بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة إبراهيم من آية 35 إلى آخر السورة
الدرس ( 147 )
الشيخ زيد البحري- حفظه الله –
قال تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ (35).
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا) هنا ذكر إبراهيم عليه السلام حتى يُذكِّر كفار قريش أنهم يقولون نحن نحبُّ إبراهيم ونتبعُ إبراهيم، فيُقال لهم: هذه ملةُ إبراهيم وهذه طريقةُ إبراهيم ولذا امر اللهُ عز وجل محمداً ﷺ أن يتبعَ ملةَ إبراهيم (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) فقال هنا:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا) ومر معنا تفسيرُ ذلك في سورة البقرة وبيّنا وجه الاختلاف بين تعريفِ البلد هنا والتنكير هناك في البقرة فقال هنا: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) قال: (وَاجْنُبْنِي) أي: اجعلني في جانب وهي في جانب مما يدل على الُمباعدة (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) سبحان الله!
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا) قدَّم الأمن على التوحيد لمَ؟
لأن الأمن لا حياة للناس إلا به لا مصالح دينية ولا دنيوية إلا بالأمن فإذا اختل الأمن ضاعت شرائعُ الدين وضاعت مصالحُ الناس وضاعت المصالح الدينية والدنيوية.
ولذا قال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا) وتأمل في تلك البلاد التي لم تأمن على نفسها ولا على حالها ماذا جرى فيما يتعلقُ بمصالح الدين أو بمصالحها الدنيوية سبحان الله! قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) وهل استجاب اللهُ عز وجل دعاءَه؟ فهنا جمع فقال{بنيّ}
إذن إبراهيم عليه السلام ما كان من المشركين أبدا ولذلك فإن الله عز وجل قال: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ) فهناك من أبناء إبراهيم عليه السلام يعني من سُلالته من استجيبت دعوة إبراهيم فيه لأنه قال هنا: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ)
﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(36).
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ) يعني الأصنام أضللن مع أنهنّ جمادات لكن بما أنها سبب نسَب الإضلال إليها (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) وذلك بسبب ماذا؟
بسبب الشيطان (ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) فقال هنا: (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) إذاً فيه الإنكار على كفار قريش لأنهم لم يؤمنوا برسالة محمدٍ ﷺ التي هي ملةُ إبراهيم ومِن ثَمَّ فإنهم ليسوا أتباعَهُ كما زعموا فقال هنا: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) قال بعضُ العلماء: كيف يقول ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ؟
قال بعضهم: إنه قال هذا القول قبل أن يُخبرَهُ الله عز وجل بأنَّ الله لا يغفر للمشرك، وقال بعض العلماء: المقصود من المعصية هنا المعصية التي دون الشرك.
والذي يظهر لي: من أنَّ هذا يكونُ شبيهاً بما قاله عيسى عليه السلام لأنه كما مر معنا (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) دل هذا على ماذا؟ دل على أن الأمر كله بمشيئة الله وبإرادة الله عز وجل ولا راد لقضائه، لكنه عز وجل حكَم على أن من أشرك وعصى العصيان الأكبر من أنه لا يُغفر له ففي هذا تفويض الأمرِ لله عز وجل فيما يشاؤه ومما شاءهُ عز وجل من أن الكافر لا يَغفر الله له فقال هنا: (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون﴾(37)
(رَّبَّنَا) وتأمل هنا ذَكَر كلمة الرب في أكثر من مرة مما يدل على التضرع العظيم من إبراهيم عليه السلام يتضرعُ لربه عز وجل.
(رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ: دل هذا على أنه لا شجرَ فيه، وإذا كان لا شجرَ فيه لا ماءَ فيه، ولذلك أخذَ هاجر مع ابنها إسماعيل إلى ذلكم المكان فلما وضعهما قالت هاجر لمَا ولَى إبراهيم ذاهباً قالت: كيف تتركنا في هذا الوادي؟ فقالت له آللهُ أمرك بذلك؟ فقال عليه السلام: نعم، قالت: إذاً لا يُضيعنا الله، سبحان الله! ما أعظم التوحيد ومع ذلك لما جرى ما جرى من أنها كانت تسقي ابنها اللبن فلما نفِذَ ما في ثدييها فإذا بها تبحثُ عن الماء، فمعلومٌ القصة:
ذهبت إلى الصفا وارتفعت عليه ثم أتت بطن الوادي فأسرعت ثم أتت إلى المروة سبعَ مرات حتى أتى جبريلُ عليه السلام وضربَ بجناحه الأرض فأنبع اللهُ عز وجل ماءَ زمزم.
دل هذا على ماذا؟ على أنَّ المُوَحِّدَ متى ما ضاقت به الأمور فإنَّ الفرجَ سيأتيه، انظر!
في وادٍ غير ذي زرع لا أنيسَ لا ماءَ لا شجر، ومع ذلك لما قالت له: آللهُ أمرك بذلك؟ قال: نعم قالت: (فاللهُ لا يُضَيعنا)، فكيف يَحزَنُ المُوَحِّدُ وكيف يَهلَع وكيف يحصلُ له ما يحصل له من التأسُّف وما شابه ذلك وهو موحد! فعليه أن يلجأ إلى اللهِ عز وجل.
ولذا قال هنا: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي) يعني من بعضِ الذرية لأنَّ سارة وابنها إسحاق لم يكونا هنا.
قال هنا: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) عند بيتك المُحرم الذي سيبنيه وهو: الكعبة.
(رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) سبحان الله! ما أعظمَ هذه الصلاة (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) يعني أسكنتُها عند هذا الوادي المحرم من أجل ماذا؟ من أجل أن يقيموا الصلاة وأن يقيموا شعائرَ الدين سبحان الله!
(لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) سبحان الله! استجاب الله دعاءَه قال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) الأفئدة قبلَ الناس، القلوب تهوى نحنُ هاهنا وأفئدتُنا تريد أن تذهبَ إلى مكة سبحان الله! لم يقل فاجعل “الناس” أو اجعل “من الناس” إنما قال: (أَفْئِدَةً) فإنك تخرج من مكة ولايزالُ قلبك مُعلقاً بالرجوع إليها مرة أخرى (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ) وقال من الناس، ولذلك قال بعضُ الصحابة لو أنه قال: فاجعل أفئدة الناس لحجت إليه الروم وغيرُها قال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ) المقصود من ذلك أهلُ الإيمان.
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ َ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال: تهوي والهوي يدل على ماذا؟ يدل على السرعة وعلى الذهاب بقوة مما يدل على أن تلك الأفئدة مع أنها ترغبُ في الذهاب إلى ذلك البيت ومع ذلك تهوي.
قال هنا: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ َ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) سبحان الله! رَزَقهم من الثمرات قال تعالى: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ) قال: (يُجْبَىٰ) يعني: يُؤتَى إليه (يُجْبَىٰ إِلَيْهِ) بمعنى أنه: يأتي إليه من غيرِ أن يذهبَ أحدٌ للإتيان بشيءٍ من ذلك، يجبى إليه ثمراتُ كل شيء، كل شيء (رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا).
(وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) لعل ذلك يكون سبيلاً لشكرك وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن النِّعمَ خَلقها الله عز وجل رزق الثمرات وما شابه ذلك من أجل أن يُشكَرَ الله، وأعظم ما يُشكرُ اللهُ به: (التوحيد) ولذلك قال هنا: (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) لكنَّ حالَ كفار قريش ليسوا في حالةٍ حسنة حتى يَدَّعوا وحتى يزعموا أنهم على ملة إبراهيم (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ولذلك لما صنعت قريش ما صنعت ماذا جرى؟ وماذا حصل لها؟
قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ومن ثَمَّ نَصَرَ اللهُ عز وجل نبيَّهُ محمداً ﷺ في غزوةِ الفتح فقال هنا: (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ (38).
(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) تعلم ما نُخفيه في أنفسنا وما نُظهره مما يدل على ماذا؟ مما يدل على أن العبدَ عليه أن يُراقبَ الله وعليه أن يتعاهدَ أعمالَه وأقوالَه فالله عز وجل لا يخفى عليه شيء (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) ثم عمم قال: (وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ):
ونصَّ على الأرض والسماء مع أنه عالمٌ بكل شيء لأنها هي الظاهرة ُوالواضحة للناس ولأنها فيما يظهر للناس هي أعظمُ المخلوقات من حيث ما يرونه من مخلوقات وإلا فالعرشُ مما لا نراه هو أعظمُ المخلوقات قال هنا: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ) وأتى بكلمة (من) الزائدة التي تفيد التأكيد لا يخفى على الله أي شيء (فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ).
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ (39).
قال الحمدلله ،حَمِدَ الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر) وهب هِبَة من الله على الكِبَر قال: (عَلَى الْكِبَرِ) وأتى بحرف (على) وهذا الذي يظهر لي أنه أصَحُّ ما يُقال في هذه الآية (عَلَى الْكِبَرِ) بمعنى أن الكِبَرَ قد بَلَغَهُ واستولى الكِبَر عليه، (عَلَى الْكِبَرِ) يعني: أنه صار كبيراً ولذلك قالت امرأتُه (أأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا).
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر) يعني بعدما كان في الكِبر وتوَغَّل فيه مع ذلك كله رزقه الله عز وجل بالذرية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) مما يدل على أن الإنسان في حالِ كِبَرِهِ لما يكونُ كبيراً وشيخا في السن فرُزق بأولاد فإنه يَسعدُ بهم لمَ؟ لأن الإنسان إذا أتته النعمة وهو بحاجةٍ إليها فإنها تكونُ أعظم.
ولذا نجد مثلاً كمثال نحن الآن في فصل الشتاء لو أتى يوم حار فلبسنا الثياب المُخصصة للصيف فإننا نتلذذُ بذلك، مع أننا نلبسها في صيفنا بكثرة وكذلك العكس بالنسبة إلى ثيابِ الشتاء في الصيف .
وعلى كل حال قال هنا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) دل هذا على أنه في حالِ الكِبَر يُتَعَذَّر من حيثُ الأسباب التي نراها نحن كبشر وإلا فلا شيء يستعصي على الله عز وجل لأنه يعني بعيدٌ أن يُرزقَ الإنسان في حال كبر سنه بأولاد فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ):
إسماعيل من هاجر، واسحاق من سارة، فدل هذا على ماذا؟ على أنه عز وجل رزقه بولدين هذان الولدان من زوجتين مُختلفتين فدل هذا على عِظَمِ الله عز وجل كيف رُزِقَ من هذه المرأة ومن هذه المرأة ولم يكونا من امرأةٍ واحدة.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) قال ربي: لأنه نادى الله وتضرع إلى الله بكلمة الرب، ربنا ،ربنا تكررت فيما مضى ( إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) فهو يسمعُ الدعاء وهنا استجابُ الله لإبراهيم فيكون الكلام هنا عن “السميع” هو يسمع عز وجل وله صفةُ السمع التي تليقُ بجلاله وبعظمته وأيضاً استجاب (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) يسمع الدعاء فيستجيبه، ولذلك نحن نقول إذا رفعنا من الركوع سمع الله لمن حمده فالله يسمعنا معنى سمع الله لمن حمده: استجاب الله لمن حمده (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)
وتأمل هنا قال: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) هو دعا ولم يقل إن ربي لسميعٌ لدعائي من أجل- والله أعلم – أنَّ العبدَ متى ما دعا الله ولو لم يكن نبياً لو كان أي شخص وكان مسلماً فدعا الله بتضرع وبخوف وإقبالٍ على اللهِ عز وجل فإن الله يسمعُ دعاؤه ويستجيبُ له (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) .
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾. (40)
دعا إبراهيم ربه بأن يجعلَه مقيماً للصلاة وكذلك الذرية وقوله (وَمِن ذُرِّيَّتِي) هنا إما أن تكونَ (مِن) للبيان وليست للتبعيض، أو: تكونُ للتبعيض باعتبار ماذا؟
باعتبار أنَّ من سُلالته عليه السلام من لم يؤمن كما قال تعالى: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ).
فقال هنا: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي) دل هذا على ماذا؟ على أنه لا شيءَ أعظم بعدَ التوحيد من الصلاة ولذلك لما ذكر ما يتعلقُ بالتوحيد ذكر الصلاة (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي) ومن ثَمّ فإنه كما يدعو الإنسان بأن يُقيمَ الصلاة كذلك يدعو لذريته بأن يُصلحَهم الله وأن يقيموا الصلاة (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) أي: تقبل دعائي هذا (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ).
﴿َربَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾. (41).
قال هنا: ربنا اغفر لي لمّا ذكر ما يتعلقُ بالذرية ذكَر ما يتعلقُ بالوالدين (َ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) دل هذا على ماذا؟
من أنَّ إبراهيمَ عليه السلا م دعا لوالديه، أما أبوه فإنه دعا له ثم بعدما تبين أنه كافر تبرأ منه قال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) وأما الأم فقال بعضُ العلماء: إنها ماتت قبل ذلك، والذي يظهرُ: من أنَّ أمَّه لا دليلَ على أنه ماتت قبلَ ذلك ولا دليلَ على أنها كانت على الكفر، وذلك لأنه لو كان كما يُقال لبين ذلك الله عز وجل أو بيّنه ﷺ والأصل في الإنسان هو الفِطرة قال ﷺ كما في الصحيح: ( كل مولود يولد على الفطرة).
وقال هنا: (َ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) قال هنا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي) وقَدَّمَ نفسَه في الدعاء ثم الوالدين لأنَّ حقَّهُما أعظم من حقوقِ غيرِهما، ثم ثلَّثَ بأهلِ الإيمان ولذلك ثبت أن النبي ﷺ كان إذا دعا بدأ بنفسِه أولاً.
(َ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ: فيقومُ الناسُ للحساب يحاسبُهم ربهم قال تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فالناسُ يقومون لربِّ العالمين وكذلك العدل والميزان قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ).
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ (42)
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ)ولا تظن (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) والله عز وجل ليس بغافل عمّا يعمله هؤلاء الظلَمَة ممن كذَّبك يا محمد (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) إنما هو استدراج ثم العاقبةُ الوخيمة ولذلك قال بعدها : (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) إنما يؤخرهم ليومٍ ونكّرهُ للتعظيم (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) : وهو يوم القيامة، والشخوصُ للبصر هو أن البصر يكونُ مفتوحاً، شخص البصر يعني فُتِحَ ولم يُغلق لهَولِ ما يكون في يوم القيامة ( لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) هذه صفة لهم.
والصفةُ الثانية:
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾. (43)
الصفة الثانية (مُهْطِعِينَ) : يعني مسرعين، ويسرعون إلى الداعِي كما قال تعالى: (مهطعين إلى الداعِ يقول الكافرون هذا يومٌ عسر).
(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) (مُقْنِعِي) : يعني أنهم رافعوا رؤوسِهم، فمع شُخوصِ البصر، أيضاً الصفةُ الثالثة مع الإسراع: أنهم رافعوا رؤوسهم.
(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا يعودُ إليهم الطَّرف لأن الإنسان قد يشخص ببصره ويفتح بصره ثم يعود مرة أخرى، لا، بل إنما هذا البصر لا يَطرُف قال هنا: (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) وهو طَرفُ العين وإغماضُ العين.
(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) هذه هي صفةٌ أخرى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) خاوية وفارغة من هَولِ ما يكونُ في الموقف (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) دل هذا على ماذا؟ على أن هؤلاء الظلمة في يوم القيامة إذا بهم تصعقهم هذا الأهواء فتكونُ صفاتهم كهذه الصفات.
﴿وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ﴾. (44).
((وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ) أمره عز وجل أن يُخَوِّفَ الناس (وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ)
سبحان الله! لما ذكر ما يتعلق بيوم القيامة هنا بين انهم مازالوا في الدنيا فَلْيَحذروا من عذاب ذلك اليوم فقال: (وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم الذين ظلموا مما مر ذكرهم في الآيات السابقة.
( فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيب) أي: إلى زمن قريب، بمعنى أنك تُؤخرنا وتؤجلنا حتى نعملَ صالحا، ولذا قال عز وجل: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ )
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) وكما قال تعالى: (وَلَوْ (رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) ولذا هم يتمنون الرجوع حتى عند قَبضِ الأرواح كما قال عز وجل: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) إذا رأى الأهوال ورأى العذاب الذي ينتظره (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا).
(وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ) فيتمنون الرجوعَ في الآخرة كما يتمنون ذلك عند الموت، فهنا ما زلنا في وقتِ المهلة فعلى العبد بأن يتقيَ اللهَ عز وجل وأن يحرصَ على رِضوانِ الله.
وقال هنا: (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ) من أجل ماذا؟ (نُّجِبْ دَعْوَتَكَ) وأضيفت الدعوةُ إلى الله لأن الله عز وجل هو الذي أمر الرسل عليهم السلام بأن يدعوا إلى التوحيد، فأنزل عليهم الكتب (نُّجِبْ دَعْوَتَكَ) لأن كفار قريش لم يُجيبوا دعوة الرسول ﷺ ولا كفار الأمم السابقة.
(نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) نتبع الرسل فيما قالوه، فَيُرَدُّ عليهم: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم) أي حلفتم (مِّن قَبْلُ) أي في الدنيا حلفتم بالله (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ) أي: من زوال عن هذه الدنيا، ولذا قال تعالى عن هؤلاء: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) فقال هنا عن هؤلاء (أَوَلَمْ تَكُونُوا) إنكار وتوبيخ لهؤلاء (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ) في الدنيا (مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ) أي: من زوال عن هذه الدنيا (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ).
﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾ (45).
(وَسَكَنتُمْ) أتتكم العبر (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) أنتم يا كفارَ قريش تمرون على ديارِ عاد في اليمن حيثُ رحلتكم كما قال تعالى:( لإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) فتأتون إلى اليمن من أجلِ التجارة فتمرون على ديار عاد، وتأتون إلى الشام فتمرون بطريقكم على ديارِ ثمود، وتمرون بالشام على قومِ لوط فقال تعالى : (وَسَكَنتُمْ) تأتون وتسكنون فيها لحظات أو بعض الأوقات من أجل راحتكم في حالِ السفر (وَسَكَنتُمْ) كما قال تعالى في شأن كفار قريش بما يتعلق بمرورهم بديار قوم لوط: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
وقال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ) تبين لكم من مساكنهم ماذا فعل اللهُ بهم لما ظلموا أهلكهم (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) تبين واتضح لكم ما فعلنا بمن كذَّبَ بالرسل، بمن كذب بهود، بمن كذب بصالح، بمن كذب بلوط (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ) وتلك آثارهم باقية.
فقال عز وجل هنا: (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ: أمثال الأمم السابقة لما كفرت برسل الله وبكتب الله عز وجل، وضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ: نَوَّعناها وبيناها ومع ذلك تطلبون أن تُؤخَّروا إلى أجلٍ قريب فقد فات زمنُ التأخيرِ والُمهلة وهذا هو يوم الحساب (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
وقال هنا: (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ)
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾(46).
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) مكروا مكرهم وهو تدبيرهم التدبير الخفي لإبطال دعوة النبي ﷺ (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) فمكرُهم قد اطَّلَعَ عليه عز وجل ولذا قال تعالى: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فما الذي بعدها؟
(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا) فمكرهم سيعودُ عليهم وسيرد الله كيدهم في نحورهم وقال هنا: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) مكرهم الذي مَكروه بالنبي ﷺ (وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) (إن) هُنا نافية أي: وما كان مكرهم لتزولَ منه الجبال فإنه لن تزول منه الجبال ولو كان ما كان لمَ؟
لأن الله سيبطله، هناك قراءة سبعية (وإن كان مكرهم لَتزول) اللام هنا للابتداء.
وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ : بمعنى أنَّ مكرَهم عظيم على هذه القراءة، فتزولُ منه الجبال لِعِظَمِه، ولذا كما قال عز وجل في أواخرِ سورة مريم قال عز وجل : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا }
ولا تعارضَ بين القراءتين، فإنهم وإن عَظُمَ مَكرُهم لو زالت منه الجبال ولو عظم ما عظم فإن مكرَهم سيزول، لأن الله عز وجل مُطَّلع على مكرهم وسيبطل مكرهم (إن الله لا يصلح عمل المفسدين).
﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام﴾(47).
يا محمد (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) ولذك قدَّمَ الوعد على الرسل، لم يقل: “فلا تحسبن الله مُخلفَ رسلِه وعدِه” وإنما قال: (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) بمعنى أن وعد الله عز وجل حقٌ وثابت، وما وعد به الرسل من النصر فإنه حاصلٌ لا محالة فقد نصر الله عز وجل الأنبياء السابقين وسينصرك على هؤلاء الكافرين كفار قريش وقال الله عز وجل هنا : (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) عزيز قوي وغالبٌ لا يُنالُ بسوء، وذو انتقام ينتقم عز وجل لأوليائه من أعدائه.
﴿يَومَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ (48).
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) اذكر لهؤلاء حينما تبدل الأرض غير الأرض والسموات (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) تتبدل تتغير، وهنا اختلف العلماء هل هذا التبديلُ تبديلٌ لصفاتها أم تبديل لذاتها؟
بعضُ العلماء يقول: تبديلٌ لصفاتها، بمعنى أنَّ الأرضَ تُمد وأنَّ السماء تتساقط منها النجوم ويخسف بالقمر والشمس وما شابه ذلك فهذا هو التبديل.
وبعضُ العلماء يرى وهذا رأي للقرطبي -رحمه الله- ولا شك أنَّ قولَه قولٌ قوي: من أن السموات والأرض تتغير فتكون هناك سموات غير هذه السموات وأرضٌ غير هذه الأرض لِما جاء في الأحاديث الصحيحة قال ﷺ كما ثبت عنه قال: ( يُحشر الناس يوم القيامة على أرض عفراء) ، وثبت عنه قوله ﷺ: ( تكونُ الأرضُ في يد الرحمن خُبزةً يجعلها نُزُلاً لأهلِ الجنة) (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) سواءً كان هذا التبديل لذواتها أو لصفاتها فالأمرُ جدُ خطير سواء قيل بهذا أو بهذا، دل هذا على:
أنَّ هذا الكون يتغير، الذي عهدناه من أنه يسير بانتظام ، انتظام دقيق بأمر الله وبتقديره يأتي أمر الله وتقدير الله بأن يتغير هذا الكون فيخسف بالقمر وبالشمس وتتغير السموات وتتبدل وكذلك الأرض ولذلك مما يؤكدُ ما قاله القرطبي -رحمه الله- أن النبي ﷺ لما ذكر (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) سُئل أين الناس يومئذٍ؟
فقال: (هم في الظلمة دون الجسر) وفي رواية: (على الصراط) وعلى كل حال تبديل لذواتها أو لصفاتها فالأمر جد عظيم.
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ) ظهروا واستبانوا وبرزوا في تلك الأرض (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)
الواحد الذي لا شريك له، والقهار الذي قهر كل شيء، ومما يدل على أنه هو الواحد إذ إنه عز وجل أقامَ هذه القيامة، وهو القهار الذي يقهر من خالف رسله ومن خالف أولياءَه وهو الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾(49)
(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) في تلك الحال وفي ذلك المكان (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) أي: من أنهم مُقيدون ومربوطون بالأصفاد يعني: بالقيود.
(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) مما يدل على ماذا؟ يدل على الضيق الذي ينزل بهم كما نزل بأفئدتهم وأبصارهم كما قال تعالى: (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ )
(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ) هنا العذاب (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ).
﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ (50)
(سَرَابِيلُهُم) يعني القُمصان التي يلبسونها (سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ) والقطران هو الذي يُدهن به البعيرُ إذا أصابه الجَرَب حتى يُشفى، وذكر القطِران وذلك لسرعة اشتعاله ولنتانةِ ريحته وقُبح منظره فيجتمع عليهم هذا العذاب، فقال عز وجل: (سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ) ومع ذلك (وَتَغْشَىٰ) أي: تغطي (وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) وذكر الوجوه هنا لأن أشرف ما لدى الإنسان وجهُهُ، فقال عز وجل هنا: (وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) لمَ؟
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(51)
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ) بعثهم الله عز وجل في هذا اليوم ليجزي كل نفس بما كسبت إن خيراً فخير وإن شراً فشر {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}.
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يُحاسب عبادَه في ذلك الموقف بسرعة فهو ليس كالمخلوقين يحتاجُ إلى تدقيق أو تريث أو تروِّي أو نظر لا (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
﴿هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(52)
(هَٰذَا) أي: القرآن (هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ) بلاغُ بلغ الناس وبَلَّغَهُ رسول الله ﷺ لهم ويقرؤونه، وأيضاً به بلاغ إذ يبلغون به إلى جنات النعيم، ولذا ماذا قال الله تعالى؟
قال تعالى:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ) هذا القرآنُ بلاغ من أراد النجاة فقد بُلِّغَ عن طريقِ هذا القرآن حتى ينجو (هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ) لجميع الناس.
(هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ) وليُحَذَّروا بهذا القرآن من هذا اليوم العظيم.
(وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ) وليعلموا أنما هو جل وعلا إلهٌ واحد لا معبودَ بحق إلا هو (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) وليتذكر وليتعظ أولوا الألباب أصحاب العقول النيِّرة فهم المنتفعون بها وتأمل (هَٰذَا بَلَاغٌ) : القرآن ذكَرَهُ عز وجل هنا من أنه أُنزِل من أجل ماذا؟
من أجل (هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ) من أجل أن يَبْلُغَ العلمُ الناس كما قال عز وجل عن النبي ﷺ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).
(هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ) أنزل القرآن للإنذار مع أنه لتبشيرِ أهلِ الإيمان لكن الإنذار لأولئك الذين خالفوا الطريق.
(وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ) ما أُنزل هذا القرآن إلا من أجل إقرار التوحيد من أجل أن يُعلم أنه لا إله إلا هو لا معبودَ بحقٍ إلا هو (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ).
(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ليتعظَ أولوا الألباب من هذا القرآن.
وتأمل كيف يكون هذا الترتيب: هذا القرآن بلاغ أولُ شيء أنه بلاغ، وقد وصل إلى الناس عن طريق النبي ﷺ، ثم بعد أن بلَغَهم الإنذار التحذير من مُخالفةِ دين الله عز وجل، بعد ذلك إذا أُنذِروا فاتعظوا هنا يأتي ماذا؟ من أنهم يؤمنون ويوحدون الله عز وجل، وبعد هذا التوحيد يكون التذكر الذي به الثمار لأنه عز وجل كما مر معنا في كلمة التوحيد:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) فهذا هو شأن الموحد إذا استقر التوحيد في قلبه وعظُم فإنه كالنخلة تأتي بالثمار بإذن الله فتجد أنَّ الأخلاقَ الطيبة والأقوالَ الطيبة والأعمالَ الطيبة تخرُجُ في ظاهرِه وفي جوارحه لأن قلبَه امتلأ بالتوحيد (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
وبهذا ينتهي تفسير سورة إبراهيم.