الدرس (48) باب نواقض الوضوء (3)( الوضوء من أكل ما مسته النار ـ مسائل أكل لحم الجزور )

الدرس (48) باب نواقض الوضوء (3)( الوضوء من أكل ما مسته النار ـ مسائل أكل لحم الجزور )

مشاهدات: 577

الدرس الثامن والأربعون

من الفقه الموسع

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

 

الناقض السابع : أكْلُ لحم الجزور

وأصل هذا الناقض ما جاء في صحيح مسلم ( أن النبي ﷺ سئل أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال  : نعم ، فقيل يا رسول الله : أنتوضأ من لحوم الغنم قال : إن شئت)

 ولحم الجزور في كونه ناقضا مختلف فيه بين العلماء :

هل هو ناقض للوضوء أم غير ناقض  ؟

وهذه المسألة المختلف فيها مبنية على مسألة كبرى وهي: أكل ما مسته النار، أينقض الوضوء، أم لا ينقض الوضوء ؟

فأما مسألةُ ما مسته النار أهو ناقض للوضوء أم هو غير ناقض للوضوء ؟

فقد اختلف فيها العلماء :

القول الأول : يرى ان أكل ما مسته النار ناقض للوضوء، ويستدل على ذلك بما جاء في صحيح مسلم ( أن النبي ﷺ قال : توضئوا مما مسته النار ) وجاء عند الترمذي حديث أبي هريرة أن النبي قال ( الوضوء مما مسته النار ولو من ثور أقِط  ) يعني: ولو من قطعة أقط، والأقط / هو اللبن المجفف

 فقال ابن عباس لأبي هريرة : أيتوضأ من الدهن  ، أيتوضأ من الحميم   ؟

قال أبو هريرة: (يا ابن أخي إذا سمعت الحديث فلا تضرب له مثلا) معنى كلامه: إذا سمعت حديث النبي ﷺ فعليك ان تقبل وتمتثل ولا تضرب له الأمثال لأن الواجب عليك هو الانصياع لأمر النبي ﷺ.

 

القول الثاني /أن أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء ، لحديث جابر قال ( كان آخر الأمرَين ترْكَ الوضوء مما مسته النار )

الدليل الأول : قالوا/ إن هذا الحديث ناسخ للأمر بالوضوء مما مسته النار

ويستدلون أيضا/ الدليل الثاني :ما جاء عن كثير من الصحابة أنهم أكلوا ما مسته النار فصلوا ولم يتوضئوا

ويستدلون أيضا/ الدليل الثالث: ما جاء عند مسلم وغيره أن النبي ﷺ ( أكل لحم شاة فخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ )

 

القول الثالث: أن الوضوء مما مسته النار مستحب وليس بواجب جمعا بين الأدلة، وهذا هو القول الراجح والدليل على هذا ان النبي ﷺ لما سئل كما عند مسلم عن لحوم الغنم قال ( توضأ إن شئت )

 فلو لم يكن مستحبا لما علقه النبي ﷺ بالمشيئة وذلك لأن استعمال هذا الماء من غير استحباب أو وجوب إسرافٌ له، فلما علّقه بالمشيئة دل على الاستحباب،

 ولأن في هذا القول جمعا بين الأمر والترك و[ إعمال الدليلين أولى من ترك أحدهما ]

 

وأما من يقول بالوجوب /  وأما من يقول بالوجوب فإن حديث جابر يُرَدُّ به عليهم،

 لكن أصحاب القول الأول يعارضون ويقولون: إن حديث جابر لا يُستدلُّ به علينا ، لأن هناك من اختصره وإلا فالحديثُ سِيقَ وله قصة وهو: ( أن النبي ﷺ أضافته امرأة فذبحت له شاة فأكل من لحم هذه الشاة فصلى صلاة الظهر، ثم عاد فأكل من لحم هذه الشاة ثم صلى صلاة العصر ولم يتوضأ، فقال جابر: كان آخرُ الأمرين ترك الوضوء مما مسته النار )

(والأمر) هنا هو الشأن، وليس هو الأمر الذي هو نظير النهي، فجابر حكى واقعةً للنبي ﷺـ وهذه الواقعة هي إضافةُ هذه المرأة للنبي ﷺ

فيمكن أن يكون النبي ﷺ توضأ لصلاة الظهر عن حَدَث، ليس بسبب أكْلِ ما مسته النار،

 ولو سلمنا بهذا التوجيه -ونحن نُسَلِّمُ به- فإن الصحابة رضي الله عنهم قد ورد عنهم وهم جملة من الخلفاء الراشدين، قد ورد عنهم ترك الوضوء مما مسته النار ،

ولذا فالسنة في حق من أكل شيئا مما مسته النار ان يتوضأ استحبابا لا وجوبا.

 

ومن هذه المسألة جاءت مسألة أكل لحم الجزور

فقال جمهور العلماء:

إن أكْلَ لحم الجزور ليس بناقض للوضوء، ويستدلون بحديث جابر المتقدم.

 

 والقول الثاني: هو قول الحنابلة/ يرون أن أكل لحم الجزور ناقض للوضوء، ويستدلون على ذلك بما جاء في صحيح مسلم : ” قالوا : أنتوضأ من لحم الإبل قال: نعم ، قيل : أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت”

فتعليق النبي ﷺ الوضوء من أكل لحوم الغنم بالمشيئة يدل على أن لحوم الإبل لا مشيئة فيها،

وقد ورد الأمر صريحا في مسند الإمام أحمد: ( قال توضئوا من لحوم الإبل ) وهذه هو القول الراجح

 

 وأما ما استدل به الجمهور فقد أُجيبَ عنه، أجاب عنه أصحاب القول الأول- القائلين بوجوب الوضوء مما مسته النار- ما هو الجواب؟: أن هذا الحديث سيق بسبب قصة، وهذه القصة هي إضافةُ المرأة للنبي ﷺ

 

  ثم إن حديث جابر ، قائله جابر وليس القائلُ هو النبي ﷺ، إنما هو قولٌ قاله جابر بناء على ما رآه من النبي ﷺ، إذ توضأ لصلاة الظهر بعد أكلِه للحم الشاة ثم لم يتوضأ لصلاة العصر بعد أكله لبقية لحم الشاة ،

 

ثم لو سلمنا  بهذا كله فإن حديث جابر عام ، فيكون عمومه يقتضي أن كل ما مسته النار ليس فيه الوضوء ويستثنى من ذلك لحمُ الإبل ،
ولذا ذكر ابن قدامة في المغني: بأنه لا يُسَلَّمُ من أن العلة هي كون النار مست لحم الإبل ، بل إن العلة  هي لحمُ الإبل فلو أكله مطبوخا أو أكله نيئا أو أكله قديدا فإن الوضوء يجب، فمسألةُ لحمِ الإبل لا عَلاقةَ لها البتّة بحديث الوضوء مما مسته النار،

ولذا قال ابنُ القيم في تهذيب سنن أبي داود قال : “وكيف يُلزَمون بحديث جابر مع أن العلة عندهم هو كونه لحم إبل لا كونه ممسوسا بنار “

فهذا هو القول الراجح من أن لحم الإبل ناقضٌ للوضوء.

 

 

ثم اختلف العلماء- وهي مسألة ثالثة مبنية على المسألتين السابقتين – اختلف العلماء القائلون بأن لحم الإبل ناقض للوضوء، فقال بعض العلماء :

إنه يشمل اللحم وغيرَه ، فلو أكل لحم إبل أو كبد أو رئة أو شحم فإن وضوءه ينتقض،

ويستدلون على ذلك بأدلة:

أولا :  أن اللحم في عُرفِ الشرع يُطلق على اللحم وغيره مما هو في ماهيّةِ هذا الحيوان، مستدلين بقوله تعالى { حرمت عليكم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير }

فقوله { ولحم الخنزير } يشمل جميع أجزائه من الطِّحال والرئة والشحم والرأس والكبد ونحوه

ويستدلون أيضا/ الدليل الثاني: بأن العلة الموجودة في اللحم هي موجودةٌ في بقية الأجزاء ،

الدليل الثالث : أنه ليس في الشريعة حيوان تتبعض أجزاءه حِلا وحُرمة، بنجاسة وطهارة

الدليل الرابع: الاحتياط ، فإن العلماء القائلين بأن لحم الإبل ناقض للوضوء متفقون على أنه إن توضأ مما أكله من أي بَضعَةً من الإبل متفقون على صحة صلاته، بينما لو ترك الوضوء مما أكله من الإبل غير اللحم فإن البعض منهم يُبطِلُ صلاته.

 

القول الثاني / أن الحكم خاص باللحم ، ولا يتجاوز الحكم منه إلى غيره ، ويستدلون على ذلك بأدلة

أولا :  أن النبي ﷺ قال ( توضئوا من لحوم الإبل )

فخص اللحمَ دون غيره مع أن هناك قِطَعًا موجودةً في الإبل تُشبه اللحم

الدليل الثاني: أن عرف الناس يُفَرِّقُ بين اللحمِ وغيرِه، فلو قيل: ما هذا ؟ لقال : هذا لحم ،

 ولو قيل: ما هذا؟ لقال  : هذا شحم ،

ثالثا : أن عُرفَ اللغة يدل على أن اللحم هو الهبر المعروف وما عداه لا يسمى لحما،

ولذا قال الفقهاء: لو حلف ألا يأكل لحما فأكل كبدا أو طحالا أو شحما فإنه لا يحنَث لعدم اندراج هذه الأشياء تحت مسمى اللحم.

ويُجابُ عن ما استدل به أصحابُ القول الأول: من أننا لا نسلم بأن اللحم في عرف الشرع يشمل كل أعضاء وكل أجزاء الحيوان ، والنصوص في هذا كثيرة ، من بينها قوله تعالى { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } فبين عز وجل أن الشحمَ غيرُ اللحم، وأنه هناك ما يسمى بالحوايا، والعظام ليست داخلة في اللحم.

وقد جاء عند الطبراني وحسنه الهيثمي رحمه الله: ( أن النبي ﷺ لما أتاه رجل فقال: يا رسول الله إنا أهل بادية وماشية أنتوضأ من لحوم الإبل وألبانها ؟ فقال ﷺ: نعم )

 ولا شك أن اللبن جزء من الحيوان، فلو لم يكن منفردا عن مسمى اللحم لوضح النبي ﷺ لهذا السائل من انه لا داعي لِذِكْرِ اللبن لأنه داخلٌ في مسمى اللحم، والعطفُ يقتضي المغايرة.

وأما الاستدلال بقوله { ولحم الخنزير } فإنا نقول : إن جميع أجزاء الخنزير محرمة الأكل وإنما ذكر اللحم من باب الغالب، وذلك لأن أكثر ما يؤكل في الحيوان هو اللحم ، ولذا جاء في الصحيحين ( ان النبي ﷺ لما ذَكَر حكم بيع الخنزير عمّم فقال : إن الله حرم بيع الميتة والخنزير والأصنام …..الحديث )  فقال هنا  ( والخنزير) ليشمل جميع أجزائه فلا يجوز بيع شيء منه؛ أما ذِكْرُ اللحم -فكما سبق- من باب بيان الغالب. وأما قولهم : بأنه لا فرق ، فنقول: بأنه ليس هناك علة منصوصة عن النبي ﷺ حتى يُقاسَ عليها، وذلك لأن القياس هو: إلحاقُ فَرْعٍ بأصل في الحكم لعلةٍ جامعة بينهما ، وأين العلة  ؟ العلة مختلفٌ فيها كما سيأتي إيضاحه بإذن الله تعالى.

  وأما قولهم : بأنه ليس هناك في الشريعة حيوان يتبعض فهذه فيه نظر ، فالنبي ﷺ كما جاء في السنن قال عن الهرة ( إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم ) والحكمُ فيها متبعض ، فدمها وبولها وروثها نجس مع أن ريقَها ولعابها وعرقها طاهر.

 

وأما القول بالاحتياط: فنحن نقول : بالاحتياط، لكن قال شيخ الاسلام رحمه الله : إن قول العلماء هذا أحوط لا يدل على التحريم ولا على  الوجوب وإنما يدل على الأولوية وهذا القول له قوته ، وهو عدم النقض؛

 وفي رأيي: أنه لا يُسعِفُ القول الأول إلا دليلٌ واحد وهو: أن النبي ﷺ ذَكَر لحم الإبل من باب الغالب ، والقاعدة في الأصول [ أن مفهوم المخالفة معتبر إلا إذا جاء النص في سياق الغالب فيمتنع هذا المفهوم ] فذِكْرُ الأمرِ بالوضوء من لحم الإبل يَفهمُ منه السامع بان ما عدا اللحم ليس بداخل في الحكم، وهذا هو مفهوم المخالفة، فالمفهوم خالف المنطوق، والمنطوق الأمر بالوضوء من لحم الإبل؛ لكنّ هذا المفهوم قد يقولون غير معتبر لأن النص جاء في سياق الغالب كما هو القول في لحم الخنزير ، وذلك لأن اللحم هو الذي أكثر ما يؤكل في الحيوان ،

ويعضُدُ قولَهم أن النبي ﷺ كما في المسند ( أمر بالوضوء من ألبان الإبل ) وإن كان في الحديث ضعف لكن يؤيده ما جاء عند الطبراني وهو حديث السائل من أهل البادية فقال ﷺ ( توضئوا من ألبان الإبل ) فدل على أن غيرَ اللحم داخِلٌ في الحكم.

 

 

وإنما لم يجب الوضوء من شرب ألبان الإبل:

لأن هناك نصًّا قد أخرَجَه إذ صَرَفَه مِن الوجوبِ إلى الاستحباب، وهو ما جاء في الصحيحين أن النبي ﷺ ( أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها )

مع أنهم حُدثاءُ عَهْدٍ بِكُفر، ولم يأمُرْهُم بالوضوء إذا شرِبوا ألبانَها،

[ وتأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجة لا يجوزُ في حقِّ النبي ﷺ]

وذلك لأنهم محتاجون لِقُربِ إسلامهم، ولقرب أوقاتِ الصلوات منهم،

 ومما يدل على أنهم محتاجون: أن الإيمانَ لم يتمكّن مِن قلوبِهِم فارتدوا عن الدين.

خلاصةُ ما ذُكِر: أن الأكلَ مما مسته النار يستحبُّ فيه الوضوء، وأن الإبل ليس داخلا فيما مسّتْهُ النار،

 فالعلةُ فيه: كَونُه لحمَ إبل، فيكونُ لحمُ الإبل من نواقض الوضوء، ويندرِجُ تحتَه بقيةُ أجزائه ما عدا اللبن فيبقى على الاستحباب لقصةِ العرنيين.

 

لو قال قائل: المرقةُ التي طُبِخَ فيها لحم، أهي ناقضةٌ للوضوء أم أنه أنها غيرُ ناقضة؟

القول الأول: إن كان طعمُ اللحمِ ظاهرا فإنها ناقضةٌ للوضوء.

القول الثاني: إنها ليست بناقضةٍ للوضوء حتى ولو وُجِدَ طعمُ اللحم أو رائحتُه،

والصوابُ: أن مرقةَ اللحم إذا ظَهَرَ فيها الطعم أنها ناقضةٌ للوضوء، وذلك لأن النبي ﷺ أمر بالوضوء من لحوم الإبل وهذا شامل في الأكل ونحوِه، ولذا النبيُّ ﷺ قال لأبي ذر-رضي الله عنه-:

”  يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ  “

فكونُ النبي ﷺ يأمره بإكثار الماء، يدلُّ على أن هذه المرقة لها أثر فيما يُزادُ فيها مِن ماء،

– وهذه المسألةُ لا تبنى على الخلاف السابق، لأن الخلاف السابق فيما سوى اللحم من كرشٍ وشحمٍ ونحوه، أما هنا فإن الحكمَ مُعَلَّقٌ باللحم، لكن هذا اللحمَ لم يؤكَل وإنما شُرِبَ ماؤه.

 

وأما إذا لم يوجد الطعم وليس له أثر: فلا أثر له، ولذا- كما سبق – الصحابةُ -رضي الله عنهم-

 أكلوا من جُبنِ المَجوس وهم في الغالبِ يصنعونه مِن أنفحَةِ المَيتة، فأكلوا وذلك لأن أثرَ هذه الميتة قد اضمحلّ وزال.

وكذا يكون الحكمُ في بقية المأكولات: كما لو أَكَلَ أرُزًّا فيه لحمُ إبل، فإن كونَ هذا الأرز قد ظَهَرَ فيه الطعمُ أو الرائحة فإنه ناقضٌ للوضوء.

 

والقول بالأكل يُخرِج وَضْعَ اللحمِ في الفم فليس بناقض، ويُخرِجُ مَضْغَهُ في الفم دونَ أكْلِهِ فليس بناقض.

 

والتنصيصُ على الإبل يُخرِجَ البقر: مع أن البقرة قد تأخذُ بعضَ أحكامِ الإبل،

ولذا قال بعضُ الصحابة في البقر: “وهل هي إلا من البُدن ” فلا تدخُلُ البقرةُ في هذا الحكم، وإنما الحكمُ مُنحَصِرٌ في: الإبل الصغيرِ منه والكبير، ذي السنامِ والسنامَين، فكلُّ أصنافِ الإبل داخلةٌ في الحكم،

 

 ويُخرِجُ ما هو مُحَرَّم الأكل: فما هو محرمٌ أكْلُه كالخنزير مثلا، لو أكَلَه فإنه آثم ولا ينتقض وضووه.

 

وقد اختلف العلماء في بيان الحكمة، -وقبل الدخول في بيان ما اختلفوا فيه من الحكمة-

فقد قال الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة ، أن هناك حديثا لا أصل له ، ليس في كتب أهل الحديث وليس له مصدر ، وهو أن سبب الأمر بالوضوء ، من لحم الإبل: ” أن النبي ﷺ أكل لحم جزور هو وجماعةٌ من الصحابة وكان يخطُب فأحدث أحدهم، فأمر ﷺ مَن أكل لحم جزور أن يقوم فيتوضأ لرفع الحرج عن هذا الذي أحدث )

فيقول: هذا لا أصل له ، ويُلغي هذا الحكم ، فإن تداول هذا الحديث يُفضي بأن يقال أن الأكل لحم الجزور ليس بناقض للوضوء ، وذلك لأن الأمرَ به لرفع الحرج عن هذا الذي أخرج ريحا.

 

وأما الحكمة من تخصيص الإبل بالوضوء من أكل لحمها دون غيرها:

  فالحكمة العليا هي أمْرُ الشرع، فإذا أمَر الشرع سمعنا وأطعنا قال تعالى:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]

وكما جاء في الصحيحين ( أن امرأة سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة  ؟  فقالت رضي الله عنها : كان ذلك يصيبنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )

 وقد استنبط بعضُ العلماء بعضَ الحِكَم:

فالقول الأول: إن لحم الإبل غليظ، ولغلظته يحتاجُ الجسم إلى الوضوء لتخفيف شدته

 لكنها علةٌ منتقضة بلحم الإبل الصغير، فإنه يُتلذذ بأكله لطراوة لحمه.

القول الثاني: إن لحم الإبل يهيجُ الأعصاب، ولا تتهيج أعصابُ ابنِ آدم إلا إذا غَضِب ،(  والنبي صلى الله عليه وسلم أمر من غضب أن يتوضأ ) كما جاء في سنن أبي داود، وقد ضعفه الألباني رحمه الله، ولكنّ أبا داود قد سكت عنه، والقاعدةُ عند أبي داود أنه إذا سكت عن الحديث فإنه حسنٌ عنده.

القول الثالث : أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ( إنها خُلقت من الشياطين ) علةٌ ظاهرة ، وذلك بأن الشيطان خُلق من نار ، ولا يُطفئ هذه النار إلا الماء ،

 وعلى كل حال عُلمت الحكمة أم لم تُعلم فالواجبُ الاتباع.

 

وهناك من يقول : بأن الوضوء من لحم الإبل المراد منه غسْلُ اليدين، ويستدل على ذلك بحديث ( بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ) وهو بهذا ينقُضُ ترجيحنا السابق، فيكون الأمر بالوضوء مما أكله الإنسان من لحوم الإبل أمْرٌ بغسْلِ اليدين، وليس هو الوضوء المعروف، الذي هو غسل أعضاء الوضوء الأربعة؛ والصحيح: أن الوضوء هنا هو الوضوءُ الشرعي، وذلك لأن الحقيقة الشرعية مقدمةٌ على الحقيقة اللغوية ، والوضوء إذا أطلق في الشرع فالمراد منه الوضوء الشرعي ، الذي هو غسل أعضاء الوضوء.

وأما حديث ( بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ) فهو حديثٌ ضعيف ، ومما يؤكد ضعفه أن النبي ﷺ عمم ،و لو صح هذا الحديث فهو عام في أي أكل ، ومع ذلك قال النبي ﷺ لما قدم إليه طعام” ” ألا تتوضأ  ؟ فقال : إنما أمرت بالوضوء عند الصلاة”

 ثم لا يستقيم لكم هذا القول، وهذا هو الوجه الثاني ، وذلك بأن تعليلكم بأن لحم الإبل له دسومةٌ منتقض بلحم الغنم ، ولذا أيُّ أكْلَةٍ فيها دَسَم يُستَحَبُّ منها غَسْلُ اليدين ، قال النبي ﷺ ( من بات وفي يده ريح غمرٍ فمات فلا يلومنّ إلا نفسَه ) وذلك لأن الدسم يأتي بالهوام فلعل هامة تلدغه أو تلسعه فحذر  النبي ﷺ من ذلك .

وأما مَسُّ اللحم فليس بناقض للوضوء وذلك أن النبي ﷺ ( مر على رجل وهو يسلخ شاة ولم يحسن فأدخل النبي يده بين جلدها ولحمها حتى بلغ إبطَه ثم صلى ولم يتوضأ) وهذا ثابت في سنن أبي داود.

 

 

ولو قال قائل / قلتم إن لبنَ الإبل يستحبُّ منه الوضوء، أوليس هناك حكمٌ آخَر بهذا اللبن؟

فنقول إن اللبن بعمومه سواء كان لبنَ إبلٍ أو غنمٍ أو بقر أو نحوِه، السنةُ فيه أن يتمضمض بعد شُربِه،

 قال النبي ﷺ: ” مَضمِضُوا من اللبن فإن له دَسَمًا “

فأمر بالمضمضة بعد شرب اللبن لدسومته، جاء في الصحيحين

“عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ شَرِبَ لَبَنًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَتَمَضْمَضَ، وَقَالَ: إِنَّ لَهُ دَسَمًا “

 

 

 وقد قال ابن حجر رحمه الله: إن العلة هنا منصوصٌ عليها وهي: الدسومة؛ ولذا المقرر في الأصول [ إن كلمة (إِنَّ) تفيد التعليل ] أي لأن له دسما.

قال تعالى عن بلقيس، وقلتُ بلقيس بناءً على ما يُذكر من بيانِ اسمِها ولا أعرفُ أن هناك نصًّا بأن اسمَها بلقيس إنما هو منقولٌ في كتبِ التفسير، وعلى كل حال:

 قال تعالى عن هذه المرأة { وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين }

  أي: لأنها كانت من قوم كافرين

فقال ابن حجر: يشملُ هذا كلَّ مأكولٍ فيه دُسومة لبنٌ أو غيرُه.

بل قال بعضُ العلماء: إنه يستحب بعد كلِّ مأكول له دسومة أو ليست له دسومة، وذلك حتى لا ينشغلَ بما في فمه في صلاته.

ونحن نقول: وإن كان هذا التعليل له وِجهه إلا أن حديث (  تمضمضوا من اللبن ) شامل وعام، لمن أراد الصلاة أو لم يردها،

ولو قال قائل: الأمرُ في قوله ( تمضمضوا من اللبن ) لم لا يكون للوجوب للقاعدة الأصولية أن الأمر يقتضي الوجوب؟

فنقول: إن هناك حديثا عند أبي داود صَرَف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب وهو:

 ( أن النبي ﷺ شرِبَ لبنا وصلى ولم يتمضمض ) فيكونُ تركُه ﷺ للمضمضة لبيان الجواز لا لنفي الاستحباب، عملا بالقاعدة الشرعية [ إعمالُ الدليلين أولى من إلغاءِ أحدهما ].

وأكْلُ لحمِ الجَزور ناقضٌ للوضوءِ مطلقا، سواءٌ كان عالما أو جاهلا أو ناسيا، فبمجرد أكلِه للحمِ الجَزور يكونُ ناقضا لوضوئه.