التفسير المختصر الشامل تفسير سورة التوبة من الآية (16) إلى (27) الدرس (119)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة التوبة من الآية (16) إلى (27) الدرس (119)

مشاهدات: 668

تفسير سورة التوبة

من الآية (16) إلى الآية (27)

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري حفظه الله

قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ) هنا أم منقطعة بل أحسبتم كم مر معنا تتضمن الاستفهام الانكاري، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا). أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تؤمروا بالقتال لهؤلاء الكفار. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً). أي: بطانة لأن الوليجة من ولج الشيء. يعني إذا دخل فيه. يعني لا تتخذوا من هؤلاء الكفار بطانة تفشون إليهم الأسرار. اذاً (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا). أي أحسبتم أن تتركوا من غير قتال. لا هذا الحسب منتفي لابد أن تؤمروا بالقتال من أجل ماذا؟ من أجل أن يعلم الله. وهو عالم بكل شيء قبل أن يكون، لكن هنا علم يترتب عليه الجزاء والحساب. يعني حتى يظهر ماذا؟ حتى يظهر من جاهد في سبيل الله ابتغاء مرضات الله ممن ليس كذلك. حتى يظهر من؟ حتى يظهر من لم يتخذ هؤلاء الكفار بطانة يفشي إليهم الأسرار. إذاً هذه هي الحكمة من القتال. بل هي من الحكم والحكم كثيرة. كما مر معنا. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً). وهذا تحذير لاتخاذ الكفار بطانة وأولياء تفشى إليهم أسرار الإسلام.

ولذا ماذا قال عز وجل في سورة آل عمران ومر معنا ذلك، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)، فقال هنا وليجة، أي: بطانة (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، والله خبير بما تعملون ، الخبير هو العالم بالظواهر وببواطن ودقائق الأمور، لأن الوليجة وهي البطانة تكون في السر، تكون في الخفاء، فلعله والعلم عند الله ، أتى الاسم وهو اسم الله الخبير، من أجل هذا الأمر، (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ)، ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله، وإعمار مساجد الله، إعمارها حسيا ومعنوياً، الحسي: هو بناؤها، المعنوي: عمارتها بالعبادة، بالصلاة ونحو ذلك، والعمارة المعنوية أعظم من العمارة الحسية، ولذا المنافقون لما عمروا المسجد مسجد الضرار، بل كان وبالاً عليهم كما سيأتي في هذه السورة. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ)، دل هذا على أن المشركين ما كان لهم أن يعمروا مساجد الله ، لا عمارة حسية ولا عمارة معنوية ، ولو عمروها حسيا فإنها لا تفيدهم، (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ)، دل هذا على أن الذي يعمر المساجد عمارة حسية ومعنوية هم أهل الإيمان، (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ)، أي في أقوالهم إذا تكلموا ونطقوا فإنهم ينطقون بالكفر ، هم والعلم عند الله لا يقولون نحن كفار، لكن هم في كلامهم وفي ألفاظهم يطلقون على أنفسهم الكفر، ولذا يقولون نحن عبدة الأوثان ، ونحن عبدة الأصنام، إذاً هذا هو الكفر، وأيضاً (شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ) من حيث الحال، من رأى حالهم فإنه يدل على أنهم كفار، (شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ )، من حيث المقال، من حين اللسان، ومن حيث الحال، أي من حيث أعمالهم، (شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ) أي بطلت (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) أعمالهم التي عملوها في الدنيا من صلة أرحام أو من عمارة مساجد أو ما شابه ذلك ، تكون يوم القيامة في بطلان ، ولذا ماذا قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) (أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ)  أي خلودا أبديا لا يخرجون منها.

(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ)، هنا ذكر حقيقة من الذي يعمر مساجد الله عمارة حسية ومعنوية ابتغاء الأجر من الله وهم أهل الإيمان (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ )  قال هنا (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) فذكر هنا الصلاة، وذكر هنا الزكاة ومر معنا (أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) قال هنا (فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) عسى من الله واجبة، بمعنى أن من أتى بهذه الصفات فقد تحققت فيه صفات الهداية، فهو من المهتدين، ولذا قال ابن حجر رحمه والله : إذا أتت كلمة لعل من الله أو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنها تكون متحققة، قال هنا (فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)، لكن لماذا أتى بكلمة (عَسَى) ، أتى بها من أجل يقطع أطماع الكفار الذين إذا عمروا المساجد عمارة حسية من أنها تنفعهم، بمعنى أنه إذا كان أهل الإيمان ، إذا كان أهل الإيمان، أتى هذا السياق على باب الرجاء فكيف يكون حالكم أنتم يا من كفرتم بالله، وأيضاً فيه ماذا؟ فيه عدم اتكال أهل الإيمان على أعمالهم، (فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)، (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) هنا لما حصل ما حصل من اختلاف بين بعض المسلمين بعضهم مع بعض، أو كذلك من أهل الإيمان مع بعض أهل الكفر، فقال بعضهم سقاية الحجيج، والقيام على الحجيج وعلى خدمتهم، يكون أعظم أجراً، ولذا كان العباس، كما قيل، مما ذكر في هذه الآية من أنه كان يقوم على خدمة الحجيج قبل الإسلام وبعد الإسلام، (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي عمارة حسية (كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ) الجواب : (لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ)، لا يستوون عند الله، فأهل الكفر إذا قاموا بهذه الأشياء، ليسوا مستوين عند الله، عز وجل مع أهل الإيمان، أيضاً أهل الإيمان الذين قاموا بسقاية الحجاج وعمارة المسجد الحرام، وترك الجهاد في سبيل الله، لا يستوي مع من ليس كذلك. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وأعظم الظلم هو الكفر بالله عز وجل، فإن من كفر فإنه ظالم، فكيف تكون له مرتبة عند الله عز وجل ولعلها أتت هنا فيما يتعلق بصنف الكفار، لأنه لما قال، لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ)، لا يُظن أن هناك شيء للكفار، لكنهم أقل من أهل الإيمان، لا، لأنه ليست هنا على باب (لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ) في ظنهم، لا يستوون عند الله في ظنهم، ولذا ماذا قال بعدها (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فمن كفر فليس من ماذا؟ ليس من المهتدين، وهذا يربطنا بالآية (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ)، ماذا قال (فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)، لما أتى إلى صنف الكفار قال (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، (الَّذِينَ آمَنُوا) هذا استئناف إلى آية جديدة لا تتعلق في الآية التي قبلها، لأن الذين آمنوا ليسوا ظلمة ، (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ) ممن آمن واكتفى بسقاية الحجاج وعمارة المسجد الحرام دل هذا ماذا؟ على أن عمارة المساجد معنوية أفضل من عمارتها حسية، فإن اجتمع الأمران بإيمان وبجهاد وبتقى، فهذا نور على نور، (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) الذين فازوا بالمطلوب ونجوا من المكروب، يبشرهم ربهم برحمة منه ، برحمة من ، يبشرهم عز وجل برحمة منه ورضوان، وفي هذا إثبات صفة الرضا الله عز وجل فيما يليق بجلاله وعظمته(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ)، أي نعيم مستمر دائم، (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ)، قال هنا (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ) ذكر رضوان من بين هذه الصفات، لم؟ لأنه كما قال عز وجل، كما مر معنا في سورة آل عمران قال عز وجل (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ)، ولذا في نفس هذه السورة ، ماذا قال تعالى: (ورضوان من الله أكبر)، ورضوان من الله أكبر، ولذا ثبت قوله صلى الله عليه وآله وسلم من أن الله عز وجل ينادي أهل الجنة هل تريدين شيئا فيقولون أعطيتنا ونجيتنا من النار، فيقول الله عز وجل ( أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا) (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ) هذه واحدة (وَرِضْوَانٍ) ثانية، (وَجَنَّاتٍ) ثالثة، إذاً ماذا قال عز وجل في الآية التي قبلها (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ)، ذكر لهم ثلاث صفات ، وهنا ذكر لهم الثواب، (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ) ثلاث، (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ)، ثم (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ) أي: لا يتحولون عنها (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، فالله عز وجل عنده الأجر العظيم، فليطلب هذا الأجر من الله عز وجل باتباع شرعه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، لما ذكر عز وجل في الآيات السابقات ما يتعلق بتحريم اتخاذ الكفار وليجة وبطانة نادى أهل الإيمان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ) يعني حتى لو كان أقرب قريب، فلا يجوز أن يحب المسلم الكافر ولو كان أقرب قريب، فما هناك أقرب من ماذا؟ من الأب والأخ، لكن لماذا لم يذكر الابن ، لأن الابن في الغالب يكون تابعاً للآباء، يكون تابعا للآباء، قال هنا (إِنِ اسْتَحَبُّوا) أي أحبوا واختاروا ، (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ) فلا يجوز لكم أن تحبوهم، لكن البر والإحسان فيهم، لا إشكال في ذلك، قال تعالى لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ)، ولذا أسماء رضي الله عنها، لما أتت أمها فقالت يا رسول الله إن أمي وهي راغبة وكانت مشركة، يعني راغبة في أن أصلها، قال صلى الله عليه وآله وسلم صلي أمك، فالبر يختلف عن المحبة، حتى لو كان أقرب قريب وكان كافراً، فلا يجوز للمسلم أن يحبه، قال (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، أي ظلموا أنفسهم، ومر معنا ما يتعلق باتخاذ الكفار أولياء، عند قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ) وفصلنا في تلك المسألة تفصيلاً شافيا، قال هنا (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، قل يا محمد لهؤلاء (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ)، آباؤكم الذين أنتم منهم ، (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ) الذين هم بضعة كما قال صلى الله عليه وآله وسلم عن فاطمة، هي بضعة مني، جزء مني، يعني حتى لو كانوا أقرب الناس إليك، (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ) من حيث القرب قرب الإخوان من جهة الأم والأب وإخوانكم (وَأَزْوَاجُكُمْ)  حتى لو كان هذا القرب من حيث الزوجة التي جعلها الله سكنا، وأزواجكم وعشيرتكم، أي قرابتكم، وهي القريبة منكم، ولو كانت بعيدة، (وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا) أي اكتسبتموها (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا) أي الخسارة أو نقص الربح، (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا) ترضون من حيث البقاء فيها لحسنها وزينتها، (مَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا)، وهذا الأمر للتهديد (فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ)، قال هنا (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ) دل هذا على ماذا؟ على أنه إذا كان الله عز وجل والرسول أحب في القلب من ما ذُكر فلا بأس، أي يتنعم الإنسان بما ذكر، لا حرج في ذلك، لكن أن تقدم هذه الأشياء، على محبة الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى محب الله، فهذا هو الوعيد الشديد ، (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، دل هذا على أن تقديم هذه الأشياء ومحبة هؤلاء الكفار، وتقديم محبة هذه الأشياء على محب الله هو فسق، (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) وهذا من باب ماذا؟ من باب تذكيرهم بنعمة الله عز وجل، إذ نصرهم في مواطن متعددة منها في غزوه بدر كما مر في سورة الأنفال (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ) أي ونصركم يوم حُنين، وحنين واد بين مكة والطائف، والنبي ﷺ لما أتى من المدينة ومعه عشرة آلاف في غزوة الفتح، ففتح مكة وأسلم من أهل مكة ألفان أصبح العدد اثني عشر ألف، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم بأن هوازن تستعد لقتاله، فخرج ﷺ، مع هؤلاء وكان عددهم اثني عشر ألف، فقالوا لن نغلب اليوم عن قلة، فكانت هوازن، لما كان الصحابة مع النبي ﷺ كانوا قد اختبؤوا، فلما سار الصحابة مع النبيﷺ، هوازن رمتهم بالنبل، وأحدثت فيهم ما أحدثت ففر من فر من الصحابة رضي الله عنهم، وبقي النبيﷺ، وبعض الصحابة معهﷺ ، ثم قال ﷺ للعباس وكان صوته عالياً، قال نادي في الناس، نادي في أصحاب بيعة الرضوان، فلما ناداهم اجتمعوا مرة أخرى، فلما اجتمعوا نادى النبي ﷺ، يذكر هؤلاء، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، واجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فكانت الغلبة للصحابة بعدما رجعوا فقال عز وجل (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ) أي ونصركم يوم حنين (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) اذكروا وقت إعجابكم واستحسانكم للكفرة (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا) لأن النصر ما هو كثرة الأعداد ، ولذا ماذا قال عز وجل (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ)، وقال عز وجل (وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ)، وقال هنا وهذا يدل على رحمة الله عز وجل بالصحابة رضي الله عنهم ، لما قالوا هذا القول تاب الله عليهم (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا)،  أي شيء لم تغنكم ولم تفدكم أي شيء ، (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي برحبها وسعتها مع أن الأرض واسعة، لما جرى ما جرى من هوازن لما رموكم بالسهام ضاقت عليكم الأرض بما رحبت مع سعتها، وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن النفوس والمساكن والأوطان والدور، لا يمكن أن تكون واسعة للإنسان إلا إذا كان مطيعاً لله عز وجل ومتبعا لشرع الله، أما من كان معرضاً، فإنه لو كان في القصور وكان في الحدائق وكان في الجنان، وما شابه ذلك، فإنها تضيق به ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) فقال عز وجل هنا (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)، ولذا الثلاثة الذين خلفوا ماذا قال تعالى في نفس السورة في آخرة ، (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)، (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)، أي معرضين، ما تدرون إلى أين تذهبون، إلى أي جهة ، إذا (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ  ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ) لما السكينة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه أصابه الحزن لما فر من فر من الصحابة رضي الله عنهم، (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، على المؤمنين الذين ثبتوا معه (وأنزل سكينته على الذين ولوا مدبرين) ، فعادوا مرة أخرى إلى القتال، إذاً كل ذلك بتدبير من الله عز وجل، فقال هنا (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا)، أنزل الله الملائكة الذين لم يروهم لم يقاتلوا معهم، وإنما من أجل تثبيتهم ومن أجل إعانتهم من أجل أن وجود هؤلاء فيه تثبيت لهؤلاء الصحابة. (وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ)، هؤلاء الذين كفروا عذبهم الله عز وجل (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)، لم يقل وذلك جزاؤهم، أي كافر هذا جزاؤه، (وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)، (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ)، هذا عام يتوب الله عز وجل من بعد ذلك على من يشاء، ويدخل فيه أن بعض هوازن بعد هذه المعركة، تاب الله عليهم فدخلوا في الدين (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)  (غَفُورٌ رَّحِيمٌ) لمن تاب ورجع إليه (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ).