بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأنعام من الآية 146 إلى الآية 151
الدرس ( 101 )
للشيخ زيد البحري حفظه الله
قوله تعالى : ﴿وَعَلَى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا كُلَّ ذي ظُفُرٍ﴾ سبحان الله لما ذكر من أنه لم يحرم إلا هذه الأشياء في الآية السابقة؛ بيَّن أن هناك أشياء محرمة على اليهود، وهذه تخصُّ من؟ اليهود.
﴿قُل لا أَجِدُ في مآ أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطعَمُهُ إِلّا أَن يَكونَ مَيتَةً أَو دَمًا مَسفوحًا أَو لَحمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجسٌ …﴾
لما ذَكَرَ هذه القاعدة في بيان الحلال والمستثنى من ذلك مما حرم، ذَكَرَ ما حرمه على من؟ على اليهود، قال: ﴿وَعَلَى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا كُلَّ ذي ظُفُرٍ﴾ وهو الذي لم تنفرج له أصابع مثل: الإبل، مثل: النعامة،… وما شابه ذلك
فحَرَّم الله ﷻ عليهم الأكل منها في جميع أحوالها من شحومها ولحومها ﴿وَعَلَى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا كُلَّ ذي ظُفُرٍ﴾
لكن بالنسبة للبقر والغنم؟ حرَّم منها أشياء:
﴿وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنَمِ حَرَّمنا عَلَيهِم شُحومَهُما إِلّا﴾ الشحوم التي هي: ﴿إِلّا ما حَمَلَت ظُهورُهُما﴾ من الشَّحَم ﴿أَوِ الحَوايا﴾
وهي الأباعر: المصران: الأمعاء ﴿أَوِ الحَوايا﴾ يختلط بها الشحم ﴿أَو مَا اختَلَطَ بِعَظمٍ﴾ مثل عظم الإلْيَة: إلْيَة الشاة؛ فبها عظم ﴿ذلِكَ جَزَيناهُم بِبَغيِهِم﴾ أي هذا التحريم بسبب ماذا؟ بسبب بغيهم وظلمهم، ولذا ماذا قال عز وجل؟
﴿فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذينَ هادوا حَرَّمنا عَلَيهِم طَيِّباتٍ أُحِلَّت لَهُم وَبِصَدِّهِم عَن سَبيلِ اللَّهِ كَثيرًا (160) وَأَخذِهِمُ الرِّبا وَقَد نُهوا عَنهُ وَأَكلِهِم أَموالَ النّاسِ بِالباطِلِ وَأَعتَدنا لِلكافِرينَ مِنهُم عَذابًا أَليمًا﴾ [النساء: 161:160] ﴿ذلِكَ جَزَيناهُم بِبَغيِهِم﴾ البغي الذي ذكره ﷻ مفسر في سورة النساء ﴿وَإِنّا لَصادِقونَ﴾ لماذا قال: ﴿وَإِنّا لَصادِقونَ﴾ وإنا لصادقون يا محمد فيما أخبرناك به من تحريم هذه الأشياء على اليهود، لم؟ لأنهم كَذَبُوا، كيف كَذَبُوا؟ لأنهم يقولون: إن الله لم يُحَرِّم علينا هذه الأشياء، وإنما حرَّمناها على أنفسنا اقتداء بإسرائيل، فذكر قوله ﴿وَإِنّا لَصادِقونَ﴾ في بيان أن هذا التحريم من عند الله عز وجل ، قال عز وجل ﴿وَإِنّا لَصادِقونَ﴾ وهؤلاء كَذَبُوا فيما ذكروه من أنها لم تُحَرَّم عليهم إلا من تلقاءِ أنفسهم.
﴿فَإِن كَذَّبوكَ فَقُل رَبُّكُم ذو رَحمَةٍ واسِعَةٍ﴾ فإن كذبوك يا محمد ﴿فَقُل رَبُّكُم ذو رَحمَةٍ واسِعَةٍ﴾ سبحان الله قال هنا ذو رحمة واسعة، مرَّ مَعَنا :﴿وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحمَةِ﴾ لما ذكر عز وجل ما يتعلق بصدود من صد عن الصراط المستقيم فيما مرَّ معنا قال : ﴿إِن يَشَأ يُذهِبكُم وَيَستَخلِف مِن بَعدِكُم ما يَشاءُ كَما أَنشَأَكُم مِن ذُرِّيَّةِ قَومٍ آخَرينَ﴾ قال قبلها: ﴿وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحمَةِ﴾ .
قال هنا: ﴿فَإِن كَذَّبوكَ فَقُل رَبُّكُم ذو رَحمَةٍ واسِعَةٍ﴾ إذًا تلك الرحمة المذكورة فيما مضى: رحمة واسعة، لكن ذُكِرت هنا بعد التكذيب ﴿فَإِن كَذَّبوكَ﴾ من باب ماذا؟ من باب بيان أن من كَذَّب ورجع إلى الله وتاب: فرحمة الله واسعة، وإن لم يتب وبقي على ما هو عليه نكمل الآية ﴿وَلا يُرَدُّ بَأسُهُ عَنِ القَومِ المُجرِمينَ﴾
﴿وَلا يُرَدُّ بَأسُهُ﴾ أي: عذابه ﴿عَنِ القَومِ المُجرِمينَ﴾ لأن من كَذَّب فهو مجرم.
﴿سَيَقولُ الَّذينَ أَشرَكوا لَو شاءَ اللَّهُ ما أَشرَكنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمنا مِن شَيءٍ﴾ سيقول: يعني في المستقبل ، وهم قد قالوه في الحاضر ، وقالوه فيما مضى ، فدلَّ على أن ديدن هؤلاء ؛ هذا المعتقد الذي اعتقدوه ، ولذا هؤلاء ذكروا هذه الآية من باب الاعتراض بالقَدَرِ على أمر الشرع ، فدفعوا أمر الشرع بالقَدَرِ ولذا قال ﷻ عنهم في مواطن أخرى : ﴿وَقالَ الَّذينَ أَشرَكوا لَو شاءَ اللَّهُ ما عَبَدنا مِن دونِهِ مِن شَيءٍ نَحنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمنا مِن دونِهِ مِن شَيءٍ ﴾ وقال ﷻ ﴿وَقالوا لَو شاءَ الرَّحمنُ ما عَبَدناهُم ﴾ وقال ﷻ عن هؤلاء ﴿ أَنُطعِمُ مَن لَو يَشاءُ اللَّهُ أَطعَمَهُ ﴾ فهذه أربعة مواطن تُبَيِّنُ ماذا؟ تبين أن هؤلاء اعتذروا وأخذوا بالقدر معترضين به على أمر الشرع .
قال هنا : ﴿سَيَقولُ الَّذينَ أَشرَكوا لَو شاءَ اللَّهُ ما أَشرَكنا وَلا آباؤُنا﴾ لو شاء الله ما أشركنا : أليس هذا القول قولًا صحيحًا ؟ الجواب : بلى ، لم ؟ لأن الله ﷻ قال قبلها ﴿وَلَو شاءَ اللَّهُ ما أَشرَكوا﴾ فكيف يُنكَر عليهم هنا ؟
فالجواب عن هذا : أن هؤلاء لو أخذوا بالقدر من باب الافتقار إلى الله والاستعانة بالله ﷻ وتسليم الأمر لله ، دون أن يعارضوا بالقدر الدين ؛ فهنا يكون حالهم كحال أهل السنة، لأن أهل السنة يقولون كما ذكر ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل قال : أهل السُّنَّة يقولون لو شاء الله ألا يقع الكفر من الكافر لوقع ما أراد الله ﷻ ، لو شاء الله ألا يُعصى ؛ ما عصي الله ﷻ، لكن هؤلاء اعترضوا بالقدر على الشرع ، فزينوا لأنفسهم من أن الشرك الذي وقعوا فيه ؛ إنما هو بقدر الله ﷻ ، فهم لم يقولوا : ﴿ لَو شاءَ اللَّهُ ما أَشرَكنا﴾ اعترافًا وتوحيدًا لله عز وجل ، وإنما أرادوا الاعتراض على قَدَر الله ﷻ لم ؟ لأنهم قالوا: ما شاء الله – أي شيء يشاؤه الله – فالله يحبه .
-1-
وهذا ضلال مبين: هذا هو الرد عليهم ، ولذلك ماذا قال بعدها : ﴿كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم حَتّى ذاقوا بَأسَنا﴾ إذ لو كان شركهم – ممن مضى – لو كان محبوبًا عند الله ؛ لما أذاقهم بأسه .
فدل هذا على أن هؤلاء اعترضوا وجعلوا القدر ماذا؟ يعترضون به على شرع الله، على ترك التوحيد وعلى فعل الشرك، على ترك الطاعة وعلى فعل المعصية، ولذا قال عز وجل هنا – قال عن هؤلاء -: ﴿وَلا حَرَّمنا مِن شَيءٍ﴾ مما سبق ﴿كَذلِكَ﴾ أي كما كذَّب هؤلاء ﴿كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم﴾ لما تعللوا بالقدر على ما وقعوا فيه من الشرك؛ فأذاقهم الله بأسه ﴿كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم حَتّى ذاقوا بَأسَنا﴾ حتى أذاقهم الله العذاب، فدل هذا على ماذا؟ على أنه عز وجل لم يرضَ ماذا؟ لم يرضَ الكفر ولم يرضَ المعاصي، ولوكان الله يشاء ذلك؛ ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن، ولذا ماذا قال بعدها: ﴿قُل هَل عِندَكُم مِن عِلمٍ فَتُخرِجوهُ لَنا﴾ هل عندكم من علم فيما ذهبتم إليه فتخرجوه لنا؟ الجواب: لا علم عندهم، لأن النصوص الشرعية تُبَيِّن ماذا؟ – أنه لا يَلْزَم – وهذا أمر كما قال ابن القيم: من أراد أن يتخلص من هذه الورطة فليعلم بأن: 1- مشيئة الله 2- ورضاه: ليسا أمرًا واحدًا؛ ولا يلزم من المشيئة الرضى فإذا شاء الله ﷻ أن يقع الكفر؛ فهو لا يدل على رضاه ﷻ بهذا الكفر، إذا شاء الله أن تقع المعصية لا يدل على رضى الله بهذه المعصية.
إذًا من أراد أن يتخلص من هذه الورطة: فلا يجعل مشيئة الله ورضاه شيئًا واحدًا، ولا أنهما متلازمان، فقال ﷻ: ﴿قُل هَل عِندَكُم مِن عِلمٍ فَتُخرِجوهُ لَنا﴾ الجواب: ﴿إِن تَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ أي: ما تتبعون إلا الظن، والظن ليس علمًا ﴿إِن تَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن أَنتُم إِلّا تَخرُصونَ﴾ أي: ما أنتم إلا تكْذِبُون، مع أنكم أصحاب ظن؛ فأنتم أيضًا كَذَبَه، ولذا ماذا قال بعدها: ﴿قُل فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ البالغة التي بلغت المنتهى في إقامة الحجة، كيف ؟ لأن الله عز وجل جعل لكم أسماعًا وأبصارًا تميزون به بين الحق والباطل، أرسل إليكم الرسل، وأنزل عليكم الكتب ، وقامت عليكم الحجج ؛ إذًا هي حجة بالغة ﴿قُل فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ ﴾ ولذا ماذا قال بعدها : ﴿ فَلَو شاءَ لَهَداكُم أَجمَعينَ﴾ أتى بعدها سبحان الله! يعني: لو شاء الله عز وجل أن يهديكم: هداكم،
لم؟ لأنه لما ذكر عز وجل من أن مشيئته لا تدل على رضاه، قد يُظن أنه ﷻ إذا شاء شيئًا أنه لا يقع ومن ذلك هدايتهم فقال هنا مؤكدًا ﴿فَلَو شاءَ لَهَداكُم أَجمَعينَ﴾
فإذًا لو نظرت إلى أول الآية وإلى آخر الآية وجَدْتَ ماذا؟
وجدْتَ البيان العظيم منه ﷻ، ومن ثم فإن هؤلاء كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: هؤلاء القَدَرِيَّة المشركيَّة.
القدرية المشركية: أقَرّوا بالقدر ولم يقروا بالشرع، فتعللوا بالقدر ليدفعوا الشرع.
هناك قدرية مجوسية: وهم القدرية المعروفون، وهم الفرقة الضالة الذين أقروا بالشرع ولم يقروا بالقدر، ولذلك مجوسية، لم ؟
مثل المجوس (المجوس جعلوا للكون إلهين) وهؤلاء جعلوا مع الله آلهة وخالِقِين لم؟ لأنهم يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه من الهداية ومن الضلالة؛ فهم القدرية المجوسية.
هناك قدرية إبليسية: وهم اعترفوا بالقدر وبالشرع لكن جعلوا أحدهما معارضًا للآخر، وذلك كصنيع إبليس ﴿قالَ فَبِما أَغوَيتَني لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِراطَكَ المُستَقيمَ﴾
خلاصة القول: دل هذا على أن ما يقع في الكون من معصية، من ظلم، من كفر، …. هو بماذا؟ بمشيئة الله ﷻ، ولو شاء الله ما وقع شيء، لكن إذا وقع هذا الشيء الذي في الكون؛ لا يلزم أن يكون محبوبًا عند الله ﷻ .
وقع كفر: ابتلاءً واختبارًا، الله عز وجل خلق إبليس وهو شر، لكن خلقه لحكم: ابتلاء وما شابه ذلك ، فلا يدل على أن الله إذا شاء شيئًا أنه يرضاه ويحبه .
لذا لو وقعت الطاعة والهداية من مسلم هنا: شاءها الله ورضي بها وأحبها.
فهنا ماذا قال ﷻ عن هؤلاء ﴿سَيَقولُ الَّذينَ أَشرَكوا لَو شاءَ اللَّهُ﴾ تأمل معي حتى تفهم ما ذكَرْتُه كله
قال ﷻ عن هؤلاء ﴿سَيَقولُ الَّذينَ أَشرَكوا لَو شاءَ اللَّهُ ما أَشرَكنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمنا مِن شَيءٍ﴾
هذا القول: لَو شاءَ اللَّهُ ما أَشرَكنا: قول صحيح؟ نعم قول صحيح؛ قال تعالى:﴿وَلَو شاءَ اللَّهُ ما أَشرَكوا﴾ لكن لماذا قال بعدها : ﴿كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم حَتّى ذاقوا بَأسَنا﴾ لم أوقع بهم البأس مع أن القول الأول صحيح ؟
القول الأول صحيح لو أنهم لم يعترضوا بالقدر على الشرع ؛ فأباحوا لأنفسهم الكفر ، لكن لما جعلوا القدر حجة لهم على ترك الدين وعلى الكفر؛ أذاقهم الله بأسه ، فلو كان الكفر محبوبًا ومرضيًا كما زعموا ؛ لما أذاق الله عز وجل العذاب لأولئك ولذا ماذا قال بعدها﴿ حَتّى ذاقوا بَأسَنا قُل هَل عِندَكُم مِن عِلمٍ فَتُخرِجوهُ لَنا﴾ إذًا ﴿إِن تَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن أَنتُم إِلّا تَخرُصونَ﴾ فلو أنهم قالوا مثل ما قال أهل السنة والجماعة من أنه عز وجل ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن ، ولكن أهل السنة والجماعة لم يجعلوا القدر دافعًا للشرع كحال هؤلاء ، وإنما أهل السنة يقولون : ما شاء الله كان ؛ وليس كل ما شاءه الله يكون محبوبًا عند الله، لكن هؤلاء ليس عندهم إلا الظن والكذب ، لكن أهل السنة والجماعة عندهم العلم ، ولذا ماذا قال بعدها : ﴿قُل فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ الحجة البالغة إذ جعل لكم أسماعًا وأبصارًا تميزون ، وأرسل لكم الرسل ، وأنزل عليكم الكتب .
-2-
إذًا دليل عقلي، ودليل شرعي، ومع ذلك لم تأخذوا بهذه الحجة، لما أخذ بها أهل السنة نجوا من هذا الأمر ﴿قُل فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ ولذا ماذا قال بعدها: ﴿فَلَو شاءَ لَهَداكُم أَجمَعينَ﴾ وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أنه ﷻ لا تقع معصية ولا يقع كفر إلا بمشيئته ﷻ، لكن لا يدل على رضاه.
ولا تقع طاعة ولا خيرٌ إلا بمشيئة الله ﷻ، لكنه لما وقعت تلك الطاعة: هي بمشيئة الله، ويرضاها الله ﷻ ، ولو قال قائل : آدم عليه السلام حَجَّهُ موسى : قال أخرجتنا من الجنة ، قال آدم عليه السلام : أَتَلُومُني على ذنب قد قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة – كما ثبت في الصحيح – قال ﷺ : ( فحَجَّ آدمُ موسى ) يعني : غلب آدم موسى بالحجة .
فهل آدم احتج بالقدر على فعل الذنب؟ فالجواب عن هذا: لا، لأن آدم عليه السلام أرفع منزلة وأعظم مكانة من أن يحتج بالقدر على دفع الشرع ، وكذلك كيف لموسى عليه السلام أن يظن بآدم هذا الظن ؟ وإنما كما قال شيخ الإسلام رحمه الله : فحج آدم موسى بمعنى ماذا؟
بمعنى أن آدم احتج بالقدر على المصائب ليس على المعائب؛ يعني مثلًا: إنسان تاب من ذنبٍ ومن معصية وتاب توبة نصوحًا ، فأتاه إنسان فلامه ، فيجوز له أن يحتج بالقدر كما قال ابن القيم رحمه الله ، لم ؟ لأنه تاب منه.
لكن لو أتى شخص فلامه وهو باقٍ على الذنب في حاضره أو في مستقبله فلامه، لما قال: هذا قدر الله، أنا أفعل هذا الذنب في الحاضر أو في المستقبل لأنه قدر الله ، فهنا احتجاجه بالقدر مردود
إذًا:
1- الاحتجاج بالقدر على المصائب دون المعائب: جائز.
2- الاحتجاج بالقدر على شيء ماضٍ قد تيب منه: صحيح.
3- الاحتجاج بالقدر على ذنب حاضر أو في المستقبل وأصَرَّ عليه: ليس بصحيح.
وهذا يوجه ماذا؟ حديث: (فحج آدم موسى)
وأما ما جاء مما ثبت عنه ﷺ أنه طَرَق عليًا وفاطمة ليلًا فقال له علي: “إن أنفسنا بيد الله متى ما شاء الله أن يبعثها بعثها” فخرج ﷺ وجعل يقول: ﴿وَكانَ الإِنسانُ أَكثَرَ شَيءٍ جَدَلًا﴾ فيقول ابن القيم رحمه الله: لم يحتج علي رضي الله عنه بالقدر على فعل ذنب أو ترك طاعة وإنما هو نائم والنائم ليس بمفرط، فهو احتج بقدر الله من أن أنفسنا بيد الله عز وجل، يقول ابن القيم : وهذا نظير ما فعله النبي ﷺ لما نام عن صلاة الفجر قال: ( إن الله ﷻ قبض أرواحكم حيث شاء وردها إليكم حيث شاء )
﴿قُل هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذينَ يَشهَدونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا﴾ قل يا محمد لهؤلاء هلم شهداءكم، وهلمَّ بمعنى: أقبل، إذا كانت لازمة، أما إذا كانت متعدية كما هنا فمعناها: أحضروا ﴿قُل هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ﴾ أي احضروا شهداءكم ﴿الَّذينَ يَشهَدونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا﴾ أي: مما ذُكِر في الآيات السابقات مما افتروا به على الله ﷻ
﴿قُل هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذينَ يَشهَدونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِن شَهِدوا فَلا تَشهَد مَعَهُم﴾ وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن الإنسان واجب عليه أن يصدع بدين الله عز وجل إذا انتفخ أهل الباطل، ولذا سبحان الله، لما ذكر الله ﷻ في أول السورة ما يتعلق بالتوحيد قال ﷻ :﴿وَأوحِيَ إِلَيَّ هذَا القُرآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُم لَتَشهَدونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخرى قُل لا أَشهَدُ﴾ لما أتى هنا في أواخر السورة في سياق التحريم ماذا قال؟ ﴿فَإِن شَهِدوا فَلا تَشهَد مَعَهُم وَلا تَتَّبِع أَهواءَ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا﴾ وهذه معطوفة على ما سبق ﴿وَلا تَتَّبِع أَهواءَ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا﴾ ولم يقل ولا تتبع أهواءهم : من باب بيان أن صفة هؤلاء التكذيب بآيات الله ﷻ ﴿وَلا تَتَّبِع أَهواءَ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا وَالَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِم يَعدِلونَ﴾ أي: يساوون غيره ﷻ به، وهذا معنى الآية : من أن هؤلاء شهدوا أن الله حرم هذا ، وأيضًا أضافوا إلى ذلك أنهم اتبعوا أهواءهم ، وأيضًا هم لا يؤمنون بالآخرة ، وأيضًا هم بربهم يعدلون أي : يشركون ، فكل هذه الجمل معطوفة بعضها على بعض .
سبحان الله قال هنا: ﴿بِرَبِّهِم يَعدِلونَ﴾ في أول السورة، في أول آية ماذا قال ﷻ ؟
﴿الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنّورَ ثُمَّ الَّذينَ كَفَروا بِرَبِّهِم يَعدِلونَ﴾ سبحان الله، مع تلك الآيات الدالة على توحيد الله وعلى عظمه الله ؛ أيضًا هم بربهم يشركون ، أيضًا فيما يتعلق بالدلائل التي تبين أن الله عز وجل هو الذي له التحريم وله التحليل ، مع تلك الآيات التي مرت معنا ، أيضًا هم بربهم يعدلون .
﴿قُل تَعالَوا﴾ قل يا محمد لهؤلاء: تعالوا، سبحان الله، بعدما بين ﷻ ما يتعلق بالمحرمات بشتى أنواعها، بين لهم هنا قواعد الدين، ولذا يسميها بعض العلماء بالوصايا العشر ﴿قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا﴾
هنا لما قال أتل ما حرم ربكم عليكم، قال ما حرم ربكم، من ضمن الوصايا: فيها أشياء مأمورة وليست محرمة، ولذا اختلف العلماء فيما يتعلق ب ﴿أن﴾ وفيما يتعلق ب ﴿لا﴾ فيكون المعنى: – نذكر أظهر الوجوه – ﴿قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَنْ﴾
-3-
﴿أن﴾: تفسيرية؛ لأنه تقدمها ما فيه معنى القول وليس بصريح القول وهو :﴿ أَتلُ﴾ أن: إذًا ما بعدها مُفَسَّر ﴿لا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا﴾ فتكون ﴿لا﴾ ناهية
أو تكون ﴿أن﴾: مصدرية، وتكون ﴿لا﴾ زائدة للتأكيد، فيكون ﴿تُشرِكوا﴾ : منصوب بأن المصدرية وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة وقيل : ﴿ قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم ﴾ ثم : ﴿ عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا ﴾ لكن الأوجه التي ذَكَرْتُها مُرَتَبًا هي الأولى ؛ الأول : أن تكون تفسيرية ، ثم الذي يليها في القوة ، ثم الذي يليه في ذلك .
﴿قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا﴾ أيّ شيء؛ لما قال: ﴿وَهُم بِرَبِّهِم يَعدِلونَ﴾ إذًا قال: لا يجوز أن يُشرك مع الله: لا نبيًا مرسلًا ولا ملكًا مقربًا، فما ظنكم بمن دونهما ﴿أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾ ومر معنا ذكر ذلك الإحسان عند قوله تعالى في سورة النساء ﴿وَاعبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾ وهذا من عظيم فضله ﷻ ؛ لأنه لما ذكر حقه ، ذكر حق المخلوقين ، وأعظم هؤلاء المخلوقين من ؟ الوالدان لأنهما بأمر الله سبب في خروج ابن آدم إلى هذه الدنيا ﴿وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾ ولم يقل إلى الوالدين الوالدين إحسانًا
لو تأملنا النصوص في القران ﴿وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾ بالباء ، بمعنى ماذا؟ بمعنى : أن الإحسان ملاصق للوالدين من قِبَلِ الولد دون أن يكون هناك زمن ودون أن يكون هناك تردد بخلاف كلمة إلى ﴿ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا ﴾ وأمر بالإحسان ولم ينه عن الإساءة ، وما جاء في سورة الاسراء ﴿ فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما﴾ سبقه ماذا ﴿ وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا ﴾ ولم ينه عن الإساءة مجردًا ؛ لم يأت اللفظ بالنهي عن الإساءة مجردًا ؛ باعتبار أن الأصل أن الولد لا يحصل منه إساءة إلى والديه ألْبَتَّة، إذًا الأمر يكون بطلب الإحسان ، الأمر يكون بالإحسان ﴿ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ ﴾ أي : بسبب إملاق ، أي: فقر ﴿ وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيّاهُم ﴾ , في سورة الإسراء : ﴿ وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم خَشيَةَ إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُهُم وَإِيّاكُم ﴾
هنا لما كان الفقر واقعًا ﴿وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ﴾ قال: ﴿نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيّاهُم﴾ يعني نرزقكم أنتم؛ بما أن الفقر
قد حل بكم؛ نرزقكم وأيضًا نرزق ماذا؟ الأولاد، لكن في سورة الإسراء: ﴿وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم خَشيَةَ إِملاقٍ﴾ الفقر لم يأتِ بعد ولذا ماذا قال بعدها: ﴿نَحنُ نَرزُقُهُم﴾ أي: الأولاد؛ خيفة مما يأتي في المستقبل ﴿نَحنُ نَرزُقُهُم وَإِيّاكُم﴾
﴿وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ﴾ لما مر معنا أن سبب القتل – في نفس السورة – ﴿وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثيرٍ مِنَ المُشرِكينَ قَتلَ أَولادِهِم شُرَكاؤُهُم لِيُردوهُم﴾
فقال هنا : ﴿ وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ ﴾ الفواحش ما فَحُشَ واستُقبِح من قولٍ أو عمل ﴿ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ ﴾ المُعْلَن والخفي ومر معنا توضيح لذلك في نفس السورة فيما مضى ﴿ وَذَروا ظاهِرَ الإِثمِ وَباطِنَهُ ﴾ سبحان الله ، لما ذكر هناك ذكر الأمر قال ﴿ وَذَروا ظاهِرَ الإِثمِ وَباطِنَهُ ﴾ قال هنا : ﴿ وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ ﴾ فهنا النهي عن القرب : النهي عن قرب الفواحش ، لكن هناك لما كان إثمًا قال :﴿ وَذَروا ظاهِرَ الإِثمِ وَباطِنَهُ ﴾ لأن الفواحش : كلما كان الشيء الذي يُغضب الله يتولد منه أن يقع الإنسان فيما هو أعظم منه – من جنسه – فهو يُنهى عن القرب ، لأن للنفس فيه شهوة لكن إن لم يكن هناك شهوة ، فهنا يأتي النهي الصريح ، فلذا قوله تعالى :﴿ وَلا تَقرَبُوا الزِّنا ﴾ ولم يقل ولا تزنوا ، النهي عن قُرب الزنا من القبلة واللمس وما شابه ذلك ﴿ وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالحَقِّ ﴾ هذا عام مع أنه ذكر فيما مضى ﴿ وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ ﴾ هذه داخلة في ﴿ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بالحَقِّ ﴾ باعتبار أن صنيع هؤلاء أنهم يقتلون الأولاد خيفة من الفقر، فخُصَّ بالنهي دون النهي العام ﴿ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالحَقِّ﴾ لأن قتلها عدوان ؛ إلا إذا كان بالحق كأن يِقْتل لإنسان قتيل فالورثة يرفعون أمره إلى الحاكم ، وإذا بالحاكم يقتله قصاصًا ، هذا بالحق ، إلى غير ذلك من الأسباب التي يجوز فيها أن يُقتل المسلم بحق .
قال: ﴿وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالحَقِّ ذلِكُم﴾ أي ما مضى ﴿وَصّاكُم بِهِ﴾ والذي وصى به لأن الوصية : هو الأمر المؤكد الموثق مما يدل على أن ما مضى قواعد ﴿ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلونَ﴾ فهو سبيل إلى أن يكون الإنسان عاقلًا إذا طبق ما مضى في هذه الآية
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على محمد