الفقه الموسع
الدرس الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ زيد البحري
ــــــــــــــــــــــ
مسألة :
ـــــــــــــــــــــــــــ
[ ماء زمزم كغيره من المياه على القول الصحيح، وكذا ماءُ البحر، وكذا الماءُ المتغير بطول المكث]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ هذه المسألة لها ثلاثة فروع
الفرع الأول/ ماءُ زمزم :
ماء زمزم من المياه المباركة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم :
(( أنها طعامُ طعم))
حتى قال أبو ذر : [ مرت عليَّ ثلاثون ليلة وليس لي طعامٌ سوى ماء زمزم حتى تكسَّرَت عُكَنُ بطني ]
يعني أنه سمِنَ مع اقتصاره على شربه ماء زمزم
وقال عليه الصلاة والسلام : (( هي طعام طعم وشفاء سقم ))
وقال عليه الصلاة والسلام ــ وصححه الألباني رحمه الله ــ : (( ماء زمزم لما شرب له ))
وقصه ماءِ زمزم مشهورة :
كما أخرج ذلك البخاري رحمه الله في بيان قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع زوجِه هاجر، وتَرْكِه إياها مع ابنها إسماعيل في مكة، والقصةُ معروفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا الماء المبارك، هل هو كغيره من المياه في الاستعمال؟
الصحيح أنه كغيره
وقد قال بعض العلماء : ” إنه يكره إزالةُ النجاسة به “
وقال البعض : ” إنه يكره أن يُغتسَلَ منه غُسْلَ الجنابة “
فهذا أقصى ما قيل فيه، والصحيح : جوازه لعدم الدليل
وأما قولُ العباس رضي الله عنه : ((لا أحلها لمغتسل))
فهذا من حيث السند ضعيف كما قال النووي رحمه الله، ولو صح فهو قول صحابي، ويكونُ للرأي فيه مجال، ثم لو صَحَّ لم يُقتصر على القول باعتباره لا يقتصر على الكراهة، لأن كلمة (( لا أحل)) يرادفها التحريم
وقد جاءت السنة في التوسع في هذا الأمر، كما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله أنه عليه الصلاة والسلام ((دعا بماء زمزم فشرب منه وتوضأ)) ولم يقل عليه الصلاة والسلام إن استعماله لا يكون إلا في الوضوء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع الثاني/ وقولُنا وكذا ماءُ البحر :
ماء البحر شديد الملوحة .
ومن ثم فقد يتوهم متوهم لشدة ملوحته أنه لا يُطَهِّر
وقد وقع هذا التوهمُ لبعض الصحابة كما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن:
(( قالوا يا رسول الله إنا نركب البحر ومعنا من الماء القليل أفنتوضأ من ماء البحر يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ))
فقوله عليه الصلاة والسلام : [ هو الطَهور ماؤه ] يدل على صحة الوضوء به .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع الثالث/ الماءُ المتغير بطول المكث
حكمه: طَهور
وصورتُه: أن يكون هناك ماءٌ -مثلا في قِربة- فيبقى هذا الماءُ طويلا في هذه القربة فيتغيرُ لونه أو تتغير رائحتُه أو يتغير طعمُه فلا يخرجه هذا التغير عن طهوريته، والدليل:
أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون وكان غالبُ أسقيتهم من الجلد وهي في الغالب تُغَير طعمَ ولونَ ورِيحَ الماء، ولم يُنقل عنهم رضي الله عنهم عدولهم عن الوُضوء بهذا الماء إلى التيمم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سؤال :
حديث : (( ماء زمزم لما شرب له )) هل هذا الإطلاق مقيد بقوله عليه الصلاة والسلام 🙁 ( ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم )) ؟
الجواب :
إذا ورد نصان فينظر إلى هذين النصين :
ـــ إن تعارضا فيُقدم الخاصُّ على العام، فيُخصص به العام، هذا إن كان أحدُهما عاما
ـــ وإن كان أحدُهما مطلقا والآخَرُ مُقيدا فيقيد هذا المطلق
هذا إذا حصل التعارض كما هو مقرر في الأصول
ــــ فإن لم يحصل تعارض فيؤخذ بالنصين، وهي ما تسمى عند الأصوليين:
[ إخراجُ بعضِ أفراد العام للاهتمام به ]
فمثلا/ قوله عليه الصلاة والسلام : ( ( ماءُ زمزم لما شُرِبَ له ) )
هذا عام يشمل كلَّ شيء، فمن شَرِبَه بنيّة الشِّبَع أشْبَعَه الله، ومَن شربه بنية الشفاء شفاه الله، ومن شربه بنية الحفظ أو قوتِه أعطاه الله مُناه، فهذا عام،
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( إنها طعام طعم ) ) لا يتنافى مع هذا العموم، وذلك لأن الطعام من ضروريات ابن آدم، بل من ضروريات المخلوقات ، فلا يكون هناك تخصيص ولا تقييد .
ومما يؤثر هنا عن ابنِ حجر رحمه الله :
أنه شرِبَ ما زمزم بنية أن يعطيه الله عز وجل حافظةً كحافظةِ الذهبي، والذهبي من الحفاظ وهو من المحدثين ومن طلاب شيخ الإسلام رحمه الله، فشربه بنية أن يعطيه الله حافظة كحافظة الذهبي، فمُنِحَ مِنْحَةً مِن العزيز الوهاب حافظةً أقوى من حافظة الذهبي
ولذا/ إذا أطلق العلماء فقالوا : [ قال الحافظ ]
فالمرادُ منه ابنُ حجر لأن هذه الصفة ارتسمت فيه
ولذا/ لُقِّبَ بـ [ أمير المؤمنين في الحديث ]
ولا شك أن هذه هممٌ عالية ونفوسٌ رفيعة طلبت ما يتعلقُ بالآخرة .
ولذا/ ابن المبارك رحمه الله لما شَرِبَ مِن ماء زمزم قيل له لما فرغ : ” بأي نية شربته ؟
فقال رحمه الله : ” بنية أن يُذهب الله عني الظمأ يوم القيامة “
أماني عظيمة أسأل الله جل وعلا أن يرحمهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة : [ يلزم مَن عَلِمَ بنجاسة شيءٍ إخبارُ مَن يريدُ أن يستعمِلَه ]
الشرح/ صورة هذه المسألة:
إنسان أراد أن يتوضأ مِن إناءٍ فيه ماء، بناءً على الأًصل، وهو: أن الأًصل في الأشياء الطهارة،
وهناك شخصٌ يعلم أن هذا الإناءَ وقعت فيه نجاسة فغيّرته
فالواجب: والحالةُ هذه أن يخبره، والدليل: قولُه ﷺ كما في صحيح مسلم:
” الدِّينُ النَّصِيحَةُ “. قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : ” لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ “
وأعظمُ أنواعِ النصيحة المُقَدَّمة هي نصيحةُ العبدِ في إصلاح دينه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة : [ الصحيح أن الماء لا ينجُس قَلَّ أم كَثُرَ إلّا إذا تغيّر أحدُ أوصافِه بالنجاسة]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ هذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فبعض العلماء: يرى أن الماء إن كان قليلا فوقعت فيه نجاسة، فإنه ينجُس، غَيّرتْهُ أم لم تُغَيِّرْهُ، فبمجرد وقوعِ النجاسةِ في الماء القليل فإنه ينجس.
أما إن كان كثيرا: فيقولون إنه لا ينجُس إلا إذا تغير أحدُ أوصافه، ودليلُهم:
قولُه عليه الصلاة والسلام كما في السنن قال: (( إذا كان الماء قلتين لم ينجس ))
وفي وراية: (( لم يحمل الخبث ))
فيُفهَمُ من هذا: أن الماء إن كان دون القُلّتين أنه ينجُس، فيكون ضابط القليل ما كان دون القلتين،
ويكون ضابط الكثير من الماء ما كان قلتين فأكثر.
وضابط القلتين :
قال بعض المعاصرين : [ إنها توازي عشرَ تَنَكات أو إحدى عشرة تَنَكَة]
وبعضهم قال : [ إنها تساوي قريبا من مائة وتسعين(190) كيلا، يعني: كيلو )
وبعضهم: وَصَفَ هاتين القلتين بأنها كقِلال هَجَر اعتمادا على رواية جاءت في هذا
لكن الألباني رحمه الله يقول : [ إنها رواية منكرة ] فتقييدها بقلال هجر لا يصح .
هذا هو القول الأول القائل :
بأن الماء إن كان قليلا فوقعت فيه النجاسة فإنه ينجس تغير أو لم يتغير
أما إن كان كثيرا فينظر هل تغير بالنجاسة أم لا ؟
فإن لم يتغير فيكون طَهورا ، حتى لو بقيت النجاسة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الثاني: يُفَرِّقون بين نجاسةِ الآدميّ وذلك إذا كانت بولا أو عذرَةً مائعة
فيقولون: [ إن كان الماء كثيرا ووقعت فيه نجاسة آدمي فإن الماءَ ينجُس تغير أم لم يتغير
بينما لو وقعت فيه نجاسة غيرَ نجاسةِ الآدمي فإنه لا ينجُس إلا بالتغير
ويستدلون على ذلك: بقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين :
(( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه))
فدل هذا الحديث على أن بول الآدمي مؤثر في الماء ولو كان كثيرا
ويُقاس على البول عذرته المائعة لكونهما مائعين،
أما عَذَرَتُه الجامدة: فحكمُها حكمُ سائرِ النجاسات
ومِن ثَم/ فإنهم يتفقون مع أصحاب القول الأول على أن الماء إذا كان قليلا فوقعت فيه نجاسة فينجس تغير أو لم يتغير بقطع النظر عن نوعية هذه النجاسة،
ويختلفون معهم في أنه لو كان كثيرا فينجُس ببول الآدمي وعَذَرَته المائعة تغير أو لم يتغير،
ثم إن أصحاب هذا القول أرادوا أن يسدوا المَدخَل عليهم إذ لو قال لهم قائل:
يلزم على قولكم أن ماء الغدير الكثير إذا بال فيه الآدمي ينجُس؟!
فأجابوا: بأننا نقيد فنقول: ” إن وقعت فيه نجاسة آدمي ولم يشُق نَزْحُها، يعني: إزالتها، فهذا هو مرادنا ، أما إن كان يشق نزحها فإنه لا ينجس “
ــــــــــــــــــــــــــــ
القول الثالث/ وهو الراجح :
[ أن الماء إذا وقعت في نجاسةٌ لا ينجُس سواء كان قليلا أم كثيرا، سواءٌ كانت النجاسةُ بولَ آدميٍّ وعَذَرَتَهً المائعة أو كانت غيرَ ذلك ]
ودليل هذا القول/ ما يأتي:
أولا/ قوله تعالى: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ }
ووجهُ الدلالة من هذا الآية:
أن الله عز وجل جعل علةَ تحريمِ هذه الأشياء: الرجسية
فدل على أن ما خلا من الرجسية فإنه حلال، وهذا في المطعوم فما ظنكم بالمشروب،
وهذا الماء ليس فيه شيءٌ من هذه الرجسية، فليس لهذه النجاسةِ الواقعة في هذا الماء القليل أثر.
الدليل الثاني/ ما جاء في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( سئل عن بئر بُضاعَة ))
وهي بئرٌ يُلقى فيها النتن ولحوم الكلاب
فقال عليه الصلاة والسلام : (( إن الماء طَهور لا ينجسه شيء ))
وهذا البئر ماؤها قليل فإنها إن كَثُرَت -كما ذَكَر الراوي – إن كَثُرَت فتصلُ إلى العانة،
وإن قَلّت فإلى الركبة، هذا عُمقُها
أما عرضُها: فيقول أبو داود رحمه الله: “ذَرَعتُها فإذا هي ستةُ أذرُع “
والذراع: مِن أطرافِ أصابعِ اليد المتوسطة في الخِلْقَة إلى المِرفَق ، لكن من متوسط الخِلْقَة لأن البعض يدُه طويلة جدا، والبعضَ الآخَر يدُه قصيرةٌ جدا.
فقوله عليه الصلاة والسلام في هذه البئر مع قلةِ مائها وما يُرمى فيها من لحوم الكلاب والنتن
قوله : (( إن الماء طَهور لا ينجسه شيء )) يدل على أن الماء قَلّ أم كَثُر أنه لا ينجُس بوقوع النجاسة فيه إلا إذا غيرت أحدَ أوصافِه:
والأوصاف ثلاثة :
1ــ الريح
2ــ اللون
3ــ الطعم
فإن غيرت النجاسةُ ريحَ الماء فقط: صار نجِسا
أو غيرت طعمَه: صار نجِسا
فإن غيرت لونَه: صار نجِساً.
فإن غيّرت اللونَ والطعمَ والريحَ معا فمن باب أولى.
ودليل اعتبار هذه الأوصاف:
ما جاء من زيادة: ( ( إن الماء طَهور لا ينجسه شيء ) ) زيدَ على هذا الحديث: ( إلا ما غَلَب على ريحه أو لونه أو طعمه ) ولكن هذه الزيادة ليست صحيحة كما قال الألباني رحمه الله،
فليست صحيحةً مِن حيثُ السند إنما هي صحيحةٌ مِن حيثُ المعنى
ولذا قال رحمه الله: ” لم أر خلافا بين العلماء في عدم اعتبارِ هذه الأوصاف “
وأما استدلال أصحاب القول الأول :
بالحديث الذي سببه سؤال الرجل قال : ” يا رسول الله الماء في الفلاة مِن الأرض تنوبُه السباع ]
فقال عليه الصلاة والسلام : ( إذا كان الماء قُلتين لم يحمل الخَبَث )
فهذا الدليل الجواب عنه أن يقال :
إن القاعدة المقررة في أصول الفقه تقول :
[ إذا تعارض منطوقُ نصٍّ مع مفهومِ نصٍّ آخَر قُدِّمَ المنطوق، فالمنطوق يُقَدَّمُ على المفهوم ]
نقول/ استدلالكم بهذا الحديث عن طريق المفهوم، فيُفهم منه أن ما كان دون القلتين تَنَجّس، وهذا المفهوم يعارضه منطوقُ حديث النبي صلى الله عليه وسلم في بئرِ بُضاعة : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء))
وأما الجواب عن دليل أصحاب القول الثاني/ فيقال:
إن استدلالكم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم :
(( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه ))
نقول/ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض في هذا الحديث لنجاسة الماء، وإنما تعرض عليه الصلاة والسلام إلى أن هذا الفعل لا يليقُ بالعقلاء، فالعقلُ يمنع أن يبول الإنسان في ماء ثم يغتسلَ منه.
وهذا كحديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
(( لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها آخر النهار )) لأنه ليس من المناسب أن يجلد الزوج زوجته جلد العبد، ثم بُعَيدَ هذا الجلد يجامعها
فليس فيما استدللتم به دلالة على ما ذكرتم.
فيكون الراجح :
أن الماء إذا وقعت فيه النجاسة قلَّ أم كَثُر لا يَنجُس إلا بالتغير، وهذا هو اختيارُ شيخِ الإسلام رحمه الله .