بسم الله الرحمن الرحيم
الفقه الموسع – الدرس الرابع عشر – باب الآنية
فضيلة الشيخ زيد البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: [ يباح من الفضة: الإناء إذا انكسر فضُبب بضبة يسيرة لحاجة ولغير قصد الزينة]
الشرح/ مضى معنا في المسألة السابقة تحريم الذهب والفضة
وجاء في هذه المسألة استثناءُ شيء مما سبق في تحريم الفضة
وهذا الشيء هو:
الضبةُ اليسيرة من الفضة يجوز أن يُصلَحَ بها الإناء إذا انكسر
والدليل على هذا الاستثناء: ما جاء في صحيح البخاري :
عن أنس رضي الله عنه قال :
” أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ ﷺ انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ “
وإباحةُ هذه الضبة مشروطة بشروط :
أولا: أن تكون ضبة يسيرة فيقتصر على مورد النص لأن السلسلة بالنسبة إلى الإناء شيءٌ يسير
ثانيا: أن تُستخدم للحاجة لا للضرورة وذلك لأن الضرورة يجوز معها المحرم، فأقل من الضرورة الحاجة، فمتى ما احتاج إلى استعمالها فيجوز حتى إذا كان عنده ما يصلح به الإناء كالحديد والنحاس ونحوهما، والدليل :
أن انكسار القدح ومن ثم إصلاحَه حاجة وليست ضرورة
وعندنا في الأصول :
[ الضروريات – ثانيا/ الحاجيات – ثالثا/ التتميمات وهي ما تسمى بالتحسينات]
فهذا الفعل ليس من الضروريات ولا من التحسينات بدلالة وجود الكسر، ولم يتخذها عليه الصلاة والسلام قبل انكسار الإناء، فتكون من الحاجيات ومن ثم :
فتستثنى صورة من صور الحاجيات:
وهي صورةُ الزينة، فله أن يضع هذه الضبة إذا وُجِدَت الحاجة شريطة ألا تكون هذه الحاجة للزينة
فإن كانت للزينة فلا يجوز .
وهذا يدل: على أن الأصل في تحريم الفضة هو الحُرمة لا الحل كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فهو يرى أن الأصل في الفضة الحل، ولكن الصحيح: أن الأصل فيها التحريم .
وقد اشترط بعض الفقهاء :
ألا يباشرها أثناء الشرب فإن باشر موضع الفضة في حال الشرب فإنه يكره إلا لحاجة
والصحيح: أنه لا يكره لأن الكراهة حكم شرعي يتطلب في إثباته دليلا .
فالصحيح: أنه يجوز مباشرتها ولو من غير حاجة، فمتى ما وجدت الحاجة فيجوز عندهم وذلك كأن يتدفق ويتقاطر الماء من غير موضع الفضة فيحتاج إلى الشرب من موضعها
للقاعدة الفقهية: [ المكروه تبيحه الحاجة ]
والصحيح :
كما سلف الجواز مطلقا فلم يرد عنه عليه الصلاة والسلام أنه توقى هذه الضبة أثناء الشرب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: الجلود ثلاثة أقسام:
أولا/ـــ طاهر مطلقا: وهو جلد الحيوان المذكى بقطع حلقومه وأوداجه،
ثانيا/ جلود ما يؤكل لحمه إذا مات حتف أنفه فتطهر بعد الدبغ لا قبله، و بأي صفة دبغ فزالت النجاسة طهر
ثالثاــ نجس مطلقا على الراجح وهو جلد الحيوان غير المأكول، كـ ” الأسد ” مثلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح / هذه المسألة لها شقان:
الشق الأول: أن الجلد ثلاثة أنواع :
النوع الأول : جلد طاهر مطلقا وهو جلد الحيوان المذكى
والتذكية -كما سيأتي في باب الأطعمة مطلقا – التذكية تكون بقطع العرقين المسميين بالودجين إضافةً إلى قطع الحلقوم والمريء على خلاف بين العلماء في أقل إجزاء التذكية -وسيأتي الخلافُ في بابه إن شاء الله تعالى –
فالحيوان إذا ذُكي فإن جلده طاهر شريطة أن يكون هذا الحيوان مما يؤكل لحمه .
فإذا مثلا : ذُكيت الشاة فجلدها طاهر دبغ أو لم يدبغ، وذلك لأنها غير نجسة فإذا كان لحمها طيبا فجلدها من باب أولى .
النوع الثاني: جلود نجسة مطلقا وهذا على القول الراجح
والمسألة فيها خلاف، وقبل بيان الخلاف أذكر صورة من صور هذا النوع، فمثلا:
الأسد جلده على القول الراجح لا يطهر، وكذلك الفهد والخنزير ونحوهما، سواء ذكيت أم لم تذك
وقولنا : ” ذكيت تجوزا ” وإلا فلا يوصف ذبحها بقطع حلقومها ومريئها وودجيها لا يوصف هذا بأنه ذكاة، فسواء قطعت هذه الأشياء أم لم تقطع سواء دبغت هذه الجلود أم لم تدبغ
والدليل على رجحان هذا القول :
ما جاء في سنن أبي داود قوله عليه الصلاة والسلام: ” دباغ الأديم ذكاته “
فتقييده عليه الصلاة والسلام هذا الحديث بالذكاة يدل على أن ما عدا ما يذكى أن جلده نجس دبغ أو لم يدبغ، ويستدل أيضا إضافة إلى هذا الحديث بما جاء عند مسلم:
” أن ميمونة رضي الله عنها أهدي إليها شاة فماتت فرآهم النبي صلى الله عليه وسلم يجرونها فقال عليه الصلاة والسلام: (( هلا انتفعتم من إهابها )) أي من جلدها ؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال عليه الصلاة والسلام “: إنما حرم أكلها “
ومن الأحاديث: ما جاء في صحيح البخاري:
(( أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (( ماتت لنا شاة فدبغنا مِسْكَها ــ يعني جلدها ـــ فلم نزل ننتبذ فيه حتى صار شنا )) يعني خَلِقا .
وأما دليل من قال بطهارة جلد ما لا يؤكل لحمه إذا دبغ :
قوله عليه الصلاة و السلام كما عند مسلم: (( إذا دبغ الأديم فقد طهر ))
وقوله صلى الله عليه وسلم كما في السنن: (( أيما إهاب دبغ فقد طهر ))
وإهاب: نكرة في سياق الشرط فتعم أيَّ جلد، سواء كان جلد مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ،
ويجاب عن هذين الحديثين وشبيههما، أن القاعدة الأصولية تقول:
[ لا يتعارض خاص وعام فالعام يُخصص بالخاص ]
وهذه الأحاديثُ عامة فتخصص بما سبق ويؤيد هذا ما جاء في سنن أبي داود: (( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود النمار )) وفي رواية: (( عن جلود السباع ))
ومن العلل في هذا النهي : كونها لا تطهر ولو بعد دَبْغِها، لأنه عمم عليه الصلاة والسلام ولم يذكر تفصيلا بين حكم الدبغ وعدمه.
النوع الثالث: جلود ما يؤكل لحمه إذا مات حتف أنفه
وذلك كالشاة إذا ماتت فإن جلدها نجس
لكن: هل يطهر بعد دبغه أو لا يطهر؟
الصحيح من قولي العلماء: أنه يطهر
والدليل: ما سبق من قوله عليه الصلاة والسلام: (( هلا انتفعتم بإهابها ))
وما سبق من حديث أم سلمة .
أما قبل الدبغ فلا يجوز استعمالها إلا إذا كانت يابسة غير رطبة واستُخدم فيها يابس
للضابط السابق: ((جاف على جاف طاهر بلا خلاف ))
ولذا/ قال بعض العلماء : [ يجوز أن يستخدم مِنْخَلٌ نجِس في يابس ] للضابط السابق.
وأما المشهور من مذهب الإمام أحمد:
فيرى أنها لا تطهر، ما مات حتف أنفه كالشاة مثلا: فلا تطهر عندهم بعد الدبغ .
وقالوا: [ يجوز استعمالها في اليابس دون المائع ]
ويستدلون على ذلك بما جاء في السنن من حديث:
(( عبد الله بن عُكيم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى جهينة فقال: إذا أتاكم كتابي فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ))
فهذا الحديث صريح بأنه لا يجوز أن ينتفع من الميتة لا من إهابها ولا من عصبها،
وكلمة إهاب: نكرة في سياق النهي فتعم أي إهاب
والجواب عن هذا الحديث من عدة وجوه:
الوجه الأول/ قال بعض العلماء: ” إنه مضطرب ففي سنده اضطراب “
والمضطرب ضعيف لا تقوم به حجة
الوجه الثاني: أن عبد الله بن عُكَيم مختلف في صحبته، وإذا لم يكن صحابيا فيكون هذا الحديث حديثا مرسلا، ومراسيل التابعين مراسيل ضعيفة إلا عند بعض العلماء، فمراسيل كبار التابعين كسعيد بن المسيب، فمراسيل هؤلاء الكبار عندهم مقبولة، وخولف هذا القول وبيانه في علوم الحديث.
الوجه الثالث / على افتراض عدم اضطرابه وعلى افتراض ثبوت صحبة عبد الله، فإنه ليس في هذا الحديث نهي عن استخدام جلود الميتة بعد دبغها، وذلك كما قال شيخ الإسلام رحمه الله : [ من أن الجلد بعد الدبغ لا يسمى إهابا، إنما يسمى إهابا قبل دبغه أما بعد الدبغ فلا يسمى إهابا ].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشق الثاني من هذا المسألة: يتحدث عن كيفية تطهير ودباغ الجلد:
فالصحيح: أن الجلد متى ما دبغ فاندبغ (يعني طَهُر) أنه يُحكم بطهارته بقطع النظر عن نية الفاعل الذي هو الدابغ، وبقطع النظر عن مادة الدباغة
وهذا مبني على مسألة سابقة :
[ وهي أن النجاسة من باب التروك فلا تفتقر إلى نية ]
ومن ثم :
ــ لو وقع الجلد في مدبغة فاندبغ طهر
وكذا :
ــ لو أن الجلد وضعت فيه مادة يُظن عدم طهارة الجلد بها فطهُر: فإنه يُحكم بطهارته،
خلافا لمن قال لا يحصل الدباغ بتتريب ولا بتشميس
فمثل التراب والشمس يَندُرُ وقوعُ التطهيرِ بهما، ومع ذلك فالصحيح أن الجلد لو تطهر بهما طهر
وقد قال عليه الصلاة والسلام في الجلد : (( يطهره الماء والقَرَظ ))
والقَرَظ: هو حبيبات شجر له قوة فعالة في تطهير الجلود
سؤال: ما ضابط طهارة الجلد؟
الجواب: ضابط طهارة الجلد لا يحتاج إلى جواب، فالجواب قد سبق، وهو أنه متى ما زال أثر النجاسة زال حكمها، وهذا يعرفه أهل الخبرة .