التفسير المختصر الشامل تفسير سورة التوبة من الآية (103) إلى (112) الدرس (125)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة التوبة من الآية (103) إلى (112) الدرس (125)

مشاهدات: 577

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة التوبة

من آية 103 إلى آية 112

(الدرس 125)

للشيخ زيد البحري –  حفظه الله –

 

قال تعالى :

  • {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: هذا أمر للنبي ﷺ بأن يأخذ الزكاة من الأموال. {مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: ولم يقل منهم فدلّ هذا على أن الزكاة واجبة في المال ولها تعلق بالذمة، بمعنى أن قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: كما جاء في الحديث: “فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم” كما ثبت عنه ﷺ بمعنى أن قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: دل هذا على أن الزكاة متعلقة بالمال، فلو أن انسانًا مثلا ترك الزكاة تهاونا وكسلا ولم يكن قلبه منشرحا بإخراجها فإنها تخرج منه وتؤخذ منه قهرًا ولا يُنظر إلى نيته، لمَ؟ لأن الزكاة واجبة في المال ولها تعلق أيضا بالذمة.

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}: يعني: كما قال بعض العلماء: هذه الصدقة تطهرهم وتزكيهم بها، أو كما قيل: إذا أخذت هذه الصدقة فإن أخذك لها منهم سبب للتطهير والزكاة، المهم هذه الزكاة بها طهر وبها زكاة للمتصدق. {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}: سبحان الله! لما قال: {تُطَهِّرُهُمْ}: تطهرهم من ماذا؟ من الرذائل من البخل والشح وما شابه ذلك، ولم يقتصر على ذلك، قال: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}: فالتزكية أن يزداد الايمان وأن يعظُمَ حب الله عز وجل في قلوبهم، إذًا في الصدقة في الزكاة زوال المكروه من الرذائل من بخل ونحو ذلك، وحصول المطلوب من الإيمان ومن تعظيم الله ومن حب الله عز وجل. {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: يعني ادعُ لهم يا محمد، الصلاة هنا بمعنى: الدعاء، ولذلك قال ﷺ: “اللهم صلِّ على آل أبي أوفى” لما أتوا بالزكاة. {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: لمَ؟ {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}: فيها سكَن وفيها راحة؛ لأنك إذا دعوت لهم هنا اطمأنت نفوسهم وعلموا أنهم قاموا بالواجب الذي أوجبه الله عز وجل وكان ذلك دليلا على رضى الله وعلى رضى رسول الله ﷺ عنهم. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}: فالله عز وجل سميع لما يقوله الناس وعليم بأحوالهم، ولذا لو تأملنا ما مر معنا في الآيات السابقات: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} ماذا بعدها؟ {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: لما قاله أولئك. لكن هؤلاء ماذا قالوا؟ قالوا الخير، وعلموا أنه هذه إنما هي طهر وزكاة لهم فالله عَلِمَ بحالهم فوفّقهم.

 

  • {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}: فهو يقبل التوبة عن عباده متى ما تاب العبد، ولذا ماذا قال تعالى؟: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوامِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَيَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، فقال هنا: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}: هو يأخذها ولذا ثبت في الحديث الصحيح الله عز وجل يأخذ صدقة العبد بيمينه فيربّيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تكون مثل الجبل. كلمة: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}: بها اطمئنان وراحة لمن تصدّق، كما أن الصدقة بها صلاة من النبي ﷺ ودعاء لهم أيضًا الله عز وجل يقبلها. {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}: فهو التواب عز وجل الذي يوفق عبده للتوبة ويقبلها عز وجل منه، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ولذا تجدون أن كلمة: (التواب) موجودة بكثرة في هذه السورة؛ لأنه السورة هنا هي سورة التوبة، فتاب الله عز وجل على عباده المتقين وعلى من أذنب فرجع إلى الله عز وجل.

 

  • {وَقُلِ اعْمَلُوا}: قل يا محمد لهؤلاء: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}: هنا أيضا سيرى المؤمنون حقيقة أحوالكم في هذه الدنيا، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ}: وستردون: (السين): للاستقبال، وهناك قال: {ثُمّ تُرَدُّونَ}، و(ثم) أيضا تفيد الترتيب الزمني، {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}: بمعنى أنكم تبقون في هذه الدنيا قدر ما قدّره الله عز وجل لكم من أعماركم ثم المردّ إلى الله عز وجل. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}: ومر تفسيرها.

وقال هنا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}: وبعض المفسرين قال: إن هذه الرؤية من أهل الايمان لهؤلاء من أنهم سيرون حقيقة ما عمله هؤلاء من الأعمال الباطلة إذا جازاهم الله عز وجل يوم القيامة، هذا وإن كان داخلاً في ذلك، وابن كثير كأنه يميل إلى ذلك إلا أن ما ذكرناه –كما ذكره بعض المفسرين- يكون هو الأظهر مع عدم رد كلام ابن كثير رحمه الله، لمَ؟ لأنه قال عز وجل: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، فدل هذا على أن قوله وستردون يكون في يوم القيامة، وما سبق في الدنيا والله أعلم. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}: فبعض الناس قد يكتب هذه الآية على محل له وهذا خطأ عظيم؛ لأن هذه الآية ليست مقصودة فيما يتعلق بهذه التجارة الدنيوية، ثم إن النبي ﷺ قد مات! وكذلك أهل الإيمان لم يعلم هؤلاء كلهم بحقيقة –بل حتى من في بلدته- لا يعلم بحقيقة هذا المحل، فيجب ترك كتابة هذه الآية عند المحلات أو عند أي بناية تُبنى أو ما شابه ذلك.

 

  • {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ}: أي أُرجئوا وأُخِّروا فلم يحكم في شأنهم، وهم مَن؟ كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، فإنه لما أتى النبي ﷺ فاعتذر له من اعتذر أما هؤلاء قال كعب بن مالك: والله يا رسول الله لو وقفت عند أعظم ملك من ملوك الدنيا لعرفت أني أخرج منه بعذر، يا رسول الله والله ما كان لي من عذر، فتبعه في ذلك هلال بن أمية ومرارة بن الربيع فقال ﷺ: “أما هذا فقد صدق” فترك أمره إلى الله حتى يحكم الله في أمره وفي أمر صاحبيه. فقال هنا: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ}: بمعنى أنه عز وجل يُمِيتُهم فلا يقبل توبتهم ومن ثم يكون التعذيب لهم. إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}: فهو عليم بكل شيء، وعليم بحال هؤلاء الذين صدقوا، ولذلك من حكمته عز وجل أنه تاب عليهم فهو التواب الرحيم، كما قال عز وجل: {وَعَلَىالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}: كما سيأتي معنا. فقال هنا: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}.

 

  • {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا}: هنا طائفة من المنافقين اتفقوا مع أبي عامر الراهب، أبو عامر الراهب من الخزرج وكان له تعبد وكان يأمل أن يكون له شأن من حيث الدين، فلما أتى النبي ﷺ نكص عن هذا الدين، وحارب النبيَّ ﷺ فكان اتفق مع كفار قريش في غزوة أحد على حرب النبي ﷺ فلما جرى ما جرى ذهب إلى الروم وقال لمن في المدينة من المنافقين: ابنوا مسجدا وإني سأذهب إلى ملك الروم حتى أستعين به على قتال محمد. فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا}: هم بنوا مسجدا مقابل مسجد قباء، وقالوا: يا رسول الله –قبل أن يذهب إلى تبوك- بنينا هذا المسجد من أجل الضعفاء ومن أجل مرضى ومن أجل الأيام الشاتية فلو صليت فيه، فالنبي ﷺ كان مشغولا بغزوة تبوك فلم يصلِّ فيه ﷺ ونوى أن يصلي فيه إذا رجع، لكن الله عز وجل أخبره فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا}: يعني قبل أن يقدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أخبره بحقيقة هذا المسجد وأرسل ﷺ من يهدمه، ولذا أخذ العلماء من أن المسجد إذا بُني بجوار مسجد آخر للضرار وليس هناك فائدة ومصلحة من باب عذر في ضيق في المسجد الآخر فإنه من الضرار فيهدم هذه المسجد؛ لأنه ما بُني على رضى الله وعلى تقوى من الله، إذًا أيّ مسجد بُني من أجل الإضرار فإنه يُهدم ولذا لو بُنيت مساجد لأهل البدع وما شابه ذلك ممن يبث سمومه وأفكاره الخبيثة فإن وليّ أمر المسلمين عليه أن يهدم هذه المساجد الخبيثة التي تنشر الشر، فالحكم منوط بوليّ أمر المسلمين حتى لا تحصل الفوضى ولا يحصل الفساد فقال تعالى هنا: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا}: أرادوا الإضرار ما أرادوا الخير. {وَكُفْرًا}: أي ما أرادوا بهذا إلا أن ينشروا الكفر باتفاقهم مع أبي عامر الراهب. {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}: بحيث يصلي بعض المسلمين في قباء ويصلي

البعض في مسجدهم. {إِرْصَادًا}: أي انتظارا. {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ}: وهو أبو عامر الراهب، ينتظرون أبا عامر الراهب. {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}: إذ أن أبا عامر حارب الله ورسوله من قبل في غزوة أحد وما بعد ذلك. {وَلَيَحْلِفُنَّ}: هذا هو شأن المنافقين أنهم إذا كُشف لهم أمر يحلفون، ولذا حتى من خبثهم في يوم القيامة يحلفون أمام الله كما قال عز وجل في سورة المجادلة: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ}: يظنون أن الله عز وجل سيخفى عليه هذا الأمر وهذا يدل على جهلهم وعلى قصورهم وقصور أفهامهم، فقال هنا: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى}: أيضا هم يحلفون، لا يحلفون من أجل أن يعتذروا فقط بل إنما أرادوا بذلك الحسنى أي: الخَصلة الحسنة، ولذا كما مر معنا في سورة النساء لما قال ذلك المنافق لذلك اليهودي تعال بنا نتحاكم إلى غير محمد ماذا قال عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}، {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}: الله يشهد إنهم لكاذبون، وأيضا كما مر في هذه السورة: {واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}: فالله عالم بأنهم كذَبَة، وأيضا شهد بأنهم كذبة: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}.

 

  • {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}: أي: يا محمد لا تقم ولا تصلي في هذا المسجد الذي بناه المنافقون أبدا، بمعنى أنه ليس محلا للعبادة أبدا؛ لأنه ما بُني على تقوى الله. {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ}: هنا (اللام): ابتدائية أو للقسم، أي: والله. {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ}: أي بُني، {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}: من أول يوم أسس، أُسس على التقوى، {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}: أي: أحق أن تقوم فيه من هذا المسجد، وليس معنى ذلك أن ذلك المسجد -مسجد الضرار- له أحقية، لا، وإنما هذا من باب أن (أفعل) التفضيل ليست على بابها، أي: حقيقٌ على ألا تقوم إلا في هذا المسجد، {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ}: لما ذكر بناية مسجد قباء وأنه على التقوى، ذكر أن من يتعبد به أيضا هم أصحاب خير ليسوا أصحاب نفاق، {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}: يتطهروا من النجاسات الحسية والمعنوية، وجاء في هذا سبب نزول وهو كما في السنن من أن النبي ﷺ لما سألهم لماذا أثنى الله عليكم؟ فقالوا: كنا نستنجي بالماء. أما ما ورد كنا نستجمر بالحجارة وبالماء فإنه حديث ضعيف، إنما الوارد: كنا نستنجي بالماء. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}: فالله عز وجل يحب المطهرين من الذنوب ومن الأقذار، فهو يحب المتطهرين من الأنجاس الحسية والأنجاس المعنوية، ولذا لما ذكر عز وجل في هذه الآية أهل النفاق قال: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْإِنَّهُمْ رِجْسٌ}، ولما ذكر المشركين قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}: إذًا هو يحب، وفي هذا إثبات صفة المحبة لله عز وجل بما يليق بجلاله وبعظمته هو يحب المطهرين.

 

  • {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ}: أفمن أسّسَ أي: بنى، {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ}: أي: التقوى هنا: اتقاء ما يغضب الله، رضوان: أي ما يحبه الله، بمعنى أنه بين الخوف والرجاء. {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ}: أي على خوف من الله. {وَرِضْوَانٍ}: أي من أجل أن يحصل على رضوان الله وعلى رحمة الله فهو بين الخوف والرجاء، {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا}: وكلمة خير هنا ليست على بابها من باب أفعل التفضيل؛ لأن ذلك المسجد –مسجد الضرار- لا خير فيه! فقال عز وجل هنا: {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا}: أي: على طرف وحافة، {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}: على شفا جدارٍ هارٍ: أي: متصدع، على شفا جرف (حافة) جدار متصدع آيل للسقوط، {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}: حال هؤلاء لما بنوا مسجد الضرار كحال من؟ كحال إنسان بنى بنيانا على حافة هاوية وهذا البنيان متهالك مآله إلى السقوط كذلك ما فعله هؤلاء من هذا الباطل يُسقط بهم في نار جهنم. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}: بسبب ما فعلوه من الذنوب والنفاق وما شابه ذلك هؤلاء المنافقون.

 

  • {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}: أي: يكون شكًّا، هذا البنيان لمسجد الضرار لا يزال ريبة في قلوبهم، الشك الذي يعتادهم وإذا بهم في شك حتى لا يفضح الله أمرهم وحتى لا يستبين ما يستبين للمؤمنين فيخشون على أنفسهم، المهم أنهم في ريب وفي شك وفي طغيان ونفاق. {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}: سيستمر هذا الشك إلى أن تتقطع قلوبهم إذا خرجت قلوبهم من أبدانهم بالموت، فدل هذا على أن الريب والشك باقٍ في قلوبهم بسبب هذا العمل الخبيث، فسبحان الله! ولذا ماذا قال قبلها: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}: لأنهم ظلموا أنفسهم ولذا تأمل معنا ما جاء في هذه السورة، قال عز وجل في شأن من عاهده وبخل: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًافِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}: فهو عليم بأحوالهم وحكيم ع زوج إذ جعل ما جعله هؤلاء من بنيان المسجد لحكمة يراها، وأيضا هذا الشك الذي بقي في قلوبهم إلى أن يموتوا ميتة سوء هذا من حكمته عز وجل ومن عدله، {وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُوَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

 

  • {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}: الله عز وجل –وهذه مزية لمن جاهد في سبيل الله- {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}: قدم الأنفس هنا بينما في الآيات السابقات قدم الأموال؛ لأنه كما قلنا الجهاد يحتاج إلى اعداد قوة وذلك بالمال لكن هنا ذكر الأنفس لمَ؟ لأن الأنفس إذا قُورنت بالمال عند صابحها يقدم نفسه، يقدم محبة نفسه على محبة ماله، فقال هنا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}: بمعنى أنهم (اللام) هنا للاستحقاق، أي: استحقوا الجنة، {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: أي: لإعلاء كلمة الله، {فَيَقْتُلُونَ}: أي: الكفار، {وَيُقْتَلُونَ}: أي يُقتل بعضهم، {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}: أي هذا الذي ذكره عز وجل من أن لهم الجنة، من أنه وعد حق وثابت أوجبه عز وجل على نفسه تفضلا منه عز وجل، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}: وكُتب هذا الوعد في أشرف الكتب وهي التوراة والانجيل والقرآن، قال: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}: ومن هنا قال بعض العلماء إن المؤمنين المذكورين هنا في الآية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: هم أمة محمد ﷺ وقيل: لكل مؤمن حتى من الأمم السابقة، ولا شك أن الأظهر أن الآية عامة تشمل من آمن حتى فيمن سبق؛ لأنه ذكر التوراة والانجيل، فقال هنا: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى}: استفهام، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}: الجواب: لا أحد أوفى بعهده من الله خلافا للمخلوق، ولا سيما إذا كان المخلوق منافقا كما قال تعالى: {وَمِنْهُممَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَامِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}. {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}: لتفرحوا بهذا البيع فإنه وعد من الله وهو حق من الله عز وجل، {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}: هذا هو الفوز العظيم والحقيقي الذي يناله هؤلاء لأنهم قدموا أنفسهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله عز وجل.

 

  • {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ}: قال بعض العلماء: هذه تابعة لما سبق، بمعنى أن صفات من اشترى الله عز وجل منهم الأنفس والأموال وجاهدوا في سبيل الله هذه هي صفاتهم، وبعض العلماء قال: ليست مرتبطة بما سبق وإنما هذا صنف أهل الإيمان من غير الآية السابقة، ومن قرأ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}: كأن بها إشارة إلى أن هذه الصفات تعود إلى من سبق، لما ذكر صفات هؤلاء ذكر أن المؤمنين لن يُعدموا خيرا فقال: {{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}: وقد يقول قائل: هي لأهل الايمان من غير الآية السابقة ثم عمم بالبشرى للمؤمنين، وعلى كل حال سواء تابعة للآية السابقة أولا فمن أتى بهذه الصفات فهو على خير عظيم.

{التَّائِبُونَ}: أي من الذنوب، {الْعَابِدُونَ}: أي من عبد الله عز وجل، {الْحَامِدُونَ}: من حمد الله عز وجل في السراء وفي الضراء، ولذا النبي ﷺ كما ثبت عنه إذا أتاه ما يسره قال: “الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات”، وإذا أتى ما يسوؤه قال: “الحمد لله على كل حال”.

{الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ}: السائحون: الصحيح أنها كلمة شاملة لكل من ساح وسار في طلب رضوان الله عز وجل، فيدخل في ذلك قول من يقول طلب العلم، ومن قال الصيام، ويدخل في ذلك قول من يقول الجهاد في سبيل الله.

{الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}: ذكر الراكعين وذكر الساجدين من باب أنهما ركنان من أركان الصلاة، فدل هذا على فضيلة الصلاة، {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: وأتى بالواو بعد {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}: لأن كلا منهما يشمل الآخر، ولما قال: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: ماذا قال؟ {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}: أي من حفظ حدود الله عز وجل، قال بعدها: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}: بشرى للمؤمنين بالخير من الله عز وجل، لكن هل هناك ترابط بين هذه الصفات المذكورة؟ لم أرَ أحدا تحدث عنها فيما أعرف وفيما أعلم، والذي يظهر لي بعد التأمل ويمكن أن يكون أحد سبقني إلى ذلك من أن قوله: {التَّائِبُونَ}: لأن السورة هنا تتحدث عن التوبة، ففيها حث على التوبة، التائبون لما تابوا حصلت منهم العبادة المستمرة: {الْعَابِدُونَ}: بعد ذلك {الْحَامِدُونَ}: لأن الانسان في هذه الدنيا ما بين رخاء وما بين ضراء فهو عليه عند الضراء أن يصبر، وعند السراء يشكر، ولذا النبي ﷺ قال كما في صحيح مسلم: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له”. قال هنا: {الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ}: أي أنهم مع ذلك يبحثون عما يزيد ايمانهم من الأعمال من طلب العلم ومن الصيام وما شابه ذلك حتى مما لم يجب عليهم ولو كان نافلة، {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}: لمَ؟ لأن هذا يتضمن ذكر الصلاة؛ لأن الصلاة هي أعظم الأركان بعد الشهادتين، وقال الراكعون لأن في الركوع تعظيما لله وفي السجود كما قال ﷺ: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد” قال: “وأما الركوع فعظموا فيه الرب” كما ثبت في صحيح مسلم. {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: بمعنى أنهم لما حصلوا بفضل من الله على هذه الصفات الطيبة ووفقوا للأعمال الصالحة أرادوا أن يبذلوا الخير لإخوانهم وللناس بالأمر بالمعروف وأيضا أنهم ينهونهم عما يغضب الله وهو في النهي عن المنكر ولذا مر معنا في هذه السورة في صفات أهل الإيمان: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}: وفيه أيضا مناقضة ومخالفة لشأن المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} فقال هنا: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: ما الذي بعدها؟ أتى (بالواو): {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}: لأن من حفظ حدود الله قد أتى بالصفات السابقة كلها، فمن حفظ حدود الله هذه شاملة لكل ما سبق من تلك الصفات، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}: فهم حفظوا حدود الله بفعل أوامره وباجتناب نواهيه.