بسم الله الرحمن الرحيم
الفقه الموسع – باب المياه – الدرس الثاني عشر
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة/ [سؤر ما يطوف علينا طاهر ويستثنى من ذلك الكلب سواء المرخص في اقتنائه أو غيره
وكذلك طهارة سؤر سباع البهائم والطيور على القول الصحيح]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ السؤر: هو ( بقيةُ وفَضْلَةُ طعامِه وشرابِه )
فلو كان هناك مثلا إناء فيه ماء، فشَرِبَ منه هِر، فما بَقِيَ مِن هذا الماء فإنه طاهر
فتكون المسألة:
[ أن سؤر ما يطوف علينا طاهر كسؤر الهرة والحمار والبغل ونحو ذلك،
ويُستثنى من ذلك الكلب فقد أُخرِجَ بالدليل السابق كما جاء عند الجماعة :
” طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ “
ولو قال قائل : ما حكم سؤر ما لا يطوف علينا؟
الجواب/ أنه غيرُ طاهر
لكن لو قال قائل : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجه :
(( سئل عن آسار السباع فهي تنوب الماء في الفلاة )) آسار: جمع سُؤر
فقال عليه الصلاة والسلام : (( لها ما حملت في بطونها ولنا ما غَبَر طَهور ))
ما غبر: يعني ما بَقِيَ
وهذا الحديث : اختلف العلماء في ثبوته فمن مصحح ومن مضعف
ونشأ عن هذا خلاف بين العلماء :
فقال بعض العلماء : إن هذا الحديث ضعيف، فتكونُ آسارُها نجِسة، ويعضُدُنا قولُ النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن لما سُئل عن الماء في الفلاة، وما ينوبُه من السباع قال:
(( إذا كان الماء قُلتين لم يحمل الخَبَث)) ولم يقل عليه الصلاة والسلام إنها طاهرة.
القول الثاني: أن آسارها طاهرة،
لقوله عليه الصلاة والسلام : (( لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور ))
وهو حديث له شواهد يرتقي إلى درجة الحسن لغيره ،
ولأن المشقة ولاسيما على أهل البادية تدعوهم إلى التسامح في هذا لاسيما مع وجود هذا الدليل ،
والمشقةُ تجلِبُ التيسير، وهذا رأيُ أكثرِ العلماء، وهو الراجحُ إن شاء الله .
أما قولهم: ” إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )) ولم يذكر أنها طاهرة )
فالجواب/ أن عدم قولِه إنها طاهرة لا يعني أنها نجِسَة ، وإنما حديثه عن الماء، وقد قال في السنن كما سبق في حديث بئر بُضاعة قال : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ))
فليس الحديث آتيا لبيان حكم آسار هذه البهائم ، إنما جاء لبيان حكم الماء، وأن الغالب إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث وإلا فقد يحمِلُه
والغالب أن ما دون القلتين أنه يحمل الخَبَث وقد لا يحمِلُه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة/ [ الصحيح أن مني الآدمي طاهر ]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ [ المني ] :
بالنسبة إلى الرجل :
هو ماءٌ أبيضٌ غليظ، يخرج عند الجماع أو الاحتلام
أما بالنسبة إلى المرأة :
فهو ماءٌ يميلُ إلى الصفرة، ويخرج عند الجماع أو الاحتلام
وهذا المني اختلف العلماء في طهارته أهو طاهر أو نجس؟
المسألة لا تخلو من ثلاثة أقوال :
القول الأول : إنه نجس، ويستدلون على ذلك بما جاء في الصحيحين :
(( أن عائشة رضي الله عنها كانت تغسل الرطب منه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
فغَسْلُها له يدُلُّ على نجاسته، ولأن هذا المني يخرج من نفْسِ مَخْرَجِ البول، والبول نجِس .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الثاني: أن الرطب منه نجس، وأن اليابس طاهر
ودليلهم: ما جاء في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها كانت تغسل الرطب من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرُكُ اليابس ،
فكونها رضي الله عنها تخصص الرطب بالغَسل دون اليابس هذا فيه دليلٌ على نجاستِه رَطْبًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الثالث: أنه طاهر سواءٌ كان رطبا أم يابسا
وهذا القول الصحيح ، لما يأتي :
أولا : أن الأصل براءة الذمة فليس هناك دليل صريح في نجاسته.
ثانيا : حديث عائشة رضي الله عنها في غَسْلِها للرطب وفَرْكِها لليابس، فلو كان نجِسًا لما اكتفت بفَرْكِ يابِسِه لأن الفَرْكَ لا يُعد تطهيرا، ولذا لما أمر صلى الله عليه وسلم بغسل دم الحيض قال: ” تَحُتُّهُ ثُم تَقْرُصُه بالماء ” فهو لم يقتصر على الحت بل أضاف القرص بالماء، فلو كان الفرك المجرد كافيا لأرشد إليه عليه الصلاة والسلام
ثالثا : أن أصل عباد الله المخلصين من النبيين والصديقين ونحوهم من هذا الماء، وتأبى حكمة الله عز وجل أن يكون أصلُ هؤلاء نجِسا فهم شرفاء، فلا يكونُ أصلُهم غيرَ شريف.
والعمدةُ في هذا صنيعُ عائشة رضي الله عنها، وهذه تأنيسات.
أما من يقول بنجاسته :
فيرد عليهم بصنيع عائشة رضي الله عنها
وكذا: يُرد بصنيع عائشة رضي الله عنها على مَن فَرّق بين الرطب واليابس إذ لا وجه للتفريق بينهما.
ولذا :جاء حديث يحسنه بعض العلماء حديث يقول: ( إنه بمنزلة المخاط ) ومخاط الآدمي طاهر،
والدليل على طهارته :
حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم : (( إذا تنخع أحدكم فلا يتنخع عن يمينه وإنما عن يساره أو تحت قدمه ثم قال عليه الصلاة والسلام : (( وإلا يقول به هكذا ” أي: تَفَلَ في ثوبِه وفَرَكَهُ.
وغَسْهُا رضي الله عنها للرطب بمنزلة غَسْلِ المُخاط
ولذا : قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث السابق قال : (( فليقل هكذا ))
ولم يأمر عليه الصلاة والسلام المصلي أن يتنخع ويدعه، وإنما أمره أن يفركه حتى تتفرق أجزاؤه،
وذلك لأن المسلم مطلوب منه أن يظهر بصورة حسنة
وهناك ما يشابه المني وهو [الودي]:
وهو نفْسُ المنيّ، إلا أن المني يخرُجُ مع الشهوة في حال اليقظة،
وفي حال النوم يخرج بشهوة أو بدون شهوة
أما الودي: فهو في حال اليقظة لا يخرج بشهوة، وكثيرا ما يكون مع البول، فيَسبِقُ البول أو يتأخرُ عنه وحكمه: أنه نجِس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة/ [الصحيح: أن المذي يُغسل منه الذكر والأنثيان، وما أصاب غيرَهما من البدن فيُغسل.
أما الثياب فتُنضح على القول الصحيح]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ [ المذي ] :
هو ماءٌ رقيق بين الصفرة والبياض يخرج قبيل الشهوة أو قبيل الجماع أو عند مداعبة الرجل لزوجته.
وهذا المذي: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ــ كما في الصحيحين ــ يشتكي من كثرته قال :
(( كنت رجلا مذّاءً)) ــ وهذه صيغة مبالغة ــ : ( ( فكنت أغتسل كلما خرج مني حتى تشقق جلد ظهري ــ أي من شدة البرد ــ فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت عمارا أن يسأله فقال عليه الصلاة والسلام : يغسل ذكره ويتوضأ ))
قد جاء في بعض الروايات : (( أنه أمر المقداد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
وجاء في بعض الروايات : (( أنه سأل بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
قال ابن حجر رحمه الله :
[ جمع بعض العلماء بين هذه الروايات فقال : ( إنه أمر عمارا ثم أمر المقداد ثم سأل بنفسِه ]
لكنه قال : [ يعكر على الجملة الأخيرة أنه قال :(( استحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته )) لأن تحته فاطمة رضي الله عنها،
إلا أن يُحمل في سؤاله عليه الصلاة والسلام أنه هو الآمِر] هذا كلامُه رحمه الله
ويمكن أن يكون هو سأل، فلما سأل عمار الرسول صلى الله عليه وسلم خّفّ هذا الاستحياء، وزادَ بسؤال المقداد؛ وعلى كل حال هذه مسألة تتعلق بالحديث:
فقال عليه الصلاة والسلام : (( يغسل ذكره ويتوضأ ))
الصحيح أن (( ذكر )) هنا مفرد أضيف إلى معرفة وهو الضمير
والمفرد إذا أضيف إلى معرفة فيفيد العموم كما هو مقرر في الأصول،
فيكون الواجب :
غَسْلَ جميعِ ذَكَرِه دون الاقتصارِ على مَوضِعِ إصابةِ المذي منه
خلافا لمن قال :
[ إنه يكتفي بغَسْلِ ما أصاب ذَكَرَه مِنه ]
وقد جاء عند أبي داود زيادة : (( يغسل ذكره وأنثييه )) وهما الخصيتان،
ومن هذه الزيادة نشأ خلاف بين العلماء هل تغسل الأنثيان أم لا تُغسل ؟
قال بعض العلماء : لا تُغسل فلا وجه لغسلها، وهذه زيادة شاذة ولذا لم ترد في الصحيحين.
وقال بعض العلماء: بل هي زيادة محفوظة مقبولة، وزيادة الثقة مقبولة كما هو مقرر في المصطلح.
وممن صححها : ابن حجر وابن القيم والألباني رحمهم الله .
والثقة لم يخالف من هو أوثق منه حتى يقال بالشذوذ إنما أتى بزيادة
ولذا :
عمر رضي الله عنه لما خطب على المنبر وذكر حديث : (( إنما الأعمال بالنيات )) لم يَروِه عنه إلا عَلْقَمَة ومع ذلك فتَفَرُّد علقمة لم يُضَعِّف هذا الحديث،
مع أن غير علقمة وهو ثقة، مع أن غيره سَمِعَه ولم ينقله؛
والصحيح أنها زيادة مقبولة
ومن ثم فلو قال قائل : ما الحكمة من غسل الأنثيين مع أنه لم يصبها أذى ؟
الحكمة هي أمْرُ الشرع – وسبق الحديث عن ذلك –
وقد استنبط العلماء بعضَ الحكم :
فقال بعض العلماء : إن غسلهُما من باب الاحتياط، وذلك لأن المذي يكثر انتشاره، فيُحتاطُ مع غَسْلِ الذكر غسل الأنثيين .
وقال بعض العلماء : إن في غسْلِ الأنثيين تخفيفا من خروجه.
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( اغسل ذكرك وتوضأ )) :
يفيد بأن الواجب في تطهير المذي الغَسل، ولا يُكتفى فيه بالنضح الذي هو الرش .
وقد قال بعض العلما : إن النضح مجزئ
لما جاء عند الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (( ما يصيب الثوب منه؟
قال عليه الصلاة والسلام : (( إنما يكفيك أن تنضحه بالماء فتعلم أنه أصابه ))
فإذا أجزأ النضح في الثياب فكذلك في البدن .
والصحيح حتى نجمع بين الأحاديث أن يقال :
[ ما أصاب البدن منه فيجب الغَسل، وأما ما أصاب الثياب فيكفي فيه النضح، جَمْعا بين الأدلة،
لأن القاعدة الأصولية تقول :
[ إعمالُ الدليلين أولى من إلغاء أحدِهما ]
وأما التفريق بين الثوب والبدن :
فهو تفريقٌ جاء من الشرع، وما علينا إلا السمع والطاعة
وقد يُستنبط وجهٌ في هذا التفريق، وهو أن يقال :
إن المذي سريع الانتشار، فوضوحُه بالبدن وكذا انتشارُه أقل منه في الثوب، فللزوجته قد يُشعَرُ به في البدن ما لا يُشعَرُ به في الثياب،
وحسْبُنا ما جاءت به النصوص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ