بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (119) من الفقه الموسع
من شروط صحة الصلاة: النيَّة
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المسائل:
[نيةُ الإمام الإمامة؛ ونيةُ المأموم الإئتمام؛ شرطٌ من شروط حصولِ ثوابِ أجرِ صلاةِ الجماعة]
وصور الانتقال في الصلاة
ومسألة: إن انفرد مؤتم بلا عذر بطلت صلاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أولا/ مسألة:
نية الإمام (للإمامة) ونية المأموم (بالائتمام) شرط من شروط حصول أجر صلاة الجماعة:
لقوله ﷺ كما في الصحيحين: ” إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلَّ امْرِىءٍ مَا نَوَى “
لكن: أنيةُ الإمام (للإمامة) ونية المأموم (بالإئتمام) شرطٌ مِن شروط صحة الصلاة؟
الجواب المسألةُ فيها خلاف:
فالمشهور من المذهب: أنها شرط من شروط صحة الصلاة، ويستدلون على ذلك:
بما جاء في الصحيحين قوله ﷺ: ” إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ “، وهذا اختلافٌ على الإمام.
القول الثاني: صحةُ الصلاة، ويستدلون على ذلك:
بما جاء في الصحيحين: “أن النبي ﷺ كان يصلي ذات ليلة في رمضان فائتم به بعض الصحابة وهو لا يعلم بحالهم”
ومِثلُ هذا حصلت نيةُ الإئتمام من المأموم؛ ولم تحصل نيةُ الإمامة من الإمام.
الدليلُ الثاني: أن المقصودَ هو المتابعة، والمتابعةُ قد حصلت؛ فإن هذا المأموم لم يختلف عن إمامه.
وأما ما استدلوا به: فإن النبي ﷺ قال: ” فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ “، ولم يقل: “فلا تختلفوا عنه”
لأن “عن ” تفيد المجاوزة؛ فيكونُ المأموم قد جاوز إمامَه في كل شيء حتى في النية،
ولو فَعَل لخالَفَ الحديث، لكن لما قال: ” فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ “، دل على أن المقصود من الاختلاف عن الإمام هو اختلافُ الأفعال، بدليل ما بعده إذ قال: ” فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ” الحديث
ولكن مع صحة الصلاة: أيكونُ هناك أجْرٌ للمأموم؟
ج/ نعم؛ يكونُ له أجر لأنه نوى، ولكن الإمام ليس له أجرُ صلاةِ الجماعة لعدمِ وجود النية:
” وَإِنَّمَا لِكُلَّ امْرِىءٍ مَا نَوَى “
وأما على قول المذهب: فإن صلاة المأموم لا تصح؛ لأنه خالف إمامَه.
وأما بالنسبة إلى صلاة الإمام: فتصح؛ لكنه لا يحصُلُ على ثوابِ صلاةِ الجماعة.
إذاً: لا يمكن أن تصح الصلاة على رأي المذهب إلا إذا اتفقت نيةُ الإمام للإمامة؛ ونية المأموم للإئتمام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: [من صور الانتقال في الصلاة]
أن ينتقل الإمامُ إلى الائتمام، وذلك كأن ينيبَ الإمامُ شخصاً ويُحرِمَ هذا الشخصُ بالصلاة، ثم يأتي هذا الإمام فيتراجع هذا الإمام الذي هو النائب، ويتقدم هذا الإمام الراتب فيُكمِل الصلاة.
دليلُ هذه المسألة:
ما جاء في الصحيحين: أن النبي ﷺ في مرض موته أنابَ أبا بكر، فلما وجد نشاطاً وخِفّةً أتى فصلى بهم وأبو بكرٍ عن يمينه، وجعل أبو بكرٍ يكبر بتكبيرِ النبي ﷺ “
فهنا انتقلَ أبو بكر -رضي الله عنه- من الإمامة إلى الائتمام
وهذه يُجيزُها المذهب شريطةَ أن يكون هذا الإمام هو الراتب
أما لو جاء شخصٌ هو أقرأ وأعلم وأحسن صوتاً مِن هذا الإمام: فليس لهذا الإمام أن يتأخرَ؛ وأن يقدم هذا الأفضل؛ وذلك لأن النص جاء في شأنِ الإمام الراتب.
وبعض العلماء: يرى الجوازَ مطلقا؛ لأنه لا فرقَ بين الإمامِ الراتب وغيره، فليس هناك دليلٌ يخصُّ الإمامَ الراتب، وإنما هذه واقعة حصلت اتفاقاً لا قصداً. وهذا هو الصحيح.
وبالتالي: فإن هذا الإمام يصلي خلفَ هذا المُقَدَّم إذا وَجَدَ مكاناً في الصف،
وإذا لم يجد: فليكُن عن يمينه؛ كما صنع أبو بكر -رضي الله عنه-.
ــــــــــــــــــــــــ
ومن هنا يمكن أن نعرفَ صورَ الانتقال:
فمن صور الانتقال: انتقالُ المأموم إلى الانفراد -وهذه مرت معنا-
الحالةُ الأولى: إذا انفرد المأمومُ عن إمامِه لعذر.
الحالة الثانية: إذا كان على هذا المأموم ركعاتٌ فائتة؛ فإنه سينتقلُ بعد سلامِ إمامِه إلى حالةِ الانفراد.
الحالة الثالثة: إذا لم يستخلف الإمام؛ فإنهم يصلون فُرادى.
من صور الانتقال في الصلاة: الانتقال من الائتمام إلى الإمامة، ومن حالاتِها:
الحالة الأولى: أن يتفقَ مسبوقان إذا سلّمَ الإمام أن يكون أحدُهما هو الإمام والآخَر هو المأموم.
مثال: أن يقول أحدُهما للآخر قبل أن يدخل في الصلاة: إذا سلم الإمام فأنت الإمام وأنا المأموم وسأتابِعُكَ. اختلف فيها العلماء: القول الأول: يقول بعدم الجواز:
الدليل الأول: أن هذا ليس معهودا في عصر النبي ﷺ؛ ولا في عهد الصحابة أنهم يفعلون هذا.
الدليلُ الثاني: أن الانتقال هنا سوف يكونُ انتقالا من الأدنى إلى الأعلى، ومِثلُ هذا لا يُجَوَّزُ
-لا يُجاز-؛ ولذلك -مرت معنا مسائل- منعوها من أجل أن هناك انتقالاً مِن أدنى إلى أعلى.
القولُ الثاني: وهو المشهور عن المذهب: أن هذا يجوز
ويقولون: نحن لا نقول بالاستحباب وإنما نقولُ بالجواز، وفرقٌ بين الاستحباب والجواز.
والصحيح: عدم فِعلِ هذا؛ لأنه ليس مِن السنة المعهودة، فَتَرْكُها أوْلَى، لكن لو فَعَلَ فلا تُبطَل صلاتُهما.
الحالةُ الثانية: أن يستخلف الإمامُ مأموما قبل أن يُحدِث.
كما لو أوشَكَ الحدثُ أن يسبِقَ الإمام؛ فَقَدّمَ واحداً مِن المأمومين لإتمامِ صلاةِ الجماعة، فهذه حالةٌ انتقال المأموم إلى الإمامة،
واشتُرِطَ هنا أن يكونَ قبل الحَدَث، فإن كان بعد الحدث: فتبطُلُ صلاتُه وصلاةُ مَن خَلْفَه،
وهذا هو المشهور من المذهب؛ وذلك لأن صلاةَ المأموم مرتبطةٌ بصلاة الإمام
وبالتالي: فإنه لا يحِقُّ له أن يستخلفَ أحداً، ولا يُستثنى مِن ذلك شيءٌ عندهم إلا:
إذا صلى الإمامُ مُحدِثاً ونَسِيَ أو جَهِلَ حَدَثَه ولم يعلم بالحَدَث، أو لم يذكُر الحَدَث إلا بعد السلام؛ فلا تلزمهُم الإعادة، وإنما تلزمُه هو، ويستدلون على ذلك بقصةٍ حصلت لعمر -رضي الله عنه- “أنه صلى وهو محدث ولم يتذكر إلا بعد الصلاة، فلم يُعد أحدٌ صلاتَه وإنما الذي أعاد هو عمرُ -رضي الله عنه-
فيكونُ مَصَبُّ رأيهم: أنه لو استخلَفَ قبل خروجِ الحدث: فصلاتُهم صحيحة؛ وله أن يستخلف،
أما بعد الحدث في أثناء الصلاة: فلا يستخلف وصلاتُهم باطلة.
القولُ الثاني: أن صلاتَهم صحيحة؛ سواءٌ أحدَثَ في الصلاة؛ أو كان عِلْمُه بعد الصلاة، وهذا هو رأيُ شيخِ الإسلام -رحمه الله-، وعليه أن يستخلف في مثل هذه الحال، والدليلُ على ذلك ما يأتي:
أولا: عدمُ الدليلِ على البُطلان؛ والأصل: صحةُ الصلاة، فأين الدليلُ على بُطلانِها مع عدمِ وجودِ مُبطِل منهم لهذه الصلاة.
ثانياً: أن ما استدللتُم به في قصةِ عمر -رضي الله عنه- فقد جاء ما يؤكدُ صحةَ صلاةِ المأمومين سواءً أحْدَثَ في أثناء الصلاة مع عِلْمِه؛ أو كان عِلْمُه بعد الصلاة
فقد جاء عند البخاري -رحمه الله- “أنه -رضي الله عنه- لما طُعن تكلم وقال: ” أَكَلَني الكَلْبُ ” واستخلف بعدها عبدَ الرحمن بن عوف ليُتم بالناس الصلاة”
وهذا هو الصواب، ولا يُستدلُّ بقصة عمر السابقة التي استدلوا بها على بُطلان الصلاة إذا استخلَفَ بعد الحدث؛ لأنها وقعت اتفاقاً لا قصداً.
ولكن لو قال قائل: إذا لم يستخلف؟
فالجواب: يتقدمُ أحدُهم ممن كان قريباً مِن الإمام.
وإذا لم يتقدم أحد؟ أو جهِلوا ما يصنعون؟ فإنهم يصلون فُرادى، كلٌّ يُكمِلُ صلاتَه بنفسِه
وقد احتج الإمامُ أحمد -رحمه الله- على ذلك “بأن معاوية -رضي الله عنه- لما طُعن صلى من خلفه وحدانا” أي فُرادى.
ولو قال قائل: أليس لصلاة الإمام تأثيرٌ في صلاة المأموم؟
فالجواب: نعم لها تأثير، بدليل قول النبي ﷺ ” الإِمَام ضَامِن “، لكن ليس هذا على إطلاقه، هو ضامنٌ في مسائلَ معينة نص عليها الشرع، وإلا فقد جاء عند البخاري قوله ﷺ:
” يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَأُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ “.
وبالتالي: فإن صلاة المأموم لا تَبطُل ببطلان صلاةِ إمامِه إلا في حالةٍ واحدة، وهي:
في حالة ما إذا قَطَعَ صلاةَ الإمام امرأةٌ أو حمارٌ أو كلبٌ أسود، وهذا على القول الذي يقولُ ببطلان صلاةِ المصلي إذا مَرَّ هؤلاء الثلاثة؛ أو مر أحدُهم أمامَه
لأن المسألة خلافية -كما سيأتي إن شاء الله –
ولذا: لو مرت امرأةٌ، أو مَرَّ حمار، أو مر كلبٌ أسود؛ ما بين الإمام وسُترتِه: بطلت صلاتُه وصلاة مَن خَلْفَه، ولذا: لا يجوزُ للمأموم أن يتخذَ سُترةً -وسيأتي معنا إن شاء الله-حديثٌ عن السترة مفصلاً.
لو قال قائل: في مسألة انتقال المأموم إلى انفراد لعُذر: لو أنه انفرد لعذرٍ ثم زال هذا العذر؛ وأراد أن يعودَ إلى إمامِه فيكونُ مأموما -فهذه صورةُ انتقال مِن انفراد إلى ائتمام- أيجوزُ هذا؟
الجواب: نعم يجوز.
ولكن: لو أنه سبق هذا الإمام بركعة، ماذا يفعل؟
فله في مثل هذه الحال إذا قام الإمامُ إلى إتمامِ صلاتِه في الركعةِ الأخيرةِ التي له، الواجبُ عليه أن يجلس، وهو مُخَيَّر: بين أن ينتظرَ إمامَه حتى يسلمَ معه؛ وبين أن يسلم وينفردَ عنه
وبالتالي: حصلت أمورٌ هنا:
الانفراد حصل مرتين، والائتمام حصل مرتين، فإنه في أولِ الأمْر كان مأموماً؛ ثم انفرد لعذر؛ ثم زال هذا العذر فدخل مع إمامِه فصار مأموماً؛ ثم لما جلس أراد أن يأخذَ بالخِيار الثاني، وهو أن يسلم فانتقل من الائتمام إلى الانفراد -وهذا على ما رجحنا-
أما المذهب: -فكما سبق معنا- رأيُه في هذه المسألة
ويمكن أن يُلغَز بها فيقال: [رجلٌ صلى صلاةَ فَرْضٍ انفردَ فيها مرتين؛ واأتم فيها مرتين؟
صحت صلاتُه على المُرَجّح].
وبهذا انتهينا مِن شرح شروط الصلاة، وتم شرح شرط النية،
ونشرع إن شاء الله في شرح صفة الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ