﴿بسم الله الرحمن الرحيـــــــم﴾
تفسير سورة الإسراء من آية (1) إلى آية (15)
الدرس (157)
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيرا إلى يومِ الدين، أما بعد:
فنشرع بتوفيقٍ منه عز وجل في تفسير سورة الإسراء، وهذه السورة تُسمى أيضا بـ: “سورة بني إسرائيل” لأن بني إسرائيل ذُكِروا فيها،
وقد جاء عنه ﷺ كما ثبت عنه: أنه كان لا ينام حتى يقرأ سورة الزُمَر وسورة بني إسرائيل، ووردت بعضُ الآثار كحديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في صحيح البخاري إذ قال: “سورةُ بني إسرائيل والكهف ومريم هُنَّ من العِتاقِ الأُوَل” يعني: مما نزلَ أولاَ، قال: “وهَنَّ مِنْ تِلادِي” يعني: من أول محفوظاتي.
وهذه السورة سورةٌ مكّيِة، وقد اختلف بعضُ العلماء في بعضِ آياتها هل هي آياتٍ مدنيّة أم هي آياتٌ مكّية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (1)
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ {سُبْحَانَ}: منصوب على أنه مفعول مطلق، أي: سبّحتُ الله سبحانه، أي: تسبيحاً، فنزهّتُ الله ﷻ عمّا لا يليقُ به
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ تنزيهٌ لله ﷻ عمّا لا يليقُ به
﴿الَّذِي أَسْرَى﴾ الإسراءُ هو: السيّرُ بالليل
﴿بِعَبْدِهِ﴾ وهو النبي محمد ﷺ ولم يُصرِّح باسمهِ وإنما وُصِفَ بأنه عَبْد، لأن هذا وصفٌ يُحبه الله ويحِبهُ رسولُ الله ﷺ، ولذلك ذكره عز وجل في موطنِ الإسراء كما هُنا، وقد مرّ معنا من أنه عز وجل وصَف نبيّه محمد ﷺ بهذا الوصف في عدّة مواطن كما بيّنا ذلك في سورة البقرة ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾.
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ قال هنا ليلا مع أن الإسراء يكون بالليل فلماذا أتت كلمةُ الليل؟
أتت كلمةُ الليل مُنكّرة، باعتبار أنَّ هذا الإسراء في جُزءٍ من الليل،
والإسراء حَصَل للنبي ﷺ مِن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فقال عز وجل هنا: ﴿لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ من المسجد الحرام ولا تعارض بينه وبين تلك الأحاديث التي ذكرت من أنه أُسْرِيَ ﷺ به من البيت:
فلعلّ مُبتدأ ذلك من البيت ثُم خرج ﷺ إلى المسجد ثُم أُسْرِيَ بهِ على “البُراق” وهي: دابّة من الدواب.
﴿ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ الأقصى يعني الأبعَد، لأنه بينه وبين المسجد الحرام مسافة كبيرة.
﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ باركنا حول المسجد الأقصى بركة دينية، وذلك بأنّ:
الوحي نزل على كثيرٍ من الأنبياء
وفيه يكون حَشر الناس في آخر ما يكون من هذه الدنيّا كما ثبت بذلك الأحاديث من أنهم يُحشرون إلى الشام.
وأيضاً بركة دنيوّية: باعتبار ماذا؟ باعتبار ما حولَه من الأشجار وما يكونُ فيها من الثمرات وما شابه ذلك.
﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ لِنُريَ محمد ﷺ من آياتنا أي من بعضِ آياتنا الغريبة العظيمة التي تدل على عظمة الله ﷻ.
﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ إنه عز وجل السميع لكل قول، البصير يُبصرُ كُل شيء، ومن ذلك ما كان مما حصل للنبي ﷺ فيما يتعلقُ بالإسراء،
وأيضاً ما جرى من أقوالٍ وأحوالٍ من كفّار قريش لمّا استنكروا هذا الأمر. فالإسراء من مكةَ إلى المسجد الأقصى، والنبيُّ ﷺ في تلك الليلة صُعِدَ به إلى السماء وذلك على المِعرَاج كما قال ابنُ كثير- رحمه الله – وليس كما يُتوهم من أنه صَعد على البُراق إنما على سُلّم، ذلكم السُلّم الله أعلمُ بكيفيّته، حتى أتى ﷺ إلى السموات، سماء سماء حتى رأى فيها بعضَ الأنبياء، والإسراءُ والمعراج يطولُ الحديثُ عنه.
لكن هُنا قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ ومن ثَم فإن القولَ الصحيح:
أنَّ إسراءَهُ ﷺ كان يقظة وليس مَنَاماً، لِمَ؟ لأنه عز وجل قال: (سبحان) والذي يُتَعَجبُ منه، لأن كلمة سبحان أيضاً تدُل على التعجب والذي يُتَعَجبُ منه إنما يكونُ في اليقظة أما في المنام فلا يُتَعجَبُ مما يراه الإنسان في منامه ثُم قال:
﴿بِعَبْدِهِ﴾ وكلمة العبد تشمل الروح والبَدن، وهذا خلافاً أيضاً لِمن قال إنه أُسْرِيَ بروحه فقط فهو ﷺ أُسْرِيَ بروحه وبجسدهِ.
﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ لنريه من آياتنا يدل على أنه يقظة، وأيضاً لو كان مَنَاماً ما أكبَرَتْهُ كفار قريش وما أنكرته لأن المنام يَرِدْ فيه ما يَرِدْ فقال هنا:
﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ (2)
ذكر عز وجل ما يتعلق بموسى عليه السلام؛ وكثيراً ما يذكر عز وجل ما يتعلق بموسى مع النبي ﷺ -والعلمُ عند الله- من أجلِ ماذا؟
من أجل أن في قصته عِبَرا عليه السلام، وأيضاً من أنه أُوذِيَ كثيرا، ولذا قال ﷺ كما ثبت في الصحيح: ” لقد أُوذِيَ موسى بأكثرَ من هذا فصَبر”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يعني: التوراة، ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ما الذي جُعِل، الكتاب أم موسى؟ قولان، ولا تعارضَ بينهما لأن موسى هدى والكتاب هدى، ومِنْ ثَم فإن الأقربَ من حيثُ السياق من أنه راجعٌ إلى الكتاب، ولذا قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ (53) غافر
وسيأتي معنا نظيرُ هذا كما في سورة السجدة بإذن الله تعالى.
فقال ﷻ هنا: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا﴾ أي: بألّا تتخذوا ﴿مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ نُهوا أن يتخذوا من دون الله وكيلاً يُفوضون أمورَهم إليه، فالذي تفوضُ إليه الأمور هو الله عز وجل، ودل هذا على أن الخلقَ مأمورون حتى في الأمم السابقة بالتوكل على الله عز وجل وبتفويض الأمور إليه، وقد مرَ معنا نظير ذلك إذ قال موسى لقومه لمّا هددهم فرعون: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ (128) الأعراف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ (3)
يعني: يا ذرية من حملنا مع نوح كما مرّ معنا في قوله تعالى ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (48) هود، يعني تلك الأمّة التي مع نوح سيكونُ منها ذرية فذكّرهم الله عز وجل بنعمته على آبائهم اللذين نجّاهم الله عز وجل مع نوح
﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ يعني: في السفينة، ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ يعني: إنّ نوحا كان عبداً شكورا فهو عَبد وهو شكور، شَكَرَ نعمة الله عز وجل وعَبَدَ الله، إذاً عليكم أن تتاسوا بنوح.
وليُعلَم أن العبودية تختلفُ أحوالُها فالنبي ﷺ في أول الآية ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ فعبوديةُ النبي ﷺ بلغَ أعلى المراتب، ولذا في حديث الشفاعة الطويل الثابت عنه ﷺ يأتون الأنبياء وكلٌ منهم يعتذر عن الشفاعة، حتى يأتوا إلى عيسى فيقول اذهبوا إلى محمد فهو عبدٌ قد غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ (4)
﴿وَقَضَيْنَا﴾ يعني: أعلَمْنا ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ أي: في التوراة وذلك بما قضاه الله عز وجل وقدّره في اللوح المحفوظ من أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرضِ مرتين: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ بمعنى: أنكم تتكبرون كِبْراً عظِيما ﴿ ودل هذا على أنهم جمعوا مع الإفساد جمعوا معه الكِبِر بل أعظم الكِبِر.
فقال عز وجل: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ (5)
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا﴾ يعني: المرة الأولى من تِلكمُ المرتين ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ﴾ يعني: أرسلنا عيكم ﴿عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أولي قوّة شديدة ﴿عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ فإنَّ العباد كلهم لله عز وجل ولذا قال هُنا
﴿أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا﴾ والجَوْس هو: الطلب بتمعن وبتعمق للوصول إلى أدق الأشياء، ﴿فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ﴾ يعني: وسَط الديار للبحث عنكم حتى يفعلوا بكم ما يفعلون به من القتل والإساءة فقال عز وجل هُنا: ﴿ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ يعني ما وعد الله عز وجل به فإنه لابد أن يأتيَ كما قضاه الله عز وجل فإنه كائنٌ لا محالة. فقال عز وجل هُنا:
﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ (6)
﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ﴾ يعني: الرجعة والغَلَبَة والنُصرة عليهم
﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ يعني مع النصر أمدّهم الله عز وجل بالأموال والبنين، فقال ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ يعني أكثر عددا وجمعا ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ (7)
﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾ دل هذا على ماذا؟ من إن الإحسان سبيلٌ إلى النصر وإلى سَعَةِ الأرزاق، ودل هذا أيضاً على أن الإساءة هي سبيل الخُذلان والهزيمة فقال هُنا ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾ وإنما هذا يعود إليكم فمن أحسن فإنما إحسانه يكون له ولا يستفيد الله عز وجل من ذلك شيئا.
﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ قال: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ ومن ثَم قال بعضُ العلماء ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ يعني: فعليها من باب إبدال الحرف مكان حرف، ولكن الذي يظهر من أن قوله: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ اللام هُنا للاستحقاق يعني إن أسأتم فإنكم تستحقون ما تكون به مغَبَّةُ الإساءة منكم مما يكونُ عليكم.
﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ يعني: المرة الثانية من الإفساد مما يقعُ منكم ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ليسوؤوا وُجُوهَكُمْ﴾
﴿ليسوؤوا وُجُوهَكُمْ﴾ يعني: أن الإساءة تبلغُ الوجوه، وذلك إما بأن يكونَ ذلك من باب التعذيب الشديد الذي يظهر هذا العذابُ على الوجه، أو أنه يكونُ على البدن وأيضاً من أنهم يُسامون فيظهر العذاب على وجوههم مِن جَرَّاء ما يكونُ لهم من سحبٍ على الوجوه أو لطمٍ عليها أو ما شابه ذلك، فقال عز وجل هُنا ﴿ليسوؤوا وُجُوهَكُمْ﴾ وذكر الوجوه لأنها أشرف ما يملكون لأن من أُسيءَ إلى وجهه فهو أعظمُ الإساءة.
﴿ليسوؤوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ﴾ يعني: المسجد الأقصى، ﴿كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يعني في المرة الأولى حصل ما حصل من هؤلاء في المسجد الأقصى، ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ أي وليهلكوا وليفسدوا ﴿مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ يعني أي شيء تقع أعينُهم عليه فإنهم يفسدون في ذلك.
ومن ثَمَ اختلف العلماءُ اختلافاً كبيرا:
في تلك المرتين ما أسبابهما؟ وأيضاً من هم هؤلاء القوم اللذين بُعثوا لهؤلاء في المرة الأولى والمرة الثانية؟ خلافٌ طويل ولا دليل صحيح على ما ذكروا، وإنما هي آثار وكثيرٌ منها مُتلاقَّاه عن بني إسرائيل، ولكن يُمكن أن تكونَ المرة الأولى – والعلمُ عند الله – أنه فيما يتعلق بجالوت، فإن جالوت أفسد ما أفسد كما مرّ معنا في سورة البقرة، فالنبي في ذلك الوقت جعل الملك عليهم طالوت وكان من بين الجنود داود وقتل داودُ جالوت، وآتاه الله الكتاب والحكمة والمُلك فدل هذا على أنهم صاروا أكثر أعدادا وأكثر أموالا بسبب ذلك ثم فسدوا فجرى ما جرى.
والكلامُ طويلٌ حول المرة الثانية – فالعلم عند الله – لكن هي عبرة لهذه الأمة من أنَّ الإفسادَ سبيلٌ إلى الهلاك، وأنَّ الإحسان سبيلٌ إلى النجاة
ولو كان في ذكر هؤلاء القوم فائدة وما هي تلك الأسباب لذكرها الله عز وجل هنا فقال عز وجل بعد أن قال: ﴿وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾
﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ (8)
﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾ ولذا قال بعدها ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ يعني أن من تاب فإن الله عز وجل سيرحمُه، لكن من عاد؟
﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ وهل عادوا؟ نعم حصل ذلك في عصر النبي ﷺ فأسامَهُم ﷺ سوءَ العذاب، فبعضهم قُتِل وبعضهم أُخرِجَ من المدينة وبعضُهم ضُرِبت عليه الجِزية، وقد مر معنا مفصَلاً في سورة الأعراف في قوله عز وجل: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾
وبينّا في ذلكم الموطن من أنه كيف يكونُ لهم سوءُ العذاب ولهم المكانةُ في مثل هذا الزمن؟ أجبنا عن ذلك فيما ذكرناه في ذلك الموضع في سورة الأعراف.
﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ هذا عذابُ الدنيا ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ الحصير: هو المِهاد والفِراش الذي يجلس عليه الإنسان،
وأيضاً: يُطلقُ على الحَبِس، فالحصر هو: الحَبِس يعني المنع، بمعنى أن جهنم هي مِهادٌ لهؤلاء الكفار وأيضاً هم محبوسون فيها: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ (9)
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ فيه تذكيرٌ لِكفار قريش وتذكيرٌ بنعمة الله عز وجل على أهل الإيمان فأنه لمّا ذكر في أول السورة ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ بين هُنا أن القرآن أعظم من التوراة فقال ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ أي: للطريقة المستقيمة، ﴿لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ في الأقوال وفي الأفعال وفي العقائد، فمن أراد الطريقة الصحيحة القَيّمة المستقيمة فيما يتعلق بقول أو بفعل أو بحكم او بِخُلق أو بعقيدة ففي هذا القرآن، فهذه الآيةُ بل هذا الجزء من الآية يدل على شمولية عظيمة لهداية القرآن لمن وفقه الله عز وجل.
﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ بمعنى أن ما في هذا القرآن فيه بُشرى لمن عمِلَ الصالحات من أن له الأجر الكبير.
﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (10)
﴿وَأَنَّ الَّذِينَ} معطوفة على ما مضى، يعني وبأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليما، أعد الله عز وجل لهم العذاب الأليم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ (11)
هذه الآية كما مر معنا في سورة يونس قال عز وجل:
﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾
فقال هُنا: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ فدل هذا على أن الإنسان في حال الغضب قد يدعو على نفسه أو على أمواله أو على أولاده أو على مصالحه، ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ يعني كدعائه بالخير يعني يريد حال الغضب أن يحقق الله دعوته فيما دعاه على نفسه أو على أمواله أو على أبنائهِ، وقد مر معنا مفصلاً فيما يتعلق بذلك في سورة يونس، فقال هُنا: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ يستعجل ماذا؟ يستعجلُ أن تتحقق له الدعوة التي تضره ولا تنفعه، وأيضاً هو عجول لا يتفطن إلى مصالحه وهذا يدل على أنه عجول وكما قال تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ (37) الأنبياء، فطبيعةُ ابن آدم هي العجلة إلا من وفقه الله عز وجل فأزَمَ هذه النفس وقهرها وربّاها بما جاء في القرآن وفي سنّة النبي ﷺ ولذلك ثبتت الأحاديث الصحيحة في نحوِ قوله ﷺ:
” إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه ” وقال ﷺ كما ثبت عند أحمد قال: ” إن الله إذا أراد بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق “.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ (12)
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ هُنا فيه دلالتان على عِظمِ الله عز وجل وذلك ما يكون في الليل والنهار ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ يعني: علامتين تدلان على عظمة الله عز وجل، ومر معنا كثيراً ما يتعلق بآية الليل وبآية النهار، ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ بمعنى أنه طمَسَ آية الليل، فالليل مُظلم ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ فالنهار أذا أتى تكونُ آيتُه من أن به النور الذي به يُبصر الناس، ومن ثَم اختلف العلماء في قوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ فهل الآيتان هما نفس الليل والنهار كما مر تفسيره مما فسرته الآن؟ أو أن المقصود آية الليل (القمر) وآية النهار (الشمس)؟ بمعنى أنه ﷻ جعل القمر ممحو فهو يستمدُّ نوره من الشمس، والشمسُ بها النور فقال هُنا ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ يعني القمر ﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ يعني الشمس، ولا تعارضَ بينهما ولا شك أنَّ الليل والنهار والشمس والقمر من دلائل عِظمِ الله عز وجل ولذا قال تعالى مبيناً أنه جمعَ بينهما: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (33) الأنبياء.
فقال هُنا: ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ﴿لِتَبْتَغُوا﴾ جعل ذلك فيما يتعلقُ بهاتين الآيتين من أنه يذهب الليل ويأتي النهار لمَ؟ ﴿لِتَبْتَغُوا﴾ أي: لتطلبوا ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ انظر قال ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ﴿لِتَبْتَغُوا﴾ دل هذا على أن العبد مأمور بفعل الأسباب فهو يذهب بالنهار ليطلب ماذا؟ ليطلب الرزق لكن سمّاه الله عز وجل هنا سمّاه فضلا لمَ؟ لأن الإنسان إذا رُزق إنما هو فضلٌ من الله عز وجل ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ من الله عز وجل من ربكم الذي رباكم بنعمه الظاهرة والباطنة ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ ولتعلموا من هاتين الآيتين وقد مر معنا هل هذا خاص بالقمر أو بالشمس وبالقمر في قوله عز وجل في سورة يونس: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾
وكما مر معنا مِن أن الأظهر أنه يتعلق بالقمر وعلى كل حال فتدبير الله عز وجل عظيم فقال هنا ﴿وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ أي ما يمر عليكم من سنوات ومن شهور ومن أيام، وتعلمون أيضاً الحساب فتنتظم أحوالُكم الدنيوية بحيث تعرفون ما يكون بينكم من معاملات ومصالح وما شابه ذلك فقال هنا ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ {كل شيء} ليس الأمر محصوراً فقط على ما يتعلق بالشهور والأيام والمصالح بل كُلُّ شيء فصَّله عز وجل وبيَّنه ولذا قال عز وجل ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (89) النحل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ (13)
﴿طائره﴾ يعني: العمل له ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ﴾ قال ألزمناه مما يدل على اللزوم لا انفكاك عنه ﴿طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ وذكر العنق، لأن العنق يكون فيه ما يتعلق به مما يَزيِن الإنسان ومما يَشِينُه ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ مما يدل على ماذا؟ مما يدل على أنَّ العبد ما عمل من خيرٍ أو من شرٍ فإن هذا هو عمله وسيُجازى عليه يوم القيامة كما قال تعالى ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ الزلزلة.
وأيضاً على الصحيح – لأن بعض العلماء حصر هذا المعنى فقط – وكذلك على القول الآخر: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ يعني: ما قُدِر له مما قُدِر له في هذه الدنيا مما يجري له سواء فيما يتعلق بحكم الله عز وجل الشرعي من حيث الأوامر والنواهي، أو بحكمه القدري مما يُنزله عز وجل على العبد من خير أو ضُرٍ أو ما شابه ذلك، وقال هنا ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ قال:
{طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} لماذا قال عن العمل طائر؟ قال بعض العلماء:
لأنه من قول (طار سهمُ فلان) يعني طار إليه سهمه فكان نصيباً له،
وقيل: – ولعل الأول هو الأظهر- ويُمكن أن يُحتمل أيضاً الآخَر- مع أن الطيرة مذمومة مِن أنه قال ذلك باعتبار ما كانوا يصنعون له من التطير يرسلون الطير فإذا ذهب يمنة تفاءلوا وإذا ذهب شمالاً تشاءموا بذلك ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ ولعله يُمكن أن يُؤيدَ هذا القول بقوله عز وجل ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ (131) الأعراف، فلعله أن يكون دليلاً على ما ذكروه.
فقال عز وجل: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ قال: {فِي عُنُقِهِ} ومن ثَمَ فإنه على تقدير أنه أيضاً مما يتعلق بحكم الله القدري مما يُجريه الله عز وجل على العبد مما يلائمه ومما لا يُلائمه ذكر هنا أن هذا الأمر ملازمٌ لعنقه.
﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ ومن ثمَ فإن بعضَ الناس يذكر مقولةً (ما كُتب على الجبين تشوفه العين) بهذه العبارة، وعلى كل حال ورد عند ابن حِبان كما ثبت عنه ﷺ: أنَّ مَلَكَ الأرحام يقولُ فيما يتعلقُ بالجنين، يسأل ربَّه عز وجل عن عمله وعن شقاوته وعن سعادته؟ فيُقال له: اكتب، فيُكتبْ في جبينه ما هو لاقٍ، فيُكتب في جبينه، فهذه هي الجبهة: (أشار الشيخ إلى الجبهة في المقطع المرئي)؛ والجبين: جَبينان للإنسان، والمتوسِط بينهما هي الجبهة.
فمقولة هؤلاء من أنه: (ما كُتب على الجبين تشوفه العين أو ستراه العين) هذا الحديث يؤيدُ ما قالوا، وليُعلم أنه جاء بحديث حذيفة ابن أسيد: أنه يكتب المَلك فيما يتعلق بالأجنة فيكتبُ ذلك في صحيفة، لكن هنا قال: يُكتب في ماذا؟ يُكتب على الجبين، فيُكتب في جبينه ما هو لاقٍ، فكيف ذلك؟ قال ابن رجب -رحمه الله- “فيُكتب أولاً في صحيفته ثم يُكتب بعد ذلك على جبينه “
﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ قال: {يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} يعني مفتوحا لا تخفى منه خافية ولا يخفى منه شيء بل تتضح الأمور، منشورا يُنشر له كما قال تعالى ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ (49) الكهف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (14)
يُقال له ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾ كتاب أعمالك فيما قدمته من خيرٍ أو قدمته من شر، وكذلك يدخلُ في ذلك ما أُصيب من ضرٍ هل صبر أم أنه لم يصبر فجزع فيكتب التسخُط وغير ذلك مما يجري من العبد في دنياه.
﴿ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ يعني ﴿ كَفَى} كفاية يعني تكفي نفسُك في هذا الأمر فقال هنا ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ﴾ وأتى بالباء الزائدة في فاعل كفى نفسك ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ﴾ وهذه تدل على التأكيد وقد تُحذف منها كما قال عز وجل ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ (25) الأحزاب، ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ يعني مُحاسبا، فأنت يا عبدالله تشارك في هذا الأمر فأنت تُقيمُ الحجة على نفسك بقراءتك لهذا الكتاب، ولذلك يقول الله عز وجل عن أصناف هؤلاء فيما يتعلق بأهل اليمين ﴿فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ (19) الحاقة، أما أولئك فيقولون ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ (25) الحاقة.
ثم بيَّنَ عز وجل:
﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (15)
بين هنا من أن الناس في يوم القيامة ينقسمون إلى مهتدٍ وإلى ضال، وهنا نبههم وهم ما زالوا في دار الدنيا ﴿مَنِ اهْتَدَى﴾ دل هذا على أن للعبد إرادة وهي تحت إرادة الله ومشيئة الله، وفيه ردٌ على الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور على فِعلِ نفسِه.
﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ نفع تلك الهداية في نفسه ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ قال ومن ضل دل هذا على أنه أراد الضلالة فذهب إليها وإن كان الضلالُ لا يقع إلا بأمر الله، وفيه ردٌ كما سلف على الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور على فعل نفسه ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ وبال ذلك عليه ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي: ولا تحملُ نفسٌ وِزرَ نفسٌ أخرى فكلٌ سيحاسب على عمله.
﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ مع ذلك كله لما قال ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ بين لهم في هذا القرآن فأنزل الله عز وجل الكتب وأرسل الرسل ولذا قال ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ يعني أنه عز وجل لا يعذب أمة حتى يبعث فيها رسولا، وهذا يدل على كمال عدله، ومن ثَمَ مر معنا ما يتعلق بأهل الفترة وما حالهم يوم القيامة وقد مر معنا مفصَّلاً في قوله تعالى ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (165) النساء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ