بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير المختصر الشامل
سورة الأنفال
من آية1 إلى 14
فضيلة الشيخ زيد البحري حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد ﷺ وعلى آله وأصحابه وسلَم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد..
فنشرع بتوفيقٍ من الله وبإعانة منه في تفسير سورة الأنفال. وسورة الأنفال هي من السور المدنية، وأُختلِف في بعض آياتها هل هي من السور المكية أو أنها من السور المدنية ، وليعلم من أنه لا يلزم أن تأتي السورة بعد السورة ولها سبب أو متعلق، وبعض العلماء قال لما ذكر الله عزوجل حال الأمم السابقة مع أنبيائهم بيّن هنا في سورة الأنفال حال النبي ﷺ مع قومه { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ،{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ }
الأنفال :هي الغنائم سميت بهذا الاسم لأنها من الزيادة ، ولذا قال الله عزوجل { وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } أي : زيادة وذلك لأن الغنائم أُبيحت واُحلت لهذه الأمة كما
أخبر ﷺ ولم تحل للأمم السابقة ، { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ } أي : يسألك بعض الصحابة
عن الأنفال ، يعني عن حكم الأنفال ، وبعض العلماء قال : أن (عن) هنا زائدة فيكون
المقصود يسألونك الأنفال لكن الأول هو الأظهر من أنهم سألوا عن حكمها { يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْأَنفَالِ } ولذا فإن الحديث ثبت من أن النبي ﷺ في غزوة بدر جرى ما جرى
وهذه السورة – وهي سورة الأنفال- تتحدث عن غزوة بدر، ولذا فالنبي ﷺ في غزوة بدر كان معه الشباب وكان معه الشيبة ، وكان الشيبةُ عند الرايات والشباب في المقدمة، ومن ثَمَ لما حصل الانتصار وحصل النصرُ هنا قال بعض الشباب فنحن أحق بذلك أكثر منكم وقالوا من هم عند الرايات وهم الشيبة قالوا : لولا الله ثم نحن لأتأكم القوم ومن ثَمَ تنازعوا في حكمها فقال الله عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ} يعني عن حكم الأنفال والنبي ﷺ بيّن ذلك بتبيين الله عزوجل له ، ولذا في أواسط السورة ماذا قال ؟ { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ} وهنا -وهي سورة الأنفال- تتحدث عن غزوة بدر ومع ذلك أول ما ذكرت السورة ذكرت الغنائم ولم تذكرأحداث الغزوة من باب ماذا؟ من باب بيان نصر الله عزوجل العظيم لهؤلاء فإن تقديم ما يتعلق بالنصر في أول السورة يدل على أن نصر الله عزوجل حصل للصحابة رضي الله عنهم { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ} قل يا محمد { قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } عليكم بتقوى الله عزوجل وعليكم أن تصلحوا ما بينكم ولا يحصل بينكم نزاع ولا شقاق وذلك لأن المال يكون سبباً ووسيلةً إلى التنازع وهذا حاصل بين الناس فقال هنا { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } لما أمرهم بحقه وهو تقوى الله ، أمرهم بأن يصلحوا ما بينهم من الحقوق { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن كنتم مؤمنين حقاً فعليكم بطاعة الله وبطاعة النبي ﷺ في كل شيء ومن ذلك ما يتعلق بهذه الغنائم { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } وهنا لما قال : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بيَّن صفات هؤلاء المؤمنين { إِنَّمَا } وهي أداة حصر { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : خافت قلوبهم ولو قال قائل هنا ذُكر ماذا؟ وجل ُ القلوب وفي قوله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ } فكيف يكون وجل القلوب مع ذكر الله هنا واطمئنان القلوب في الآية الأخرى؟ فالجواب عن هذا من أن القلوب تطمئن إذا ذُكر وعد الله وثواب الله، والقلوب تخاف وتوجل إذا ذُكر وعيد الله وعقاب الله، فيكون أهل الإيمان حالهم بين الرجاء وبين الخوف، ولذا قال تعالى جامعاً بينهما {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ} متى؟ حال الوعيد { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ} حال الرجاء { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } فإذا تليت عليهم الآيات فإنهم يزدادون إيمانا وهذا يدل على ماذا؟ من أن زيادة الإيمان تحصل لهم إذا تُليت عليهم الآيات بمحضر الناس، فكيف يكون حالهم في حال الخفاء مع أنفسهم؟ يكون أكثر وأكثر، فلذا قد يحب الإنسان أن يسمع القرآن من غيره، ولذا النبي ﷺ كما في الصحيحين لما قال لابن مسعود رضي الله عنه ” اقرأعَلَيَّ الْقُرْآنَ ” فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أأَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلْيكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ :”إِنّيِ أُحِبُّ أن أسمعه مِنْ غَيِري” فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ الّنِسَاءِ حَتَّى جِئتُ إلى هذهِ الآيَة { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا { قالَ :”حَسْبُكَ الآنَ” فالْتَفَتُّ إِلَيْهِ،فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَان . ولذا لما قال له أأقرأ عليك وعليك أنزل، قال أني أحب أن أسمعه من غيري { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } هذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن الإيمان يزيد ومن دلائل الزيادة أنه يحصل نقصان فالزيادة تدل على أن هناك شيئاً كان ناقصا ثم زاد وهذا معتقد أهل السنة والجماعة من أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وكما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } فدل هذا على زيادة الإيمان وعلى نقصانه ، ومما يدل على نقصانه ما جاء في الحديث الصحيح قوله ﷺ عن النساء “مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ” فذكر ﷺ أن دينهن ينقص فقال عزوجل هنا : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فهم يفوضون أمورهم إلى الله عزوجل مع بذل الأسباب، وتأمل هنا لما ذكر{ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ذكرها بعد أعمال طيبة وبعد صفات جليلة مما يدل على أن من أعظم التوكل أن يتوكل العبد على الله فيما يتعلق بدينه، وأيضاً يتضمن أن العالم الشرعي يتوكل على الله عز وجل ويفوض أمره إلى الله من أن علمه سينتشر وسيكون له القبول إذا كان مخلصاً لله عز وجل في ذلك. قال هنا { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } جمع هنا بين الإنفاق والصلاة لأن الصلاة حقٌ لله عزوجل ، والنفقة حقٌ للمخلوق ولذا قال { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ولونظرنا إلى هذه الآية والآية التي قبلها فإن الآية التي قبلها تحدثت عن الإيمان وهذا يتعلق بالعبادات القلبية ثم ذكر بعد ذلك إقامة الصلاة وهذا يتعلق بالعبادات البدنية ثم ذكر الإنفاق من الأموال وهذا يتعلق بالعبادات المالية فجمعت هاتان الآيتان العبادة القلبية والعبادة البدنية والعبادة المالية قال هنا : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أولئك المشارون إليهم فيما مضى { أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فهؤلاء هم المؤمنون حقا، ثم ذكر ثوابهم { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } وهذا يدل على القرب، لهم درجات ومنازل عالية عند ربهم { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} ومع هذه الدرجات { وَمَغْفِرَةٌ } أي لذنوبهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي رزقٌ كريم وُصف الرزق بأنه كريم باعتبارأن الكريم هو الذي لا قبح فيه وإنما كله حسن قال: { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } { كَمَا } الكاف تعود إلى ما مضى ومن ثم اختلف العلماء على نحو عشرين قولاً، هذه الكاف تعود إلى ماذا؟ ذكروا أقوالاً متعددة والذي يظهر لي من أن قوله تعالى: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } أي كما أن هؤلاء فيما يتعلق بالغنائم حصل من بعضهم وليس من الكل ، ومن ثم فإن قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ} لا يدل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على الدنيا وإنما حصل النزاع والخلاف باعتبار البعض، ثم إنها أول غنيمة في الإسلام فسألوا عن حكمها ، وهذا لا يدل على أن أحد من الصحابة كان حريصاً على المال ، ولذا قال هنا {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} أي كما أن بعضهم كره أن تكون القسمة بينهم بالسوية كذلك كره بعضهم أن يقابل الأعداء وأن يخرج من أجل مقابلة الأعداء {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} أو يقال على القول الآخر من أنه كما أن السابقين وُصفوا بهذه الصفات وهي صفات حق ، وثوابهم حق ، كذلك خروجك يا محمد من بيتك هو خروج بالحق ولو كره بعضهم، كذلك على القول الآخر كذلك قسمتك للغنائم بالسوية هي الحق ، كما أن خروجك هومن بيتك بالحق ، ولو كره البعض ، قال هنا {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} وهذا يدل على أنه ﷺ خرج من بيته لدلالة الآية {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} وقد مر معنا في سورة آل عمران في غزوة أحد { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ۗ} ولعل ذكر البيت والأهل في غزوة أحد يدل على أنه ﷺ ترك ما يتعلق بالدنيا والركون إليها إلى الجهاد في سبيل الله وهذا يكون أبلغ ويكون هذا أشرف وأعظم درجة وأعظم حسنات { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } أي بعض المؤمنين كره مقابلة الأعداء لأن الله عز وجل وعد نبيه ﷺ إما العير وإما النفير لأنهم سمعوا أن أبا سفيان على قافلة لقريش قال ﷺ ” أرايتم لوخرجنا الى هذه العير ” يعني إلى هذه القافلة فخرجوا ولم يكونوا على استعداد من أجل القتال ولذا لما نجت العير عن طريق الساحل هنا لم يبق إلا مقابلة الأعداء كما في الآية التي بعدها { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ } العير أو النفير فهنا لما نجت القافلة لم يبقى إلا مقابلة الأعداء فَكَرِهَ البعضُ باعتبار أنهم لم يكونوا على استعداد وليس الكل وإنما البعض { وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } أي بعدما اتضح من أن العير نجت وأن الله عز وجل أراد منكم مقابلة هؤلاء الأعداء { وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } ومع هذا كله لما جادلوه ﷺ اطمأنت قلوبهم وحاربوا معه ﷺ وسمعوا قوله. وقوله { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } هنا ذمٌ لمن يجادل على الحق بعد وضوحه قال هنا : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } ومن هنا يستفاد في مثل هذا الزمن من أن الإنسان متى ما أُعطي وعلم الحق فواجب عليه بعد وضوح الحق أن يقبله وألا يجادل فيه فإن جادل فيه فإنه يكون مذموما فقال هنا { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } لكن الصحابة رضي الله عنهم وهم قلة رجعوا إلى قوله ﷺ وإلى أمره ولم يتخلفوا عنه { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } إلى أسبابه، ومع ذلك كما سلف لما علموا بأنه هو الحق اطمأنت قلوبهم وحاربوا معه ﷺ، لكن وصف كأنهم يساقون إلى الموت باعتبار ما حصل منهم من جدال مع النبي ﷺ كما سلف مع البعض وليس الكل وهؤلاء البعض هم رضي الله عنهم حاربوا معه ﷺ { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ } وهي القافلة أو الحرب والنفير { أَنَّهَا لَكُمْ } أي واحدة منهما { وَتَوَدُّونَ } أي : تحبون { أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } والشوكة معروف الشوك الذي هو شجر له وخز يؤلم ابن آدم، أي تتمنون وتحبون القافلة على النفير لأن في النفير أي في الحرب كما هو معلوم فيه ما فيه من الآلام ومع ذلك ماذا قال الله عز وجل :{ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } قال غير ماهي؟ القافلة : { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ {
{ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ } أي يُظهر الحق بنُصرة رسوله ﷺ وأولياءه { بِكَلِمَاتِهِ } وكلماته عز وجل هي صدق في الإخبار وعدل في الأحكام من أنه كما قال عز وجل { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } ،{ وَيَقْطَعَ } أي : يهلك { دَابِرَ الْكَافِرِينَ } الدابر هو الآخِر بمعنى أنه يستأصلهم كما استأصل آخرهم يستأصل أولهم { لِيُحِقَّ الْحَقَّ } ليظهر الحق { وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } هذا يدل على أن الحق مهما علاه الباطل من حيث الظاهر ولو طال الزمن فإن الله عز وجل سيظهر الحق ولو كره المجرمون، ولو قال قائل لماذا تكررت هتان الآيتان؟ الأولى : { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ { أي : لكونكم أسباباً جعلكم الله عز وجل أسباباً في نصرة الحق وهنا بعدها قال { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } بمعنى أنه يقع، إذاً في الآية الأولى أنتم أسباب جعلكم الله أسباباً لنصرة الحق ثم بعد ذلك أنتم كأسباب الله عز وجل أحق الحق، ولذا في الآيات التي ستأتي معنا { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ } { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } أي : اذكروا { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ } أي وقت استغاثتكم بربكم { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } ومعلوم أن النبي ﷺ دعا الله عز وجل في غزوة بدر حتى سقط رداءه ﷺ من طول مناشدته لربه وهنا أتى بالجمع بمعنى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أيضاً يستغيثون ويدعون الله عز وجل، فإن قيل كما قال بعض العلماء من أنه كان يدعوا وهم يؤَمِّنون كان هذا هو مقتضى الجمع أو من أنهم رضي الله عنهم كانوا أيضا يستغيثون الله عز وجل كل شخص على حده إذاً قوله
تعالى { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } أتى بالفاء مما يدل على أن دعوتهم
واستغاثتهم أجيبت، والاستغاثة تختلف عن الدعاء ، الدعاء يكون في الشيء الذي يريد الإنسان أن يحصله سواء كان في كرب أو غير كرب لكن الاستغاثة المقصود منها الدعاء في إزالة الكرب ولاشك أنهم مع قلة عددهم في غزوة بدر وكثرة أعدائهم لاشك أنه كرب. قال هنا : { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ } أي متتابعين، ولو قال قائل في سورة آل عمران ذكر الله عز وجل من أنهم أكثر من ذلك فيقال في مثل هذا الأمر لا تعارض بينهما لأنه لما قال مردفين أي يتبع بعضهم بعضا لا يدل على حصر في الألف ولذا قال الله عز وجل وبينَّا ذلك بياناً مفصلاً في سورة آل عمران { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } وقال هنا { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } هذا المدد وما جعله الله إلا بشرى ومرّت معنا هذه الآية في سورة آل عمران { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } لكن هناك في سورة آل عمران بينَّا المعاني لكن هنا حصل اختلاف قال هنا { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ} ولم يقل لكم كما في سورة آل عمران لأن في سورة آل عمران فيها امتنان فيها منة من الله { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } فذكر كلمة لكم ثم إن فيما يتعلق بهذه السورة جعله الله إلا بُشْرَى لم تذكر لما لأنها ذكرت في الآية السابقة { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ } من ثم فإنه لما كان السياق هنا سياق عتاب حصل من أن كلمة لكم لم تكن مذكورة كما في سورة آل عمران فيها امتنان.
قال هنا { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ } لما حصل ما حصل من
المجادلة بعد تبيين الحق وما حصل من كُره بعض الصحابة لهذا الأمر في الآيات
السابقات ذكر هنا الضمير مع حرف الجر به من باب طمأنة هؤلاء فقال : { وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} هناك قال العزيز الحكيم هنا لما كان ماجرى من بعضهم من كره ما جرى في الآيات السابقات ومن كره ومن مقابلة الأعداء ومن المجادلة أكد هنا هذا الأمربقوله :{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } بخلاف الآية التي في سورة أل عمران { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَالشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ } اذكروا وقت أن غشاكم الله بالنعاس أي يغطيكم النعاس. النعاس مفعول به أي إذ يغشيكم الله النعاس والنعاس هو أول النوم { أَمَنَةً مِّنْهُ} يعني أماناً منه وهذا يدل على أن العبد متى ما كان في حالة خوف وذعر فإنه إن كان من أهل الإيمان فإن الله عز وجل يدخل عليه الأمن بهذا النوم ولذا كما جرى في غزوة بدر أيضاً جرى في غزوة أحد { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } يعني لم يحصل لهم نعاس لم؟ لأنهم لم يهتموا بأمر الدين ولذا عائشة رضي الله عنها في قصة حادثة الإفك لما تُركت في تلك الصحراء وحيدة ألقى الله عليها النوم هذا كله من باب الطمأنة لهذا الخائف فقال عز وجل : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } ليلة الحرب، ومعلوم أن الإنسان إذا كان في يوم غده أمرٌعظيم مهول فإنه لايكون مستقر في النوم لكن مع هذا هنا معجزة عظيمة مما يدل على توفيق الله عزوجل لهؤلاء الصحابة فألقى الله عليهم عز وجل النعاس وعلى من ليس على أفراد وإنما على الجميع { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } حتى تطمئن قلوبهم ويتقووا بهذه النومة الخفيفة على قتال الأعداء ولم يستغرقوا في النوم حتى لا يأتيهم عدوهم على حين غرة فتأمل كيف الإنسان إذا كان ينتظر غداً ما ينتظره من شيء مهول أومخوف ماذا يحصل له في ليلته؟ فإنه يتقلب على فراشه ظهراً لبطن لكن هنا سبحان الله ألقى عليهم النعاس فصار هذا النعاس أماناً من الخوف { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } أي : ليطهركم به من الأقذار الحسية لم؟ لأنهم لم يكن عندهم ماء ولذا تصيبهم الجنابة فالماء لما نزل طهَّر أبدانهم من الحدث الأصغر ومن الحدث الأكبر { لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} رجزالشيطان وسوسة الشيطان لأن الشيطان أتى إلى قلوبهم وقال لو كنتم مؤمنين حقا لما كان لدى عدوكم الماء وأنتم تصلون من غير ماء فأنزل الله عزوجل هذا الماء ليطهر أبدانهم الحسية الظاهرة ويطهر قلوبهم الباطنة { لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} من ثم فإن مقولة البعض من أنه يقول إذا نزل المطر فإنك تكون حال المطر ويذهب هذا المطر ما يتعلق بمس الجن أو ما شابه ذلك ، فإنه لا دليل عليه فلا يستدل بهذه الآية على ما ذكر لأن هذه الآية المقصود منها أن تذهب وسوسة الشيطان عنهم كما بيّنَا ذلك ولذا قال { وَيُذْهِبَ} { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَالشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ } وليربط على قلوبكم لأنه إذا كان الماء لديهم يكونون في حالة اطمئنان وراحة ، بخلاف لو لم يكن لديهم ماء وقال { وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ } وربط القلب عند المخاوف من أعظم النعم التي ينعم الله بها عز جل على العباد، لذا قال عز وجل عن حال أهل الكهف { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وقال تعالى عن ام موسى { إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } ومن ثَمَّ فإن من كان في حالة خوف وفزع فليسأل ربه ان يربط على قلبه { وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } أي يثبت بهذا المطر الأقدام لأنهم كانوا في مكان رملي والرمل إذا أتاه المطر فإنه يكون أحسن ما يكون من السير عليه، بينما اؤلئك -وهم الكفار- لم يكونوا في مكان رمل ولذا ساخت أقدامهم بعد نزول هذا المطر، انظر كيف أيَّد الله عز وجل أولياءه بهذه الآيات العظيمة، وبعض العلماء قال { وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } ليس راجعاً الى المطر وإنما إلى ربط القلوب لأن من رُبط على قلبه فإن أقدامه تثبت حال الخوف { وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } والأظهر من السياق من أن الحديث يتعلق بالمطر { إِذْ يُوحِى رَبُّكَ } مع تلك الدلائل والآيات التي بها إعانة من الله أعانهم الله عز وجل بالملائكة، ولذا الملائكة كما مر معنا في سورة آل عمران قاتلت مع الصحابة رضي الله عنهم { إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَآئِكَةِ أَنّىِ مَعَكُمْ } وهي معية النصرة والتأييد، ومر معنا تفصيل المعية عند قوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ } فالمعية هنا النصرة والتأييد فقال عز وجل هنا : { إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَآئِكَةِ أَنّىِ مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } وانظر حتى الملائكة هم بحاجة إلى معية الله بحاجة إلى نصر الله بحاجة إلى قوة الله عز وجل، قال هنا { إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَآئِكَةِ أَنّىِ مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } َفوجود الصحابة حتى أن بعضهم ليرى الرجل يريد أن يقتله فإذا به قد قُتل أمامه { فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } حتى ذكر بعضهم من أن الصحابة يأتيهم الرجل فيخفف عليهم من أن هؤلاء سينهزمون أوشيء من هذه العبارات، قال هنا { فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِى فىِ قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } والرعب إذا ألقي في القلب فإن الهزيمة تكون لصاحبه بخلاف من ربط على قلب { وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } فهنا مالذي جرى؟ قال عز وجل { سَأُلْقِى فىِ قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } وهو الخوف ولذا النبي ﷺ كما ثبت عنه في الصحيح قال: ” نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ” يعني من حين ما يخرج من المدينة وبينه وبين القوم مثلاً مسيرة شهر بالجمال أو بالخيول فإن الرعب يصل إلى قلوبهم قبل أن يصلهم ﷺ بشهر فهذا جند من جنود الله وسبب ألقاء الرعب في قلوب هؤلاء الكفار كما قال عز وجل { سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَالَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } بسبب الشرك وهذا يدل على أن الشرك سبب للخوف والتوحيد سبب للأمن ولذا قال تعالى { الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِطُلْمٍ أوْلئكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } بظلم أي بشرك فقال عز وجل : { سَأُلْقِى فىِ قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } فاضربوا فوق الأعناق قيل الرؤوس وقيل الرقاب والذي يظهر من أن المقصود من ذلك أن الرأس مع الرقبة يُجز وان كانت الرقبة هنا اظهر باعتبار ما ذكرعز وجل { فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الِّرقاب } وقال هنا { فَاضْرِبُواْ فَوقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } وهي مفاصل اليد قال { فَاضْرِبُواْ فَوقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } وذلك لأن الرقبة إذا انفصلت مات الإنسان وإذا جزت أصابعه فإنه لاطاقة له على القتال ولا على رمي ولا على حمل سيف ولا على غيره { ذَالِكَ } ما جرى من هذا الأمر بضرب رقابهم وبقطع أيديهم بسبب { شَآقُّواْ اللَّه وَرَسُولَهُ } أي هم شاقوا الله وحادوا الله وأعرضوا عن دين الله فاصبحوا في منأى عن دين الله وعن دين رسول الله ﷺ { وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } قال هنا شديد العقاب وكلمة شديد العقاب تدل على أن هـؤلاء لهم عذاب ينتظرهم { ذَالِكُمْ فَذُوقُوهُ } ذلكم أي التعذيب فذوقوه أي في الدنيا { وَأَنَّ لِلْكَافِرِنَ عَذَابَ النَّارِ} أي لهم عذاب أعظم وأشد في الآخرة.