الفقه الموسع
الدرس الرابع – باب المياه
فضيلة الشيخ زيد مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة :
[ من شك في نجاسة ماء أو في طهارته بنى على اليقين، وكذا من شك في طهارة الشوارع ]
الشرح/ هذه المسألة لها شقان:
الشق الأول/ وهو من شك في نجاسة ماء أو في طهارته بنى على اليقين:
وصورة هذه المسألة:
لو أن إنساناً عنده إناء فيه ماء طَهور، ثم تَركَه حينا فوجد أن هذا الماء قد تغير،
فشك هل تغير بنجاسة أم لا؟
فنقول: تبني على اليقين وهو الأصل، والأصل واليقين: أنه طهور.
عكسُها/ لو كان عنده إناء فيه ماء نجس فتركه حينا ثم عاد إليه فوجده ماء صافيا،
فشك هل زالت منه النجاسة أم لم تزل؟
فالجواب/ أن يقال له : ” ابنِ على اليقين “والأصل ” وما هو اليقين والأصل؟ النجاسة.
ودليل هذه المسألة/ قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين:
(( لما شُكي إليه: أن الرجل يجد الشيء في بطنه فيُشكل عليه هل أحدث أم لم يحدث ))
فقال عليه الصلاة والسلام : (( لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ))
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث عدة قواعد، من بينهما:
1ــ اليقين لا يزول إلا بيقين
2ــ اليقين لا يزول بالشك
3ــ الأصل بقاء ما كان على ما كان
4ــ لا عبرة بالتوهم
وهذه القواعد ليست مفيدةً في كتاب الطهارة فحسب بل في أبواب شتى من أبواب الفقه:
فلو أن شخصا مثلا شك هل طلق زوجتَه أم لم يطلقها، فما هو الأصل؟ الأصل: بقاءُ النكاح.
مثال آخر/ لو أن امرأة شكت هل أرضعت فلانة أم لم تُرضعها؟
فالأصل واليقين عدمُ الرَضاعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشق الثاني/ من شك في طهارة الشوارع :
صورة المسألة :
لو أن شخصا تلوثت قدماه بوحل الشوارع بعد المطر، فلا يُلزَم بغسلِهما، ولا بغسْلِ ما أصاب ثيابه
ودليل هذه المسألة: هو نفسُ دليل الشق الأول
ويُزادُ عليه: ما جاء في سنن أبي داود عن بن مسعود رضي الله عنه:
أنه قال: ” كنا لا نتوضأ من موطئ “
فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخوضون بأقدامهم في مياه الأمطار ولا يغسلونها.
ومن ثَمَّ/ لو أن إنسانا يسير في الطريق فتلوث بدنُه أو ملابسه بغسيل بعض البيوت، فشك :
هل هذا الماء حقيقةً مِن غسيل البيوت أو أنه من مجاري هذه البيوت؟
فنقول له: ” لا يلزمُك غَسْلُه بناءً على الأصل، ولا يلزمك أن تتفقده أو تَشُمَّه “
ولذا قال ابن القيم رحمه الله :
[ لو أن شخصا وطئ على رطوبة بالليل فلا يلزمه شمها ، ولا غسلها ]
بل قال بعض العلماء: [ يكره أن يفعل هذا حتى لا يدخل على نفسه الوساوس ]
ولذا/ لما مر عمر رضي الله عنه في طريق مع صاحب له فأصابهما شيءٌ من ماء الميزاب،
فقال صاحب عمر : يا صاحب الميزاب أماؤك نجس أم طَهور ؟
فقال عمر رضي الله عنه: ” لا تخبرنا يا صاحب الميزاب “
لكن: لو أن صاحب الميزاب يعلم نجاسة مائه فهل يلزمه أن يخبره؟
الجواب/ نعم يلزمه أن يخبره لقوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم:
(( الدين النصيحة ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضابط/ [ جاف على جاف طاهر بلا خلاف ]
هذا الضابط يندرجُ تحته أمثلة
وقد قال بعض العلماء: ” أنه لا فرق بين القاعدة والضابط، فيجوز أن يعبر عن الضابط بأنه قاعدة، ويجوز أن يعبر عن القاعدة بأنها ضابط “
وبعض العلماء يدقق في هذا ويقول: ” إن القاعدة هي التي يندرج تحتها أكثر من باب في الفقه،
وأما الضابط فإنه خاص بباب واحد من أبواب الفقه “
والضابط عندنا هنا يتعلق بباب الطهارة :
[(جاف على جاف طاهر بلا خلاف )]
ومن أمثلة هذا الضابط:
أن الإنسان لو مر ثوبه اليابسُ على نجاسة يابسة فإن ثوبه يكون طاهرا بلا خلاف
وذلك لأن الثوب جاف والنجاسةَ جافة
لكن/ لو كان أحدهما رطبا والآخر جافا:
فيُنظَر هل أثرت هذه النجاسة في هذا الثوب أم لا؟
فإن أثرت فيه تنجس، وإن لم تؤثر فيبقى على طهارته
والغالب في مثل هذا/ أنه لا يسلم من النجاسة، وذلك فيما لو كان الثوب رطبا ومر على نجاسة جافة،
أو كان الثوب جافا ومر على نجاسة رطبة
ومن باب أولى : لو كان الثوب رطبا والنجاسة رطبة.
فعندنا إذاً أربعُ صور وهي:
1ــ إذا كان الثوب جافا والنجاسة جافة: طاهر بلا خلاف.
2ــ أو يكون الثوب جافا والنجاسة رطبة
3ــ أو يكون الثوب رطبا والنجسة جافة
4ــ أو يكون الثوب رطبا والنجاسة رطبة
فحكم الصورة الأولى: الطهارة بلا خلاف .
وحكم الصور الثلاث: ما سبق من أنه ينظر في تأثير هذه النجاسة على هذا الثوب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة/ [ إذا اشتبه طَهور بنجس، فالصحيح : أنه يتحرى؛
فإن لم يجد قرينة يبني عليها عدل إلى التيمم،
وكذا إذا اشتبهت ثياب طاهرة بثياب نجسة فإنه يتحرى على الصحيح ]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ هذه المسألة أيضا من شقين :
الشق الأول : إذا اشتبه ماء طهور بنجس :
صورة هذه المسألة :
لو كان عنده إناءان أحدهما طهور والآخر نجس؟ ثم شكَّ في أيهما الطهور،
فماذا يصنع وليس عنده ماء سواهما؟
الجواب : اختلف العلماء في هذا :
القول الأول/ يقول : يعدل إلى التيمم
وذلك لأن اليقين هنا عُدِم ولا يُشترط في هذا التيمم أن يريق الماء أو أن يخلطهما
وإنما قالوا بعدم اشتراط ما ذُكِر لأن اللهَ عز وجل قال :{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء}
فقالوا: ” إنه في الحقيقة لم يجد ماء وذلك لعدم قدرته على استعمال الماء،
فلا يُلزم بإراقتهما ولا بخلطهما”
وقالوا : ” إن القاعدة الشرعية تأيدنا وهي قاعدة :
[ إذا اشتبه مبيح وحاضر على وجه لا يتميز فيه الحاضر قدم الحاضر ]
وهنا اجتمع ماء طهور وهو المبيح، مع الماء النجس وهو الحاضر يعني المحرم، فاشتبها، فنُقدم الحاضر ونغلب جانبه حتى يخرج الإنسان بذمة بريئة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الثاني/ أن له أن يتحرى إذا وُجدت قرينة يبني عليها
وذلك أن تساعده القرائن على تغليب معرفة الطَهور من النجس ودليلهم :
أن النبي عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري قال في سجود السهو:
” إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه “
وتحرّي الصواب ليس يقينا وإنما يكون بالقرائن.
وقد أخذ العلماء من هذه الرواية قاعدة :
وهي قاعدةٌ تُسنِدُ أصحابَ هذا القول وهي قاعدةُ :
[ إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن ]
وهذا هو القول الصحيح/ وذلك لأنه غيرُ عادم للماء مع وجود القرائن.
أما إذا انعدمت القرينة وأصبح الاشتباه في درجة واحدة:
كأن يكونَ اللونُ في أحدهما هو اللون في الآخر وكذا الرائحة
فهنا قد قال بعض العلماء:
يستعمل هذا الماء؛
لكن ما السبيل إلى معرفة أيهما هو الطهور؟
قالوا: يستعمل ما تطمئن إليه نفسُه، وذلك قياسا على من اشتبهت عليه القبلة ولا قرائن لديه فإنه يصلي إلى ما تطمئن إليه نفسه ولا إعادة عليه.
ـــــــــــــــــــــ
والقول الآخر/ وهو الصحيح :
أنه لا يستعملهما وإنما يعدل إلى التيمم للقاعدة الشرعية:
[ إذا اجتمع المبيح والحاضر على وجه لا يتميز فيه أحدهما غُلّبَ جانب الحضر ]
ـــــــــــــــــــــ
أما قياسهم:
فنقول هو قياس مع الفارق، وذلك لأن الأصل أن يصلي المسلم إلى القبلة لكن جاء الشرع بالتسامح فيه وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم اشتبهت عليهم القبلة فصلوا، وكان ذلك بالليل، فلما أصبحوا وجدوا أن صلاتهم إلى غير القبلة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل قوله تعالى:
{ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشق الثاني/ لو اشتبهت ثياب طاهرة بثياب نجسة فيتحرى على الصحيح
صورتها: أن يكون لدى الإنسان مثلا ستة أثواب اثنان منها نجسة، فاختلطت هذه الثياب، الطهارةُ بالنجِسة، فاشتبه عليه الأمر، وليس عنده إلا هذه الأثواب وليس عنده ماء ليغسل واحداً منها وأراد أن يصلي، فماذا يصنع؟
وتقييدنا بعدم وجود الثياب لأنه إن كان لديه ثوب آخر فلا وجه لإيراد هذه المسألة لأنه سيصلي فيه،
وكذا التقييد بعدم وجود الماء لأنه لو كان لديه ماء لغسل أحدَ هذه الأثواب الستة وصلى فيه، ومن ثم فلا وجه لإيراد هذه المسألة.
فإذا اشتبهت ثيابٌ طاهرة بثيابٍ نجسة فماذا يصنع؟
قال بعض العلماء : ” يصلي بعدد الأثواب النجسة ويزيد صلاة حتى يخرج بيقين .
فعلى مثالنا السابق وهو: أن عدد الأثواب النجسة اثنان فنقول: صل في ثلاثة أثواب، كل صلاة في ثوب وذلك حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر للقاعدة السابقة :
[ إذا اجتمع مبيح وحاضر على وجه لا يتميز فيه أحدهما غلب جانب الحضر ]
القول الثاني :
أن له أن يتحرى ولا يلزمه أن يصلي أكثر من صلاة ودليلهم :
قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق:
(( إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وليتم عليه ))
وللقاعدة: [ إذا تعذر اليقين رجع إلى غلبة الظن]
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود:
( ( نهي أن تصلى الصلاة في يوم مرتين ) )
ولأن أصحاب القول الثاني قالوا كما قال بقية العلماء :
” يجوز للمجاهد إذا كان في صلاة الخوف أن يحمل السلاح النجس للضرورة
وهذا مثيل له فهو في حالة ضرورة لعدم قدرته على معرفة الثوب الطاهر من الثوب النجس
“وهذا هو القول الصحيح”
ـــــــــــــــــــــــ
نظيرُ المسألة السابقة :
ما ذكره الفقهاء في الأماكن الضيقة والواسعة:
وذلك إذا تنجس المكان الضيق أو المكان الواسع واشتبه عليه الموضع النجس من الموضع الطاهر
وهذه الصورة تصدُق فيها لو كان حبيسا في هذا المكان
أما إن كان غيرَ حبيس فينتقل إلى مكان آخر
لكن : إن لم يكن له إلا هذا المكان وأراد الصلاة فماذا يصنع ؟
فقالوا : إن كان المكان ضيقا فيصلي بعدد المواضع النجسة فيه ويزيد صلاة،
وإن كان واسعا فيصلي في أي موضع شاء .
والصحيح : كما سبق: [ أنه يتحرى في المكان الضيق ]
والأدلة هي نفس الأدلة السابقة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ