بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الحجز
من آية 1 إلى آية 48
(الدرس 148)
للشيخ زيد البحري – حفظه الله –
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد..
فنشرع بعونٍ منه جل جلاله في تفسير سورة الحجر:
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)﴾
قال الله جل جلاله (ألر) وهذه من الحروف المقطعة، وقد مر معنا تفسيرها في أول سورة البقرة.
(تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ) أي: القرآن، وقال: (وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ) أي: قرآن واضحٌ وبيّن، وهنا من باب عطف الصفات وليس معنى ذلك على القول الصحيح، ليس معناه من أن قوله تعالى (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ) المقصود من ذلك الكتب السابقة، فليس هذا هو المقصود وإنما المقصود هو القرآن وذلك لأنه لم يأت ذكر للكتب السابقة.
وقوله جل جلاله (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ) قلنا في سورة يونس في قوله تعالى (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) لماذا قال (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ) ومع ذلك لم ينزل القرآنُ كله، فقد فصلنا ذلك في أول سورة يونس.
﴿رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾(2)
(رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) رُبَّ هنا هي للتقليل أو للتكثير، لأنها إما أن تأتي للتقليل أو للتكثير ومن هنا قال بعض العلماء أي: يَكثُر تمنِّي ومودة هؤلاء لمَّا يرون عذاب الله ويرون نجاةَ أهل الإسلام يتمنون ويُكثرون من هذا القول من أنهم يودون لو كانوا مسلمين،.
وقال بعض العلماء: إنما ذلك على وجه القِلةَّ باعتبار أنهم يعانون من شدة العذاب فلا يَفيقون إلا القليل.
ولعل ما قاله بعض العلماء -جمعاً بينهما- : من أن تمنيهم كثير لكن إفاقتَهم قليلة.
إذاً حال إفاقتهم ولو كانت قليلة يكثر تمنيهم.
﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾(3)
(ذَرْهُمْ) وهنا أمرٌ بتركهم للتهديد، (يَأْكُلُوا) ونصَّ على الأكل هنا لأنه مبتغى الإنسان ولأن هؤلاء أشبه ما يكونُ حالُهم بالحيوانات ولذا قال عز وجل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ).
(وَيَتَمَتَّعُوا) أي: فيما يستمتعون به من متعِ هذه الدنيا (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) الآمال التي تطمح إليها نفوسُهم في هذه الدنيا (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ):دلَّ هذا على خطورةِ الأمل، وأن الأمل يُلهي العبد حتى يُنسيه الدار الآخرة (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
وهنا قال (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) من باب التهديد، بمعنى: أنهم سيعلمون عاقبة ما تركوه من هذا الدين وما جعلوه من همةٍ لهم فقط في الأكل وفي التمتع.
﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ﴾(4)
(وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) أي: وما أهلكنا من قرية من القرى السابقة إلا ولها كتاب معلوم، أي كتاب وأجل قَدَّرَهُ عز وجل وقال (كِتَابٌ مَعْلُومٌ) بمعنى أنه مكتوب لا يزيد ولا ينقص ولذلك قال: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) إذاً ما يستعجلُ به هؤلاء كفار قريش إنما لهم أجلٌ مُحدد.
﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾(5)
(مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) أي: من أي أمة من الأمم (أَجَلَهَا) يعني الوقتَ المحدد لها في هذه الدنيا (وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) عن ذلك، وهذا نظيرُ قوله عز وجل (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾(6)
(وَقَالُوا) يعني كفار قريش (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) والذكر هنا هو القرآن، لمَ؟
لأن القرآن هو للتذكر والذكرى، فقال عز وجل عن هؤلاء قالوا هذا الكلام من باب السُّخرية، (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) لأنه كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم ويخبرُ هؤلاء بأن القرآن ذِكر، فقالوا على سبيل السخرية (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وقالوا (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وصفوه بالجنون وهذا هو حالُ المُكذبين من هذه الأمة ومن الأمم السابقة فقال عز وجل هنا عن هؤلاء (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وقد كذبوا في ذلك، فهم يعلمون صِدقَهُ قبل نزول القرآن عليه.
﴿لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ(8)﴾
(لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) يعني: هلَّا تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين لتشهدَ لك بأنك رسول الله فقال عز وجل عن هؤلاء (لَوْ مَا) يعني: هلَّا (تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، قال الله عز وجل: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ): فالملائكةُ لا تنزلُ على حسبِ أهواء هؤلاء ولا حسب مقترحاتهم إنما تنزل بالحق إما بالعذاب أو تنزل الملائكة بالوحي من الله عز وجل فقال عز وجل هنا: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ) يعني مُمْهَلين بمعنى أنه إذا نزل عذاب الله عز وجل فإن هؤلاء لن يُمهلوا حتى يتوبوا، ولذلك قال عز وجل (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ).
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾(9)
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا) هنا من باب التأكيد على أنَّ أولئك سخِروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا كما قال تعالى (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) فقال هنا مؤكداً من أن الذكر نَزلَ عليه وهو حافظٌ له عز وجل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) يعني: القرآن، (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الضمير هنا يعود إلى القرآن، وهذا هو أصح من قول من يقول من أن قولَه تعالى (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أي: لحافظون النبي ﷺ، ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام محفوظ كما قال تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) لكن السياق يدل على أن قوله تعالى (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) المقصود من ذلك: القرآن، ولذا نجد أن هذا القرآن حتى مع تفكك الأمة الإسلامية ما استطاع أحدٌ أن يغيره أو أن يبدله فالله عز وجل حفظه، بخلاف الكتب السابقة، فالله عز وجل تكفل بحفظه، بينما الكتب السابقة وكَّلَ الله عز وجل أهل العلم في حفظها فصار لها ما صار، ولذا قال تعالى (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) فحصل فيها التبديل والتحريف، لكن القرآن كما قال عز وجل (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
بل إن هذا القرآن في اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ محفوظ أيضاً، ولذا قال عز وجل (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) فدل هذا على أن هذا القرآن معجزة، ولذا لو جادلك شخصٌ فقال وما يدريني أن هذا الدين هو الحق، لماذا لا يكون دين الرافضة هو الحق؟ أو الصوفية هو الحق؟ فالجوابُ عليه من حُجَجٍ كثيرة ولله الحمد لكن من بين الحُجج هنا فتقول له: هذا القرآن أنزله الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع مرور مئات السنين، ما أستطاع أحد أن يغيره وأن يُبدله، فدل هذا على أن القرآن حق، وخصوصاً أهلُ الإلحاد، فيقولون وما يدرينا أن هذا الدينَ هو الحق، فسبحان الله! هذا القرآن بقي مع تلك المئات من السنين فدل على أنه من لدن حكيم عليم.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(11)﴾
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) بمعنى أنك لست بدعاً من الرسل فهناك رسل قد سبقوك وكذبوهم أقوامُهم (فِي شِيَعِ) يعني: في طوائف الأولين، لأن كلَّ طائفة تتشيع وتجتمع بمعنى أنها تتجمعُ على عقيدة لها (الْأَوَّلِينَ) أي مما مضى من الأمم السابقة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ)
(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يعني أن حالك يا محمد حينما استهزأ بك قومُك كحال الأنبياء السابقين فإن أقوامهم كحالِ الأنبياء السابقين،فإن أقوامهم قد استهزؤوا بهم.
﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)﴾
(كَذَلِكَ) أي: هذا التكذيب وهذا الاستهزاء الذي حصل من أولئك الذين كذبوا الرسل (كَذَلِكَ) يسلكه الله في قلوب المجرمين، ومن هؤلاء المجرمين قومك يا محمد الذين كذبوك (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ) يعني: ندخله {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}.
(لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)، ولذا في الآية الأخرى قال عز وجل (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) وإذا رأوا العذاب الأليم فإن ذلك الإيمانَ لا ينفع، فقال هنا: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)﴾
(لَا يُؤْمِنُونَ) دل هذا على أن التكذيب قد استغرق في قلوبهم وتشبعوا بذلك فهم لم يؤمنوا به، (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي: وقد مضت سنة الأولين، مضت سنتنا في الأولين إذ أنزل الله عز وجل عليهم العذاب فكذلك سنة الله لا تتخلف مع قومك إن كذبوك.
﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)﴾
(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) هؤلاء قومُك لو فتحنا عليهم باباً من السماء (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) بمعنى أنهم يصعدون إلى السماء بأنفسهم، وقيل: من أنهم يرون الملائكة تصعد وتنزل فإنهم لا يؤمنون، ولذلك ماذا قال عز وجل هنا (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا) وقال هنا (فَظَلُّوا) دل هذا على ماذا؟ دل هذا على أن كلمة (ظلَّ) إنما تكونُ في النهار مع الوضوح فإنه مع وضوح النهار لو ولجوا بأنفسهم وصعدوا إلى السماء أو على القول الأول ولا تناقضَ بينهما: فدل هذا على أنهم كَذَبَة فَجَرَة، بمعنى أنهم لو رأوا الملائكة يصعدون فإنهم لا يؤمنون، لأنهم ما أرادوا بهذا المُقترح أن يؤمنوا وإنما أرادوا بذلك العِناد، يريدون أن يعاندوك يا محمد (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) لأنه قال (فَظَلُّوا) فلو كان في الليل لقالوا التُبِس علينا، ومع ذلك ماذا قال؟ (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ).
(لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) يعني انسدت أبصارنا، ولذلك هذه الكلمة لُغَوية، ونحن نقولُها بمعنى أن العرب تقول سَكِّرِ الباب، فهذه الجملة هي موجودة عندنا ولها أصلٌ في اللغة العربية ويدل عليها ما جاء هنا في هذه الآية، يعني: أغلق الباب، أو سُد الباب، فقال هنا عن هؤلاء (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) بمعنى أن أبصارَنا قد سُدت وانغلقت فهذا ليس بحق.
(سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) بل هذا سِحرٌ منك يا محمد، سحرتنا حتى لو رأوا ذلك بأنفسهم رأوا الملائكة يعرجون، أي: يصعدون، أو أنهم رأوا أنفسَهم في ذلك يصعدون إلى السماء، فدل هذا على أن مطلبهم ليس مطلباً حقيقياً للإيمان، وإنما من أراد الإيمان تكفيه آية وأعظمُ آية هذا القرآن ولذا قال عز وجل (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)﴾
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) هنا فيه ذكر دلائل على عظمة الله وعلى توحيد الله عز وجل، فليتمعن هؤلاء من أن الله عز وجل هو الذي يستحقُ العبودية، فما أتاهم به محمد ﷺ من توحيد الله هو الحق والدلائلُ على ذلك: هذه الآيات.
ولذا قال (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) والبروج هي النجوم (وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) بمعنى أنه عز وجل زيَّنَ هذه السموات زينها بالنجوم للناظرين.
(وَحَفِظْنَاهَا) يعني: حفظنا السماء (مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) أي من كل شيطان مرجوم (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي: إلا من استرق السمع مما يسمعه من الملائكة مما قدره الله عز وجل فيما يكونُ في هذا الكون فأخبر به الملائكة فإنه لا يكون غيباً، أما ما يتعلقُ بالوحي كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة فإنهم لا يستطيعون أن يسمعوا منه شيئاً.
قال عز وجل عن الملائكة وعن حالهم (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فيرد عليهم جبريل عليه السلام على الملائكة من أنهم لما سألوه ماذا قال ربك؟ فيقول: قال الحق.
فقال هنا (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) والشهاب: هو جزءٌ من الكوكب، مبين: واضح، ولذلك نرى أحياناً أن هناك شُهباً تُرمى فهذا هو الشهاب، ولذلك قال (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) يعني: منفصل من الكوكب، وليس معنى ذلك أنه يُرمى بالكوكب، وإنما مُنعت الشياطين من سماع ما يتعلق بالوحي باعتبار ماذا؟ باعتبار حفظِ هذا القرآن، ولذلك قال عز وجل عن الجن (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا).
ولذلك كما سيأتي معنا في سورةِ الصافات من أنه ﷺ لما بُعثَ إذا بالجن قد مُنعوا من استماعِ ما يكونُ في السماء، ولذلك قال عز وجل (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) وهذا استراقٌ منه بتقدير من الله للابتلاء والامتحان، ولذا يسترقون بعضَ السمع مما تقوله الملائكة كما جاء بذلك الحديث الصحيح، وإذا بهم يأتون بها يَقذف هذه الكلمة الواحد تلو الآخر حتى يصل آخرُهم إلى الساحر، فيُقر في أذنه تلك الكلمة فيكذب معها الكاهن والساحر مائة كذبة فيُصَدَّقُ الساحرُ بتلك الكلمة مع أنه قد مزجها وخلطها بأكاذيب، وهذا كله مما جعله عز وجل ابتلاءً وامتحاناً للناس ولذا قال (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) أي: حفظنا السماء إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ).
﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)﴾
ثم لما ذكر ما يتعلقُ بالدلائل العُلوية، ذكر ما يتعلق بالدلائل السُّفلية الأرضية التي تدل على أن الذي يستحقُ العبودية هو اللهُ عز وجل وحده.
(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا) مَدَّها عز وجل وبَسَطَها، ولذلك قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا).
(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وألقينا فيها رواسي) وهنا: رواسي هنا صفة لموصوف محذوف، دلَّ عليه السياق وهو معروف وهي: الجبال.
فقال عز وجل (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) يعني جبالاً راسيات، ولذلك قال تعالى (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا).
(وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا) يعني في الأرض (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يعني أنه يُوزن كشأن ما يكون من الحُبوب والثمار وما شابه ذلك، وأيضاً (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) بمعنى أنه مُقدرٌ ومُحدد بعدد، والله عز وجل قد أحصاه وقَدَّرَه ولذلك قال: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ).
(وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا) أي جعلنا في هذه الأرض (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) ولذا قال عز وجل كما مر معنا في تفسير سورة الأعراف (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) مع أن تلك المعايش جعلها لهؤلاء البشر إلا أن أكثرَهم لا يشكرون.
(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) بمعنى جعل لكم فيها معايش وجعل لكم فيها ما يخدمكم وتنتفعون به من الخدم والبهائم، وأولئك الخدم والبهائم ليس عليكم رزقُها، وإنما رزقُها على الله و{َجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}.
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾(21)
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) لما ذكر ما يتعلق بالأرزاق بين هنا من أنه ما من شيء إلا وعند الله خزائنُه ولذا قال تعالى (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وإذا كانت خزائن كل شيء إنما هي عند الله عز وجل فكيف يطلبها العبد من غير الله، وكيف يَفْتُرُ العبد عن طلب ما يحتاجه مما تحتاجه نفسُه أو يحتاجه قريبه أو تحتاجه الأمة، كيف يَفْتُرُ عن طلب ذلك! (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ
( وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي ما ينزل الله عز وجل شيئاً إلا بقدر معلوم، حتى المطر، فكلُّ شيء بمقدار، ولذا قال عز وجل هنا.
﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾(22)
(وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) هذه آيةٌ أخرى تدل على عِظَمِ الله، وأنه هو الذي يستحق التوحيد، قال (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) فالرياح تَحمل السُّحب وتُلقِّحها، وتُلقَّح أيضاً الأشجار، وكل ذلك بأمر الله عز وجل.
وهذا يدل على أن الرياح بها خير، ولذا مرَّ معنا في سورة يونس من أن الريح تكون للخير، وتكون للشر، (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) لكن هنا جمع الرِّياح مما يَدُلُّ على أنها طيبة (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) قال (فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) بمعنى أنه لكم ولبهائمكم.
ولذا قال بعض المفسرين كالشنقيطي – رحمه الله – في كتابه أضواء البيان، قال: ليس هذا القول صحيحاً فإنما قوله (فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) إنما يكون أيضاً للبشر وحدهم، ولذلك قال: جاءت قراءة (نسقيكم) نسقيكم من (سَقِيَ) الثلاثي، وأما نسقيكم من (أسقى) الرباعي، (فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) ولا شك أن هذا المطر به خير للبشر ولبهائمهم.
(وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) بمعنى لستم له بخازنين، قال فيما مضى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) قال هُنا (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) يعني: قبل أن ينزل فخزائنه عند الله عز وجل، وإذا نزل إلى الأرض فأيضاً لا تستطيعون ماذا؟ لا تستطيعون أن تخزنوه في الأرض.
ولذلك قال تعالى (فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ) فدل هذا على أنه مِن مِنن الله عز وجل مِن أنه أنزل المطر وحَفِظَ لهم هذا الماء تحت الأرض في الآبار وما شابه ذلك.
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾(23)
(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) (وَإِنَّا ) هذا يدل على عِظَمِ اللهِ عز وجل وفيه رد على أولئك الذين قالوا (إِنَّمَا هي حياتنا الدنيا).
(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) فهو عز وجل يحيي الخلقَ ويكون لهم أطوار متعددة، من حيث النطفة والعلقة والمضغة وما شابه ذلك، ثم ماذا؟ ثم يكون الموت، ثم بعد ذلك يفنى الناسُ كلهم، ولذا قال (وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) بمعنى أنه الباقي بعد فناء خلْقِه، ولذا قال عز وجل (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)، وقال عز وجل (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ).
﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(25)﴾
ذكر المفسرون أقوالاً، وتلك الأقوال داخلة في هذه الآية: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) فالله عز وجل أحاطَ بكل شيء علماً، فهو عَلِم من تقدم من الأمم السابقة على شتى قبائلهم وأقوامهم وأراضيهم وتنوعهم، وكذلك من تأخر بعد تلك الأمم ومن سيكون إلى يوم القيامة.
وأيضاً هو عالم عز وجل بمن هو يتقدم إلى الخير ممن يتأخر عن الخير، كالتقدم إلى الصفوف الأُوَل إلى الصلاة وممن يتأخر في ذلك، إذا هنا في هذه الآية بيان من أنه عز وجل أحاط بكل شيء علماً.
(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) فدل هذا على ماذا؟ على أن العبد يخشى من الله لأنه عالمٌ بحاله وبحال من تقدَّم وبحال من تأخر ولذلك قال تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ) هو لا غيرُه (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) يعني يجمعهم يوم القيامة مع كثرة أعدادهم (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ).
(إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فهو عز وجل حكيم عز وجل، وعليم بحال تلك الأمم السابقة وبحالكم أيضاً وعالم بكل شيء؛ وحكيم عز وجل إذ أمركم بهذه الأوامر فسيجازيكم على ذلك، فهو عز وجل حكيم لأنه حكَم حُكمه الشرعي وكذلك حكم حكمه القدري وكذلك حكم حكمه الجزائي مما يكون في الدنيا، ومما يكون في الآخرة {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ(27)﴾
لما ذكر ما يتعلق بالخلق الأولين والآخرين بين هنا على وجه التفصيل بيان خلق آدم وبيان خلق الجان (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) فكيف يتكبر عن طاعة الله! وكيف يُعرضُ عن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم!
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) والصلصال هو الذي له صوت (مِنْ حَمَإٍ) قال (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) حمأ يعني: تراب أسود، مسنون: يعني مُتغير.
وقد جاءت آيات من أنه خُلِقَ آدم من تراب وخلق من طين، فدل هذا على أن أصله عليه السلام من تراب، والتراب مُزِجَ حتى صار طيناً، وهذا الطين أصبح يابسا، حتى صار له صوتٌ كالفخار.
ولذلك في سورة الرحمن (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) فصار ذلكم التراب، الذي صار ممزوجاً فصار طيناً أسودا صارت له صلصلة ثم صار بعد ذلك أسود ثم أصبح مُنتناً متغير الراحة، فكيف يتكبر هؤلاء.
{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ(27)﴾
(وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ) يعني أصل الجن (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) والسموم هي الريح شديدةُ الحرارة، ولذلك خُلق من نار صافية، فقال هُنا (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ) ونُصِب هنا، باعتبار الفعل الذي بعده (خَلَقْنَاهُ).
(وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) دل هذا على أن الجان خُلق قبل آدم (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبلِ آدم (مِنْ نَارِ السَّمُومِ).
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30)﴾
وهنا قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ }
(خَالِقٌ) تدل على الاستقبال، بمعنى أنه عز وجل أمر الملائكةَ إذا خلقَ آدم أن يسجدوا له، دل هذا أن أمرَه عز وجل للملائكة قبل أن يخلقَ آدم، فقال عز وجل هنا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} ولذلك في سورة (ص) بيَّنَ أنه خلَقَه بيديه فقال عز وجل (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ).
(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) بمعنى أنه إذا سَوَّاه بشراً من هذا الأصل من هذا الطين المتغير (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) دل هذا على ماذا؟ دل هذا على أنَّ آدم سوَّاه الله عز وجل ثم مكث مدةً ثم بعد ذلك نفخ فيه الروح.
قال (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وأضيفت الروح إلى الله باعتبار إضافة المخلوق إلى خالقه فالروح خلق مخلوق كما سيأتي بيانُ ذلك إن شاء الله مُفصلا في قوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
(فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) قال (فَقَعُوا) يعني خِرُّوا وأتى بالفاء، بمعنى أنكم لا تتأخرون عن هذا الأمر أبداً، فبمجرد الأمر لتسجدوا.
(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) انظر قال (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) من باب ماذا؟ من باب أن يُبين أنه لم يَشُذَّ أحدٌ من الملائكة عن السجود فالجميعُ سجد ولذا أتى بالمؤكدات (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).
﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)﴾
(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (أَبَى) يعني امتنع أن يكون مع الساجدين، وقد مرَّ معنا في سورة البقرة هل إبليس من الملائكة أم ليس من الملائكة؟
فقال عز وجل ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}
(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) سأله اللهُ عز وجل وهو عالمٌ لكن من باب بيان إظهار ما في مكنونِ الشيطان من الشر والحسد والكِبْر (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).
(قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) دل هذا على ماذا؟ على أنه تكبر واغتر بأنه خُلِقَ من نار، ولذلك بيَّنا مزية الطين على النار كما في سورة الأعراف.
فقال عز وجل هُنا عن إبليس: (قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)، (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي من الجنة أو من السماء أو من المرتبة العالية، كل ذلك قيل في هذه الآية، وقد مرَّ معنا في سورة الأعراف وكلها داخلة.
(قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي: مطرود (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) لعنه اللهُ عز وجل قال (إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) هنا بيَّن من أن هذه اللعنة تُلاحقه إلى يوم الجزاء (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) واللعنةُ هي الطردُ والإبعادُ من رحمة الله.
﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)﴾
(قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي أمهلني قال (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) إلى يوم الجزاء والحساب، ولذلك مَرَّ معنا في سورة الأعراف من أنه طلب ذلك فقال عز وجل (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي إلى وقت النفخة الأولى إذ إنك ستموتُ مع من سيموت، فقال عز وجل عن هذا الشيطان (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
(قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي من المُمْهَلين (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو النفخةُ الأولى، لكنَّ الشيطان طلب إلى يوم البعث حتى لا يُصعق مع من سيصعق عند النفخة الأولى.
(قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) قال هنا (بِمَا أَغْوَيْتَنِي) يعني بسبب إغوائك لي (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن الشيطان يعتقد أنَّ الغِوَاية من الله وأن الضلال من الله عز وجل، فكيف بحال القدرية الذين ينفون ذلك عن الله عز وجل!
ولذلك لا هداية إلا من الله فمن هداه الله عز وجل فهذا بفضله، ولا ضلال إلا من الله عز وجل للعبد وذلك بحكمته وعدله.
فقال هُنا (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) بمعنى أنه يُزين لهم هذه الأرض بما فيها ولذلك ماذا قال تعالى؟ (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) فهو يُزين لأنه سبب لكنَّ تزيينه لهذا الأمر لا يكونُ إلا بأمر الله فلا يجري في الكون شيء إلا بتقدير من الله وبإرادة من الله وبمشيئة من الله عز وجل.
فقال عز وجل عن إبليس (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) يعني لأضلنهم أجمعين بما أنني غويتُ بتقديرٍ منك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)
(إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وهذا يدل على ماذا؟ (الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلَصَهُم الله عز وجل وذلك بسبب توحيدهم وإخلاصهم فدل هذا على عظم التوحيد.
﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42)﴾
(قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) هنا أقوالٌ متعددة لأهلِ التفسير (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) وأجمعُ ذلك كلَّه (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) بمعنى: أنه عز وجل بيَّنَ الصراطَ المستقيم وطريقَ الحق وممن وَلَج في طريق الحق ما تقدم ذِكرهم وهم عبادُ الله المخلَصون وكذلك من سار على هذا الصراطِ المستقيم فإنه سيصلُ إلى الله عز وجل، فالسبيلُ الذي يُوصل العبد إلى الله عز وجل إنه هو طريقُ الحق، وإذا وصل إلى اللهِ عز وجل لأنه لا طريقَ يُوصِلُ العبدَ إلى الله إلا الطريق المستقيم، ومن ثَمَّ فمن وصل فإن له الخير العظيم ومن ذلك عِبادُ الله المخلَصون.
فقال عز وجل هنا (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) لكن لو قال قائل: لماذا لم يقل هذا صراطٌ إليَّ مستقيم؟ قال ابنُ القيم رحمه الله: إنما قال ذلك لأنَّ العبدَ إذا سار على الصراط المستقيم فإنه تكونُ له منزلة ويكونُ في علو كما قال تعالى (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ).
(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) ليس لك عليهم حُجَّة.
ولذلك ماذا قال الشيطان ُكما مَرَّ ذكره معنا في سورة إبراهيم لما تبرأ منهم يوم القيامة، قال: (وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).
فقال عز وجل هنا (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) لأن اللهَ عز وجل وضَّحَ وبيَّن فلا حُجَّةَ لأحد (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) أي: إلا من اتبعك وسار على طريقتك فصار غاوياً كغوايتك ممن يكونُ من الجن وممن يكونُ من الإنس ولذا قال (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).
﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ(44)﴾
وإن جهنم التي أُعِدَّتْ لهؤلاء (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) ولذا يخطُبُ فيهم في النار كما مر ذكره عند قوله عز وجل عن إبليس: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ).
فقال هنا: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي: نصيبٌ مقسومٌ مُقَدَّر، وهنا هذه الأبواب معنى هذا الكلام من أنَّ كلَّ طائفة تدخُل من الباب، كل طائفة غاوية على حسَبِ غِوايتها وضلالها تدخلُ من الباب الذي قدَّره عز وجل لها بما يُناسبها.
وكذلك يدخل فيه قولُ من يقول: إن المقصود هنا من الدركات، فإنهم يدخلون كلُّ طائفة تدخل بما يناسبها مما كانت عليه من الضلالة، يجتمعون ويدخلون كل طائفة اجتمعت على نوعٍ من الضلال تدخلُ في هذا الباب، ثم يكونُ المستقر لهذه الطائفة في الدَرَك الذي جعله الله عز وجل لها، فبئس الدخول إلى هذه النار وبئس المقر، ولذا قال عز وجل (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ).
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)﴾
لما ذكر حال أولئك الغاوين، بين حال المتقين المُخلَصين.
(فِي جَنَّاتٍ) أي بساتين (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ) يقالُ لهم (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ) سالمين من الآفات ومن المنغصات والمُكدرات، ومع ذلك أنتم آمنون (آمِنِينَ) فلهم مع هذه السلامة لهم الأمن لأن الإنسان قد يَسلَمُ ولكنه لا يأمن، لكن جمع هنا بين السلامة والأمن.
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) هذا ما يتعلق بظواهرهم لهم الجنات والعيون، ولهم السلامة والأمن، وقال فيما يتعلق بالبواطن: (وَنَزَعْنَا) أي أخرجنا (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا) أخرج الغلَّ الذي في نفوسهم وصاروا إخواناً.
(عَلَى سُرُرٍ) يعني: على سرر يجلسون عليها متقابلين لا يعطي أحدُهم دبُرَه للآخَر، وهذا يدل على تآلف القلوب فكل منهم يستقبل الآخر.
ولذا ثبت في الحديثِ الصحيح من أنَّ أهلَ الجنة يُحبسون في قنطرةٍ عند الجنة فإذا هُذِّبُوا ونُقُّوا واقْتُصَّ لبعضهم من بعض مظالم أُذِنَ لهم في دخول الجنة، فقال هنا (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) ولذا في سورة الأعراف: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ).
فقال عز وجل هنا: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)﴾
(لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ) المس: هو بدايةُ الشيء حتى أقل الأشياء لا تصيبُهم (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ) أي تعب (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) ودلَّ هذا على أنه إذا لم يُصِبهم نصب دل هذا على أنهم مستمتعون في راحة في خيرٍ عظيم.
وأتى بالجملة الإسمية (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) وأكَّدَ ذلك بالباء (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) بمعنى أنهم ماكثون فيها ولا يريدون الخروجَ منها ولذلك قال عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) فقال عز وجل: { لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)﴾