الدرس ( 19 ) باب آداب الخلاء الجزء (4 ) (حكم استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء و البنيان حال قضاء الحاجة)

الدرس ( 19 ) باب آداب الخلاء الجزء (4 ) (حكم استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء و البنيان حال قضاء الحاجة)

مشاهدات: 986

بسم الله الرحمن الرحيم

الفقه الموسع – الدرس التاسع عشر

فضيلة الشيخ زيد البحري

[ آداب الخلاء ]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

مسألة: [يحرم استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء

أما في البنيان فالأحوطُ تَرْكُ ذلك]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشرح/ هذه المسألة تعارضت فيها الأدلة، والأدلة فيها قوية جداً:

فالوارد فيها ما جاء في الصحيحين :

من حديث أبي أيوب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ:

(( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا  ))

قال: (( فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت تجاه القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله ))

 

ومنها ما جاء عند مسلم: من حديث سلمان ( نهانا رسول الله ﷺ أن نستقبل القبلة ببول أو غائط )

 

ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما:

قال: ( رقيتُ بيتَ حفصةَ ذاتَ يوم فرأيت النبي ﷺ يقضي حاجته مستقبلَ الشام مستدبر الكعبة )

 

ومنها: ما جاء في سنن أبي داود: ” أن ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته واستقبل القبلة وهو يبول فقيل له : “ألم يُنه عن ذلك ؟ فقال رضي الله عنه: ” بلى قد نهي عنه في الفضاء أما في البنيان فلا “.

 

ومنها: ما جاء في سنن أبي داود عن جابر رضي الله عنه قال:

( رأيت النبي ﷺ يبول مستقبل القبلة قبل وفاته بعام )

 

فهذه الأحاديث لقوتها وتعارضها ظاهرا، أصبح للعلماء فيها أقوال:

القول الأول:

يقول بعض العلماء: [إن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة محرم ] وذلك لحديث أبي أيوب .

 

القول الثاني:

يقول بعض العلماء: إن التحريم خاص بالفضاء ، أما في البنيان فيجوز

ويستدلون على ذلك : بحديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وبفعل ابن عمر رضي الله عنهما

وبحديث جابر عند أبي داود:

( ( نهانا رسول الله ﷺ أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل وفاته بعام يستقبلها ) )

 

القول الثالث:

يقول بعض العلماء: يحرم في الفضاء مطلقا ويحرم في البنيان شيء واحد وهو [ الاستقبال ]

أما الاستدبار في البنيان: فيجوز

والدليل : هو الجمع بين أحاديث المنع المطلقة، وبين حديث ابن عمر رضي الله عنهما من فعله عليه الصلاة والسلام  .

 

القول الرابع:

يقول بالكراهة، وذلك لأن الأحاديث متعارضة في ظاهرها فلا يكون الحكمُ تحريما وإنما يكون كراهةً  فنُهي عنه من باب التنزه، وفُعِلَ لبيان الجواز .

 

وممن يرى القول الأول: شيخ الإسلام رحمه الله

ويقول أصحاب هذا القول : ” لو كانت العلة في تجويز هذا الأمر في البنيان هو الحائل ( وهو ما يحول بينك وبين القبلة ) لصدق ذلك حتى على الفضاء لأنك في الفضاء أمامك حوائل تجاه القبلة من شجر وجبل ونحو ذلك “

 

ويجيبون عن فعل ابن عمر رضي الله عنهما :

من أنه معارض بفعل أبي أيوب رضي الله عنه إذ قال:

(( لما قدمنا الشام وجدنا مراحيض بنيت تجاه القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله ) )

وهذه في حالة بنيان، فعدّها أبو أيوب رضي الله عنه من الحالات المنهي عن استقبال القبلة واستدبارها في البنيان، فعدَّ هذا الفعلَ منهيا عنه.

 

ويجيبون عن حديث ابن عمر رضي الله عنهما: من أن هذا فِعلٌ مِن النبي ﷺ

والقاعدة في الأصول: أنه إذا تعارض قولُ النبي ﷺ مع فعله، قُدِّمَ القول، لأنه أقوى،

ويكون الفعل خاصا به ﷺ.

 

وأما حديث جابر رضي الله عنه: لا يُعارَض به ما جاء في الصحيحين،

لأن ما جاء في الصحيحين أقوى مما ليس في غيرهما .

 

  • وأما من يقول بالتفريق بين الصحراء والبنيان :

فقالوا : [إن القواعد الشرعية هي معنا ]:

  • فأولا : أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .

 

  • ثانيا : إنه إذا أمكن الجمع فلا يُلجأ إلى الترجيح .

 

 

  • ثالثا : أن الأصل في أفعال النبي ﷺ ليست للخصوص، وإنما الأصل في أفعاله التشريع لأمته عليه الصلاة والسلام .

 

  • رابعا: أن القاعدة تقول: [ إن الراوي أعلم بما روى، فابنُ عمر رضي الله عنهما رأي النبي ﷺ يستدبر الكعبة، وأكّد ذلك بفعله رضي الله عنه.

 

  • خامسا: أن قول جابر يعضد ما رواه ابن عمر وما فعله رضي الله عنهما فقول صحابيين وهما جابر وابن عمر رضي الله عنهم أقوى من قول صحابي واحد وهو أبو أيوب

 

  • سادسا: لو قيل بترجيح ما في الصحيحين إذا تعارَضا مع ما ليس فيهما من الأحاديث الصحيحة لم يقم حكمٌ في الشرع وذلك لقلة ما في الصحيحين مِن أحاديث بالنسبة إلى ما في غيرهما .

 

  • سابعا: أن قولكم بأن هناك حوائل في الفضاء فنقول: نعم هناك حوائل ولكن الشرع فرّق بينهما فلا وجه لإيراد مثل هذه العلل .

 

وأما أصحابُ القول الثالث: فنظروا إلى الأحاديث فقالوا:

[ إنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء لحديث أبي أيوب ، وسلمان الفارسي رضي الله عنهما ]

ونظروا إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما:

فرأوا تحريمَ الاستقبال دون الاستدبار لفعله عليه الصلاة والسلام

وهذا اختيارُ الشيخ ابن عثيمين يرحمه الله، وهو قولٌ حسن لكن يُورَدُ عليه إيراد

وهذا الإيراد: متمثل في قول جابر إذ قال : (( فرأيته قبل وفاته بعام يستقبلها ))

فأنتم أجزتم الاستدبار لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجتم الاستقبال مع أن جابرا ذكَرَ استقبال النبي ﷺ لها، بل لم تنظروا إلى فعل ابن عمر وهو الذي أخبر عن فعل النبي ﷺ لما صعد بيت حفصة رضي الله عنها إذ أناخ راحلته وجعل يبول مستقبلا لها .

 

وأما قول من يقول بالكراهة:

فقالوا: جمعا بين الأدلة

ولكن يورد عليهم : بأن أبا أيوب قال:(( كنا ننحرف عنها ونستغفر الله ))

فدل على أنهم إذا نسوا ولم ينحرفوا عدّوه ذنبا يُستغفر منه

ولا يقل أحد بأن هذا الاستغفار ليس عن محرم، لأنه في حالة نسيان، وحالة النسيان يكون فيها الإنسان معذورا، وذلك لأن المسلم إذا فعل شيئا محرما وهو يجهله ثم علم، أو فعله ناسيا ثم تذكر فيؤمر بالاستغفار ويكون مستحبا في حقه؛ ولذا: قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى : ” أمر الأنبياء أقوامهم أن يستغفروا الله ما سلف منهم مع أنهم معذورون في حال عدم وجود الرسول :

كقول هود:{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}

وقول صالح :{ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ }

وكقول شعيب:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ }

 

ومن خلال هذا العرض لأقوال وأدلة هؤلاء العلماء يكون الترجيح كالتالي  :

  • أن الاستقبال والاستدبار في الفضاء: لا يجوز
  • وأما في البنيان: فيجوز

 

وخروجا من الخلاف القوي:

ينبغي للمسلم ألا يستدبر في البنيان ولا يستقبل ،

وذلك لأن الخروج من الخلاف للاحتياط مطلب شرعي شريطة أن تكون الأدلة في هذا الخلاف قوية

أما إذا لم تكن قوية فالأحوط هو اتباع الدليل

ومما يدل على أن المشروع في ذلك: [ هو سلوك الاحتياط عند تعارض الأدلة القوية  ]:

ما جاء في الصحيحين  قال عليه الصلاة والسلام:

(( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ))

وكما قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين :

(( إذا وقع صيدك في الماء فلا تأكله إن كان غريقا فإنك لا تدري أسهمك قتله أم الماء  ))

ولقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين، في صيد الكلب المعلم :

(( إذا وجدت مع كلبك كلبا آخر، فلا تأكله فإنك سميت على كلبك ولم تسم على غيره ))

ولما جاء عند الترمذي: (( دع ما يريبك إلى ما يريبك ))

ولما جاء في الصحيح : ” أنه عليه الصلاة والسلام رأي تمرة ساقطة فقال عليه الصلاة والسلام :

” لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها “

والنصوص في هذا المعنى كثيرة

 

ومِن ثَم :

فإن الأمر في البنيان يكون فيه طالب العلم حكيما:

 فإذا سأله شخص وهو في طور بناء بيت عن اتجاه الحمامات أو المراحيض: فليأمره بصرفها .

وإذا سأله آخر عن وجودها في القِدَم تجاه القبلة: فلْيُرشده إلى الانحراف إن تيسّر له ذلك، ولا يأمره بنقضها، إنما إن تيسّر فلينحرف

 

ولتعلم: أن الانحراف اليسير لا يكفي إنما يزول النهي بالانحراف الكثير الذي يجعلك غيرَ مستقبل للكعبة ولا مستدبر لها

 

ولتعلم/ أنه جاء في سنن أبي داود:

(( نهى النبي ﷺ عن استقبال القبلتين ببول أو غائط ))

 

والقبلتان: هما الكعبة وبيت المقدس، لأن النبي ﷺ كما كان في مكة كان يستقبلُ بيتَ المقدس جاعلا الكعبة أمامه، ثم لم هاجر استقبل بيت المقدس تأليفا لليهود وظل على ذلك ما يُقارِبُ سبعةَ عشر شهرا،

 وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى:

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية

 

فهذا الحديث المذكور في سنن أبي داود فيه:

فيه نهيٌ عن استقبال بيت المقدس حال قضاء الحاجة، ولكنه حديث ضعيف بل هو منكر

وذلك لأن القاعدة في علوم الحديث:

[ أن الضعيف إذا خالف الثقة يكون حديثه منكرا ]

وهو يفترق عن الشاذ:

فالشاذ: [ إذا خالف الثقة مَن هو أوثقُ منه عُدَّ في حكم الشاذ ]

فهذا الحديث منكر، لأن فيه مخالفةً لما أخبر به ابنُ عمر رضي الله عنهما من استقبال النبي ﷺ لبيت المقدس

 

وقد ذكر بعض العلماء حكمةً لكونه عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر رضي الله عنهما

في كونه ( استدبر الكعبة ولم يستقبلها ) فذكروا فيما ذكروا:

 أن الاستقبال أشد من الاستدبار،  وذلك لأن الاستدبار لا يعدو أن يكون فيه توجُّهٌ بغائط، أما الاستقبال فقد يحصل بول مع غائط،  فيكون الاستدبار أخفّ من الاستقبال بهذا الاعتبار

 

ولو قال قائل: إن قوله عليه الصلاة السلام  في حديث أبي أيوب:(( ولكن شرقوا أو غربوا )) يُجيز لنا حال قضاء الحاجة أن نتجه اتجاه الغرب أو اتجاه الشرق، ولو اتجهنا في هذا الاتجاه لكُنّا مستقبلين للكعبة أو مستدبرين لها، فما هو الجوابُ عن هذا الإشكال؟

 

الجواب/ أن هذا الأمر منه عليه الصلاة والسلام: (( شرِّقوا أو غربوا ))

لمن قبلتهم ليست في هذا الاتجاه وذلك كأهل المدينة فليست قبلتهم في الشرق ولا في الغرب

ويدل لذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: ” ما بين المشرق والمغرب قبلة “

وهذا إخبار لأهل المدينة، أما نحن الآن في الرياض: فما بين الشمال والجنوب قبلة

ثم إن قوله عليه الصلاة والسلام: (( شرقوا أو غربوا )) يُبطل قولَ بعض الفقهاء الذين قالوا:

” يكره استقبال النيّرين ببول أو غائط ” والنيران: هما الشمس القمر،

 فإذا أمر عليه الصلاة والسلام بالتشريق أو بالتغريب فمن أين تُشرق الشمس ومن أين تغرب؟

الجواب/ كم جهة الشرق والغرب، فتخرج من جهة الشرق وتغيبُ من جهة الغرب، فهذه الجملة تبطل  هذا القول.

 

فلو قال قائل: ما وجه الاستدلال في حصر حديث جابر في البنيان مع أنه قال (فرأيته قبل وفاته بعام يستقبلها ) وظاهر قوله أنه في الفضاء وفي البنيان؟

 

الجواب: أن صدر الحديث يبين آخِرَه فقد قال:

” نهانا النبي عليه الصلاة والسلام أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها “

فكان جابر رضي الله عنه في أول أمره يظن أن النهيَ عام في البنيان وفي الصحراء، ثم استبان له أن هذا يخرج منه البينان

ولذا : (( قال رأيته قبل عام يستقبلها ))

ومما يؤكد هذا: أن النبي ﷺ كان يتوارى في الفضاء حتى يختفي عن أعين الناس،

 ولأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، وهو النهي ، ولو أخذ بعمومه لكان حديث جابر ناسخا لهذا الحكم في البنيان وفي الفضاء

ومن ثم :

فلا وجه لحصول هذا النزاع ، ولأن أبا أيوب أخبر عن فعلهم وهم في الشام، ومعلوم أن الشام لم تفتح في عصر النبي فأين محل النسخ؟