورة مكية، لكن بعد ذلك أتى بيانات وأدلة من النبي ﷺ فلا يكون هناك نسخٌ، ومن ثم فإن بعض الصحابة رضي الله عنهم -وهم قلة- وتبعهم بعض العلماء من أنهم أباحوا السباح وأباحوا حيوانات كثيرة لدلالة هذه الآية. فالجواب عن هذا: أن بعض هؤلاء الصحابة رجعوا، وحتى لو صحّ أنهم لم يرجعوا فإن هذا مما اشتبه عليهم هذا الأمر فيما يتعلق بهذه الآية، وقولهم يعرض على الكتاب والسنة وهذا القول إن لم يثبت رجوع هؤلاء الصحابة، فإن هذه الأقوال مردودةٌ بصريح أدلة الشرع ومردودٌ أيضا بماذا؟ بمخالفة كثيرٍ من الصحابة لهم. وأيضاً يكون مردودا في رجوع هؤلاء إن ثبت رجوعهم. فلا دلالة لأحد في أن يقول والله مثلاً الكلاب حلال أو الأسد حلال أو الذئب حلال أو ما شابه ذلك.