الفقه الموسع
الدرس الأول
فضيلة الشيخ زيد البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة :
قال المؤلف رحمه الله :
[ الماء ينقسم إلى قسمين طهور ونجس ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح :
ـــــــــــــــــــــــ
هذه أولى مسائل الطهارة
الطهارة لغة: هي النزاهة والنظافة.
اصطلاحا: هي رفع الحدث وزوالُ الخبث.
والمراد من الحدث: [ هو الوصف القائم ببدن الإنسان ]
كما لو انتقض وضوء المسلم وأراد أن يصلي فنقول له: “عليك أن تتوضأ لترفع الحدث “
وقولُنا “زوالُ الخبَث”: أي زوال النجاسة.
والنجاسة تنقسم إلى قسمين:
نجاسة عينية، ونجاسة حكمية.
وسيأتي الكلام عنها – إن شاء اللهُ تعالى –
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالمسألة الأولى :
[ الماء ينقسم إلى قسمين: طَهور ونجِس ]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا هو الصحيح من قولي العلماء، خلافا لمن قال :
[إن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام : طهور ، طاهر ، نجس ]
وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله
ودليلهم على هذا القسم :
أن هذا الماء باختلاطه بشيء طاهر غيَّرَ لونه أو ريحه أو طعمه، يقولون :
” بمخالطة هذا الطاهر للماء فغيَّر لونه أو ريحه أو طعمه قد أخرج الماء عن إطلاقه، فلم يعد يقال: هذا ماء وإنما يقال ـ كما لو سقط زعفران في الماء أو ورد في الماء – أصبحنا نقول هذا :
(ماء ورد) هذا ماء (زعفران)
فلا يقال (ماء) على الإطلاق وإنما يقال ماء مقيدا
ولكن الصحيح ما سلف :
أن الماء ينقسم إلى قسمين طهور ونجس
وهذا اختيارُ كثير من المحققين :
كشيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهم
وحجة هذا القول ــ كما قال شيخ الإسلام رحمه الله :
أنه لم يرد دليل لا من كتاب الله عز وجل ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الماء ثلاثة أقسام
وإنما الوارد قسمان :طهور ونجس :
في مثل قوله عليه الصلاة والسلام :
( ( إن الماء طَهور لا ينجسه شيء ) )
والمذكور هنا (طَهور ونجِس)
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام :
(( إذا كان الماء قُلتين لم ينجسه شيء ))
وفي رواية : (( لم يحمل الخبث ))
وأما قول من قال : [ إن الماء خرج عن إطلاقه ] :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيرد عليهم :
بأن الله عز وجل قال :{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً } ولم يقل ماء صافيا أو ماء مشوبا أو ماء متغيرا
والقاعدة :
[ أن ما أطلقه الله عز وجل لا يجوز لنا أن نقيده ] :
ومما يدل على ذلك :
أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون وغالبُ أوعيتهم [ الأُدُم ] وهي القِرَب، المصنوعةُ من الجلد ، وهي في الغالب تُغَيِّرُ لونَ الماء وطعمَه ورِيحَه
فقد يكون أصفراً، ولم يُنقَل عنهم أنهم تركوا الوضوءَ منه
وعلى هذا :
فمتى ما بقي الماء على مسماه :
سواءٌ قلنا هذا ماء صافي أو قلنا بسقوط الزعفران أو بسقوط الورد في الماء،
هذا ( ماء زعفران ) أو هذا (ما ورد ) فيجوز أن نتوضأ به.
أما إذا خرج الماء عن مسماه فلم نعد نقول (هذا ماء) : فلا يجوز الوضوء به
مثال ذلك :
الماء الذي وضع فيه القهوة المسحوقة فأصبحنا نقول : هذه قهوة، فلا يجوز الوضوء بها
لم ؟
لأننا لم نعد نقول عنه إنه ماء، ولكن نقول : “قهوة “، إذ خرجَ الماءُ عن مسمّاه
وأما ما جاء :
أن ابن مسعود رضي الله عنه صحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال عليه الصلاة والسلام : ما الذي معك ؟ قال : معي إداوة فيها نبيذ، فقال : تمرة طيبة وطَهور ))
فهو حديث لا يصح :
ومما يدل على ضعفه مع ضعف إسناده :
(( أن ابن مسعود رضي الله عنه سئل: هل صحب أحدٌ منكم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال رضي الله عنه : لم يصحبه منا أحد ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة :
النجاسة على نوعين :
أولا : نجاسة عينية ،
ثانيا :ونجاسة حكمية .
( وهذه هي التي يتكلم عنها الفقهاء )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح : وهذه الحكمية هي التي يتحدث عنها الفقهاء.
فالنوع الأول وهي : النجاسة العينية :
هذه لا يمكن تطهيرُها
مثال ذلك :
لو أتيت بعذَرَةِ إنسان أو روثة حمار وأردت أن تطهرها وصببتَ عليها الماءَ الكثيرَ صبا، ما طهُرَت لأن عينَها نجِسة
وهذه لا يتحدث عنها الفقهاء، فإذا قرأت في كتب الفقه مسائلَ من النجاسة فليس مرادُهم النجاسةَ العينية إنما مرادهم النجاسة الحكمية
والنجاسة الحكمية :
هي النجاسة التي تقع على شيءٍ طاهر، فإذا وقعت النجاسة على ثوب فهذه نسميها نجاسة حكمية
لم ؟ لأنه لو صُب عليها الماء وغُسلت زالت .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة :
النجاسة متى ما أزيلت بأيِّ مادةٍ طهُرت وهي من باب التروك لا تفتقر إلى نية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ من مسائل الطهارة :
النجاسة متى ما أزيلت بأي مادة طهُرت وهي من باب التروك لا تفتقر إلى نية
هذه المسألة لها شقان، الشق الأول:
[أن النجاسة الحكمية يجوز أن تُطَهَّر بأي مادة ولا يلزم في تطهيرِها الماء]
خلافا لبعض العلماء -وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله – إذ قالوا :
” إن النجاسة لو زالت بغير الماء بقي هذا الشيء نجِسا “
وحجتهم في هذا :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل الماء في إزالتها، في أحاديثَ كثيرة، من بين هذه الأحاديث :
قوله صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد قال :
(( أريقوا عليه ذنوبا من ماء ))
ومنها : أنه لما بال الصبي على ثوبه دعا بماء فنضحه
والأحاديثُ في هذا كثيرة، فقالوا :
[لا يزيل النجاسة إلا الماء لفعله عليه الصلاة والسلام ]
ولكن الصحيح :
[ أن النجاسة متى ما زالت بأي مادة، حُكِمَ على هذا الشيء بأنه طاهر ]
وأدلةُ هذا القول ما يأتي :
الدليل الأول: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أزال النجاسة بغير الماء، سنُّتُهُ عليه الصلاة والسلام القوليّةُ والفِعليّةُ دلّت على أن النجاسةَ قد تُزالُ بغيرِ الماء، وذلك كاستجماره عليه الصلاة والسلام بالأحجار .
الدليل الثاني : قوله عليه الصلاة والسلام كما عند أبي داود :
(( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه ))
الدليل الثالث : ما جاء عند أبي داود قال عليه الصلاة والسلام :
(( إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه ))
وفي رواية :((بخفيه فليدلكهما بالتراب ))
الدليل الرابع : ما جاء عند أبي داود :
(( لما قالت المرأة: يا رسول الله إنا نمر على أرض منتنة فإذا أمطرت السماء فإن ذيولنا ))
وهو ما نزل من الثوب
(( تصيبها ، فقال عليه الصلاة والسلام : أليس بعدها )) أي: بعد الأرض المنتنة
( ( أليس بعدها أرضٌ طيبة؟ قالت : بلى
فقال عليه الصلاة والسلام : هذه بهذه ))
والأحاديث كثيرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانيا : أن النجاسة عين مستقذرة مستخبثة، متى ما زالت زال حكمها
ولذا/ كما هو الشق الثاني من هذه المسألة
ولذا : [ هي من باب التروك لا تفتقر إلى النية ]
كيف؟ مثال: لو أن ثوبك نجس وجاءت زوجتك وهي لا تعلم فغسلته، فهل يطهر؟
الجواب: نعم يطهر مع أنها لم تنو.
مثال آخر: ثوبك متنجس وجاء المطر فغسله فهل يطهر؟ الجواب: نعم يطهر.
أما الجواب عن دليل القول الآخر فنقول:
إن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما استعمل الماء في غالب أحيانه لأن الماء أسرعُ في إزالة النجاسة ولأن إزالة النجاسةِ بالماء أيسرُ وأسهلُ على الإنسان لا سيما في ذلك الزمن
وكونُه عليه الصلاة والسلام يستعمل في غالب أحيانه في إزالة النجاسةِ بالماء لا يدلُّ على نفي ما عدا الماء.
ـــــــــــــــــــــــــــ
من مسائل الطهارة:
مسألة: [ يُكرهُ ماءُ بئرِ ذَروان وبئرِ بِرهَوت وآبارِ ديارِ ثمود غير بئر الناقة]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح: هذه المسألة لها ثلاثةُ فروع:
الفرع الأول : كراهةُ ماءِ بئرِ ذَروان
وسببُ الكراهة :
أن هذه البئرَ وُضِعَ فيها شُعيرات النبي صلى الله عليه وسلم التي سُحِرَ بسببها
الفرعُ الثاني: كراهةُ ماءِ بئرِ بِرهَوت
وسببُ الكراهة: أن هذه البئرَ -كما ذَكر ابنُ الأثير- تُلقى فيها أرواحُ الفُجّار.
الفرعُ الثالث: كراهةُ ماءِ آبار ديارِ ثمود ما عدا بئرَ الناقة
وسببُ الكراهة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين :
(( مر بديار ثمود فدخل بعض الصحابة واستَقوا من الآبار ، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع لما مر بهذه الديار ) )
وهذه عادتُه عليه الصلاة والسلام في المواطن التي أنزل الله بها عذابَه على أعدائه .
(( فغضب عليهم عليه الصلاة والسلام، قال : أتدخلون على هؤلاء المعذبين ؟ إن الله لا يعبأ بكم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم
فأمرهم أن يريقوا هذه المياه إلا المياه التي استُقِيَت من بئر الناقة )) – وتعرفون أمرَ الناقة لمّا عقَروها-
والصحيح : أن ماءَ بئرِ ذَروان لا يُكره لعدم الدليل ، ومثلُه ماءُ بئر بِرهَوت لعدم الدليل،
وما ذكره ابن الأثير فيه نظر، فمثلُ هذا يحتاجُ إلى دليل لأن هذا من الأمور الغيبية.
وموقعُ هذه البئر بحَضْرَمَوت.
والصحيح في آبار ديار ثمود: التحريم ما عدا بئرَ الناقة:
وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بإهراقها، وذلك إفسادٌ للماء، فدل على أن الأمر ليس محصورا في الكراهة
ومن العجائب في هذا الدهر:
أن تُقصَدَ هذه الأماكنُ للنزهة! فإذا كان الني صلى الله عليه وسلم يخشى على الصحابة من أن يُنزلَ اللهُ بهم عذابَه، وهم مَن؟! الصحابةُ الفُضلاء رضي الله عنهم، وقال: لا تدخلوها إلا أن تكونوا باكين،
فما ظنكم بمن هم في هذا العصر!
ـــــــــــــــــــــــــــ
مسألةٌ أخرى تتعلقُ بالطهارة:
وهذه المسألةُ لها ثلاثةُ فروع:
الفرع الأول : الماء المتغير بمجاورة ميتة
الفرع الثاني : الماء المسخن بالشمس
الفرع الثالث : الماء المستعمل في طهارة سابقة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ أما الفرع الأول : الماء المتغير بمجاورة ميتة.
حكمه: طَهور
مثاله : لو أن هناك إناءً وبجواره ميتة، ليس في هذا الماء شيءٌ من هذه الميتة، وإنما هذا الماء بجوار الميتة فتغيرت رائحتُه بمجاورته لهذه الميتة، فحكمه: طَهور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع الثاني : الماء المسخن بالشمس .
الصحيح : أنه لا يكره
خلافا لمن قال بالكراهة، وحُجّةُ مَن قال بالكراهة :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عائشة رضي الله عنها عن الماء المسخن بالشمس وقال:
( إنه يورث البرص) والصحيح : عدم الكراهة لعدم صحة هذا الحديث
وقد استوفى الحديث عنها ابن حجر رحمه الله في كتابه تلخيص الحبير، والألباني رحمه الله في كتابه إرواء الغليل ، وحكما على هذه الأحاديث الواردة في الماء المسخن بالشمس حكما عليها بالوضع وعلى بعضها بالضعف الشديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع الثالث: الماء المستعمل في طهارة سابقة
وصورة هذه المسألة:
[ أن يتوضأ شخص فيغسِلُ وجهَه ويديه ويمسح رأسه ويغسل قدميه، وما نزل من هذا الماء يقع في إناء، فهذا الماء استُعمِلَ في طهارةٍ سابقة
فلو أتى شخص واستعمل هذا الماء، فهل يرتفع حدثه؟
الجواب/ بعض العلماء يرى أنه لا يرتفع حدثه، لأن هذا الماء من القسم الثالث من أقسام المياه وهو الطاهر.
وبعض العلماء ــ وهو الصحيح ــ يرى أن هذا الماء طَهور ولا دليل على سلبه الطَهورية
فالأصل صحةُ الوُضوء به ولم يرد دليلٌ على المنع .
وهذه المسألة وأشباهُها هي بمثابة المسائل الفرعية التي تفرعت عن مسألة أقسام الماء .
والصحيح : كما سلف أن الماء ينقسم إلى قسمين: طَهور ونجس
ـــــــــــــــ
وهناك صورةٌ أخرى ليست داخلةً في هذه المسألة:
وهي مسألة: فيما لو اشترك اثنان في الوُضوء من إناء أو في الغُسل من إناء، تختلفُ أيدِيهِم في هذا الماء، فهذه الصورةُ غيرُ داخلة في محل النزاع، وذلك لأن عائشة رضي الله عنها أخبرت أنها تغتسِلُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن إناءٍ واحد تختلف فيه أيديهم من الجنابة.