بسم الله الرحمن الرحيم
باب الغسل/ الدرس الثالث والخمسون
من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهناك شروطٌ للغُسل:
أولا/ النيّة: لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرَ – رضي الله عنه- الحديث المعروف:
” إنما الأعمالُ بالنيات “.
ثانيا/ الإسلام. ثالثا/ العقل. رابعا/ التمييز.
والإسلامُ والعقلُ والتمييز شروطٌ ثلاثة تجبُ في كلِّ عبادة ما عدا الحج، فإنه لا يشترطُ فيه التمييز.
خامسا/ انقطاع ما يُوجِبُه، ولذا لو اغتسلت المرأةُ الحائضُ والدمُ معها فإنَّ غُسْلَها لا يصح.
سادسا/ إزالةُ ما يمنعُ وصولَ الماءِ إلى البشَرة، فلو كانت هناك مواد على الجسم، هذه المواد لها أجرامٌ تمنعٌ وصولَ الماءِ إلى البشَرة، فإن هذا الغُسلَ لا يصح، لأن الواجبَ في الغُسل أن يُعَمَّمَ البدنُ كلُّه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: [ يجوزُ للجُنب المُكثُ في المسجدِ بوضوء ]
الجنب لا يجوز له أن يبقى في المسجد وأن يمكُثَ فيه، لقول النبي ﷺ كما في سنن أبي داود:
” لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ “
ولقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ}
فهذه هي أدلةُ تحريمِ المُكثِ في المسجد؛ والمُعَوَّلُ على الآية: ذلك لأن الحديثَ في سَنَدِه ضَعف،
واستثنى عزوجل عابِرَ السبيل قال: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ}
فالجُنُب لو عَبَرَ المسجدَ، أيجوزُ له ذلك؟
-وكلُّ هذا إذا لم يكن هناك وضوء- فإذا عَبَرَ المسجدَ أو دَخَلَ المسجدَ مِن غيرِ مُكْثٍ أيجوزُ له ذلك؟
قال بعضُ العلماء: لا يجوزُ له إلا إذا كان في السفر، لقوله عز وجل:
{وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ} فقُيِّدَت الآيةُ بالسفر،
ولكنَّ الصحيح: عدمُ تقييدها بالسفر، وإنما المرادُ بالعبور: العبورُ المعروف، وذلك لأن الآيةَ ذَكَرَت السفر بعد ذلك: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ}
وهذا تِكرارٌ يُصانُ عنه القرآن، إلّا إذا وُجِد لهذا التكرار للشيءِ الواحدِ معنًى وفائدة،
فيجوزُ أن يعبرَ المسجدَ لقوله عز وجل: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ}
ولأن النبي ﷺ قال لعائشةَ -رضي الله عنها- ذات يوم: ” نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ “
والخُمرةُ: نَسْجٌ مِن الحصير، يَسَعُ لسجودِ الإنسان على وجهه، وقد تكونُ أكبرَ مِن ذلك،
فقالت: إِنِّي حَائِضٌ. فَقَالَ: ” إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ “.
فهذا هو القولُ الصحيح: أنه يجوزُ العُبورُ ولو مِن غيرِ وُضوء، أمّا إذا توضأ فلا وجهَ للنزاع؛
ولكن/ هل يُقّيّدُ هذا العبورُ بالحاجةِ أو لا يقيد؟
قال بعضُ العلماء: يجوزُ له أنه يعبرَ المسجدَ لحاجة،
وأما إذا لم تكن هناك حاجة فإنه يُكره، لقوله ﷺ: ” إن المساجدَ لم تُبنَ لهذا “.
وقال بعضُ العلماء: أنه لايكره لأن الآيةَ أطلقت ولم تذكر الحاجة.
وبالنظر إلى ما جاء من نصوصٍ أخرى في صيانة المسجد وعدم اتخاذه طرقًا فإن التقييد بالحاجة له وجهٌ قويّ؛ فلو توضأ وعبر لجاز، ولو توضأ ومكث في المسجد لجاز؛
ويدل على الجواز: أن عطاء ابن يسار قال: ” أن الصحابة رضي الله عنهم إذا كانوا جنباً وأرادوا المُكثَ في المسجد توضؤوا ” قال ابنُ كثير رحمه الله: إسناده صحيح؛
فَفِعلُ الصحابةِ -رضي الله عنهم- يدل على الجواز.
والمراد الجنب أما الحائض والنفساء فلا يجوز لهما أن تبقيا في المسجد ولو بوضوء:
وذلك لأن الأصلَ النهيُّ للجميع، لكنَّ فِعلَ الصحابةِ -رضي الله عنهم- في الجنابةِ أخرج الجنابةَ مِن هذا الأصل، ومما يدل على أن الحيض والنفساء ليس داخِلَين في حكمِ الجنب:
استعظامُ عائشةَ -رضي الله عنها- أن تأتيَ بالخُمرة، وإلّا لتوضأت أو لبيّنَ لها النبي ﷺ لأنها قد جَهِلَت هذا المرور وهذا العبور، فَجَهْلُها بالمُكْثِ أولى لكنها-رضي الله عنها- مِن قَولِها يدل على أنَّ الحائضَ والنُّفساء ليستا داخِلَتَين في حكمِ الجُنُب؛ ولو كان كذلك لما أمَرَ النبي ﷺ كما في حديثِ أم عطيّةَ في الصحيحين أن تعتزِلَ الحِيَّض المُصلى -على القولِ بأن مصلى العيدِ مسجد –
ولأن الوضوءَ لا يؤثر في الحيضِ والنِّفاس بينما الوضوء يؤثر الجنابة، ولذا سئل النبي ﷺ عن الجنب ينام كما في الصحيحين قال: ” اسْتَفْتَى عُمَرُ النَّبِيَّ ﷺ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ ” وفي رواية قال: ” نَعَمْ لِيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَنَمْ حَتَّى يَغْتَسِلَ إِذَا شَاءَ “
وكان عليه الصلاةُ والسلام يتوضأ إذا أراد أن ينام إذا كان جُنُبًا.
وهل يتيمم يَحِلُّ مَحَلَّ الوضوء إذا وُجِدَ الماء أو لم يوجد؟
لم أرَ مَن تعرض لهذه المسألة، ولكن إن كان الماءُ غيرَ موجود: فإنه يجوز وهذا لا إشكالَ فيه وذلك لأنه يصلي بهذا التيمم فالمُكثُ مِن باب أولى.
وإما إذا لم يكن عادماً للماء وإنما كَسَلَ وعَجَزَ عن الوضوء، فهل له أن يَمكُثَ في المسجدِ بتيمم؟
مَن ينظُرُ إلى هذا الأثر يرى أنه لا يمكُثُ إلا بوضوء؛ ومَن نظر إلى ما صَحَّ عنه عليه الصلاةُ والسلام أنه إذا جَامَعَ أهلَه وكَسَلَ أن يتوضأ ضَرَبَ بيدَيه الحائط فيتيمم، فقد يُقالُ بأن التيممَ يُغني مع وجودِ الماء، والذي يظهُر: أنه لا يُغني، أما ما فَعَله عليه الصلاة والسلام فهذا فيه دلالةٌ على تخفيفِ الجنابةِ بالتيمم ولا يعني جوازَ المُكثِ في المسجدِ به؛
ولو قيل إن النبي ﷺ قال: ” الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ “
فنقول: إنه وَضوء المسلم عند عدمِ الماء كما هو منصوص هذا الحديث: ” الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ عَشْرِ سِنِينَ إذا لم يجد الماء “.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجُنُب يُسَنُّ له الوُضوء في مواضع:
أولا/ إذا أراد أن يأكُلَ أو أن يشرب؛ سُئل عليه الصلاةُ والسلام كما في السنن:
“أيأكُل أحدُنا أو يشرب وهو جنب؟ قال ﷺ: نعم إذا توضأ “
وقد جاء في سنن ابن ماجه أن الرسول ﷺ: إذا كان جُنُباً وأراد أن يأكل غَسَلَ يدَيه؛ فدل على أنه يُجزئُ الاكتفاءُ بِغَسْلِ اليدَين عند إرادة الأكل لمن كان جُنُباً، وإن كان الأولى الوضوء، لأن الوضوءَ فيه غَسْلٌ لليدَين وزيادة.
وإذا أُطلِقَ الوُضوء فالمراد منه: الوُضوء الشرعي لا اللُغويّ، لأن الحقائقَ الشرعية يجبُ أن تُؤخذَ من قائلها بناءً على الأصل ولا يصِحُّ أن تُحمَلَ على حقيقةٍ لُغَوية، لوكان المتحدثُ لُغويًّا لَحُمِلَ الوُضوءُ على حقيقتِه اللُغوية.
ومن الأحوال التي يسن فيها الوضوء للجنب:
إذا أراد أن يُجامِعَ زوجتَه مرةً أخرى، لقوله ﷺ كما عند مسلم:
” إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَلْيَتَوَضَّأْ “
وهذا الأمْرُ للسنية وليس للوجوب، لما جاء عند ابنِ خزيمةَ وغيرِه قال ﷺ: ” فإنه أنشَطُ للعَود “
فهذه العلةُ صَرَفَت هذا الأمْرَ مِن الوجوبِ إلى الاستحباب،
ويدل له أن النبي ﷺ كما جاء في الصحيح عند مسلم: ” طاف على نسائه في غُسْلٍ واحد “
فقد يُفهَمُ منه أنه تَرَكَ الوُضوء، وقد يُفهَمُ منه عدمُ تَرْكِ الوُضوء، فالعمدةُ على ما جاء عند ابنِ خزيمة، وهذا من باب التأييد،
وجاء في رواية البخاري: ” أنه طاف على إحدى عشرة امرأة من نسائه ” فقيل لأنس: أيُطيق ذلك؟ فقال: كنا نتحدثُ أنه أُعطِيَ قوةَ ثلاثين رجلاً”
وهذا يُحمَلُ على أنه ﷺ ما كان يجبُ عليه القسْم بين نسائه؛ وعلى القولِ بوجوب القسْم عليه -والمسألة في باب عِشرَةِ النساء- يكونُ فِعلُه إذا قَدِمَ مِن سَفَر، وذلك لأنه لا يجوزُ للرجلِ أن يُجامِعَ امرأةً في غيرِ نَوبَتِها مِن غيرِ إذنِ ضُرَّتِها.
والأفضلُ بين الجماعَين أن يغتسل: قد جاءت في السنن أنه ﷺ أتى زوجاته واغتسل عند كلِّ واحدة، فقيل: ألا يكفي غُسْلٌ واحد؟ فقال ﷺ: “هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ”
فبعضُ العلماء قال: إن حديثَ أنس هو الأرجَح لأنه في الصحيح؛ ولكنَّ الصحيحَ أنه ﷺ فَعَلَ هذا مرة وهذا مرة؛ وأن تَرْكَه للإغتسال في كلِّ مرة في حديثِ أنس لبيانِ الجواز وأنه ليس للوجوب.
ومن الأحوال التي يتوضأ فيها الجنب:
عند النوم؛ والوُضوءُ عند النومِ مُطلقا للجنب وغيره مستحبٌّ كما هو معروف:
” إذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ “
لكن إن كان جُنُبًا فإنه يُسَنُّ له أن يتوضأ بل يتأكّدُ ذلك في حقِّه، والدليل أن النبي ﷺ سألَه عمر -رضي الله عنه- ” أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَال ﷺ َ تَوَضَّأَ واغسِل ذَكَرَك”
وإنما قيل بالتأكيد خيفةً مَن أن تُقبَضَ روحُهُ وهو على غيرِ طهارة، وقد كان عليه الصلاةُ والسلام يتوضأ عند النومِ إذا كان جُنُبًا -وكما سبق: إذا كَسَل تيمم-
وهذا الحديث فيه أمْر، والأمرُ يقتضي الوجوب، قال: ” ليتوضأ ” ولكنَّ هذا الأمْرَ مصروفٌ عن الوجوبِ إلى الاستحباب، وذلك لأنه قال ﷺ: ” يتوضأ إن شاء”
قال ابنُ حَجَر في التلخيص -تلخيص الحديث- قال: أصلُ هذا الحديث في الصحيحين مِن غيرِ زيادة:
” إن شاء”؛ وقال الألباني في آداب الزفاف: (بل إنها عند مسلم بهذه الزيادة) وأنا لم أطَّلِع وإنما العُهدةُ على الألباني رحمه الله، وعلى كل حال سواء كانت عند مسلم أو لم تكن فهي زيادةٌ مقبولة.
ومما يُستدلُّ على أن الوضوء للجنب عند النوم مستحب: حديثُ عائشةَ -رضي الله عنها- كما في السنن، سنن أبي داود والترمذي أن الرسول ﷺ: “كان ينام جنباً من غير أن يمَسَّ ماء” وهذا الحديث قد ضعفه بعضُ العلماء لتدليس أبي إسحاق، ولأن في المتن نكارَه، ذلك بأن جملة “من غير أن يمس ماء” رواها أبو إسحاق وهو مدلس، ولأن تتمة الحديث ” كان إذا نام وهو جنب توضأ “
فدل على أن المراد – إن صح هذا الحديث – أنه لم يمس ماءً للغُسل وليس للوُضوء.
وبعض العلماء يصححه كالألباني، ويقول: إن أبي إسحاق قد صرح بالسماع؛
وعلى كل حال فالسنية دل عليها قوله: ” يتوضأ إن شاء”.
والجُنُب قد جاء حديثٌ أن الرسول ﷺ قال: ” لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ “
وهذا الحديث فيه إشكال: كيف لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب، مع أن الرسول ﷺ كان ينام جُنُبًا؟
ولذا لما سُئلت عائشة رضي الله عنها، هل كان يغتسلُ أولَ الليل؟
فذكرت أنه كان يغتسل أحيانا أولَه وأحياناً آخِرَه؛ فقال السائل: الحمد لله الذي جعل في الأمر سَعَة ” وكذلك يعارض ما أوصى به الرسول ﷺ لما سئل:
” اسْتَفْتَى عُمَرُ النَّبِيَّ ﷺ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ “
فهذا الحديث، حديث ” لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ ” ضعفه بعض العلماء لوجود هذا التعارض، وبعض العلماء يُصححه وممن يُصححه الألباني، وقد ذَكَرَ شُرّاح الحديث -وهو في السنن – ذكروا جوابًا عن هذا الإشكال وهو: أن المراد بالجنب الذي يؤخر الغُسل عن وقت الصلاة، وليس المراد به الجنب الذي يؤخره إلى وقت الصلاة.