بسم الله الرحمن الرحيم
الفقه الموسع – باب المياه – الدرس السادس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحث في الطهارة: ( أقسام المياه والنجاسات )
النجاسة المغلظة
ــــــــــــــــــــــــــــ
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة/ [ما سُبِّلَ للشرب لا يتوضأ به ما لم يدل عرف أو قرينة على السماح بالوضوء به ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ هذه المسألة ذكرها ابن القيم رحمه الله
ووجه هذه المسألة:
أن الوَقْفَ لا يُصرَفُ عن جهته التي عُيِّنَ لها إلا إذا وُجدت مصلحةٌ على أحد الآراء إذا وصلنا إلى باب الوقف.
فالأصلُ أن الوقف لا يكون إلا في الجهة التي عُيِّن فيها
مثال ذلك في هذه المسألة:
الماء الموقوف للشرب فقط؛ لو احتاج الإنسان إلى أن يتوضأ منه أيجوز له؟
الجواب/ لا يجوز، فلا يُتعدّى بهذا الوقف عن مَصْرِفِه الذي عُيّنَ له إلا إذا وُجِدَ عُرف،
وذلك أن ينطبق العرف على أن مثل هذا يتسامح فيه
وشرط العادة: أن تكون مطردة أو غالبة للقاعدة الفقهية :
[ العادة مُحَكَّمَة إذا اطَّرَدَت أو غَلَبَت ]
فإذا انطبق عُرفُ الناس على التسامح في هذا الشيء أو غَلَب عرفُ الناس دون القليل على التسامح في هذا الشيء فيجوز،
أما إذا اضطربت العادة فلا تُحَكّم
وذلك: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في سنن أبي داود :
(( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ) )
وقال عليه الصلاة والسلام: (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرام ) )
فالأصلُ في مال الإنسان الحُرمَة
فإذا صرفه إلى ما شاء فلا يُتَعدى في هذا المال عن مصرفه
أو تدل قرينة: وذلك أن تكون هذه القرينة قوية، لأن القرائن معتبرة في الشرع
ودليلها: ما ذكره جل وعلا في سورة يوسف:
(( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ{26} وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ{27} فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ{28} )) وهذا شَرْعٌ لمن قبلنا
والصحيح: كما هو مقرر في الأصول -باختصار -أن شرع مَن قبلنا شرعٌ لنا ما لم يأت شَرْعُنا بخلافه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سؤال/ المياه الموضوعة في الحرم هل يجوز أن يتوضأ منها ؟
الجواب/ القرينة تدل على الجواز، فهذا مما تتسامح فيه الدولة
بدليل أنه لا يُنهى عن هذا الفِعل، فالقائمون والمشرفون على الحرم لا يَنهون عن هذا، فهناك قرينة قوية في التسامح في هذا
ثم إن ماءَ زمزم لم يوقفه أحد إنما هو مشاع لجميع الناس
والنبي صلى الله عليه وسلم شرِب منه وتوضأ كما جاء في المسند .
فإذا كانت برّادات: فالأصل أنها للشرب وليست للوضوء، وهذا معروف،
وأما إن كانت غير برّادات، ولم تُوضَع لافتة أنه مخصص للشرب: فيكون ماءً شائعا يجوز للشرب وللوضوء.
مسألةٌ خلافيّة بين العلماء سيأتي لها حديثٌ إن شاء الله في الصلاةِ في الأرضِ المغصوبة وفي الثوب المغصوب.
ومما يجدر التنبيه عليه هنا، كما قال ابن القيم رحمه الله :
[ أنه لا يَحمل من هذا الماء شيئا ما لم تكن هناك ضرورة ]
لأن الأصل أن هذا الماء موقوف ومُسَبَّلٌ على هذه الجهة، فلا يجوزُ حَمْلُ الماء كما هو مشاهَدٌ في هذا العصر يأتون إلى برادات المياه في المساجد ويحملون المياه منها: فهذا لا يجوز إلا إذا وُجدت الضرورة للقاعدة: [ الضرورات تبيح المحظورات ]
إذا وجدت قرينة: فيجوز.
إذا لم توجد قرائن: فلا يجوز، فيبقى الماء على ما هو عليه وليس الحكم خاصا بالبرادات قد يكون الماء في غير برادة وأراد هذا الواقف أن ينفع المصلين بهذا المسجد، فحديثنا ليس عن منطقة معينة وإنما الحديث عام، من أنه لا يُحمَلُ من هذا الماء شيء إلا إذا كان مضطرا، أو كما سبق إذا دل العرف أو القرينة على التسامح بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة/ [ كَرِه الفقهاء استعمالَ ماء بئر بمقبرة،
وكذا كرهوا أخْذَ شَوكِها
وكرهوا ما اشتدت حرارتُه أو برودتُه
وكذا ما سُخِّنَ بنجِس
ولا دليل على ذلك إنما مَظِنَّةُ النجاسة أو مَظِنَّةُ عدم إسباغ الوضوء ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح/ هذا المسألة لها عدة فروع :
الفرع الأول/ استعمال بئر بمقبرة:
الحامل للفقهاء على ذِكْرِ هذه المسألة :
أنهم يرون أن المقبرة قد ينبعث منها صديد وقيح من الموتى
والقيح والصديد عند فقهاء الحنابلة :
يرون أنهما نجسان، ومن ثم يكره استعمال هذا الماء لأنه مظنة النجاسة.
والصحيح:
أنه لا يُكره لعدم وجود دليل على الكراهة، لأن الكراهةَ حكمٌ شرعيّ تحتاجُ إلى دليل.
أما ما ذكروه من أنها مظنة النجاسة :
فلا نسلم بأن الكراهة تكون واقعة على هذا الماء بهذا الظن ، لأنه كما سبق في القواعد الفقهية المستوحاة من حديث عبد الله بن زيد كما في الصحيحين :
[ أن اليقين لا يزول إلا بيقين ]
[ اليقين لا يزول بالشك ]
[ والأصل بقاء ما كان على ما كان ]
[ ولا عبرة بالتوهم ]
فلا يكفي هذا الظن دليلا على الكراهة؛ هذا إن سَلّمْنا لكم بأن القيحَ والصديد نجسان
والصحيح : أن القيح والصديد ليسا بنجسين .
وسيأتي حديث حول مسألة الصديد والقيح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع الثاني: [ وكذا أخْذَ شوكِها ]
والعلة فيها كالعلة السابقة ، والجواب عنها كالجواب السابق .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرع الثالث/ [وكذا ما اشتدت حرارته أو اشتدت برودته في إزالة الحدث ]
فيُكره استعمال هذا الماء الحار شديد الحرارة واستعمال الماء البارد شديد البرودة
ومرادُهم بالكراهة في إزالة الحدث :
وذلك لأن استعمال الماء الحار أو الماء البارد مَظِنّةُ عدم الإسباغ،
والصحيح: أنه لا دليل على الكراهة ، لأن الإنسان قد يحصل له الإسباغ مع شدة حرارة الماء أو شدة برودته
ولذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ))
ذكر منها : (( إسباغ الوضوء على المكاره ))
فدل هذا الحديث على أن الإسباغ قد يحصل مع شدة حرارة الماء أو شدة برودته
وقد دخل بعض الصحابة في حماماتٍ حارّة وتوضؤوا منها
ولا يعني أن يُقدِمَ الإنسانُ على الماء شديد الحرارة أ وشديد البرودة لأن الإنسان مأمورٌ بأن يأخذ بالأسهل على نفسه؛ لأن البعض قد يتوهم من حديث : (( إسباغ الوضوء على المكاره ))
قد يتوهم بأن الشرع يأمر بهذا وليس كذلك ، وإنما الحديثُ جاء لبيان أن الإنسان إذا لم يجد سوى هذا الماء فليصبر، ولا تكون شدةُ حرارته أو برودته مانعةً له من الإسباغ
ويشبه هذا : قوله عليه الصلاة والسلام كما في البخاري :
(( أجرك على قدر نصبك )) لما قال ذلك لعائشة رضي الله عنها
ومن ثم :
إذا وُجد للعبادة طريقان أحدُهما أسهل من الآخر فالمشروع أن يسلك الأسهل،
أما غيرُ الأسهل فليس من السنة أن يُسلَكَ إلا إذا لم يجد غيرَه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرعُ الرابع: ما سُخِّن بنجِس
وصورة هذا الفرع: أن يكون هناك ماء طَهور شديد البرودة فيسخن على نار مكونات هذه النار من روث حمار أو روث كلب
فيقول الفقهاء :
يُكره استعمال هذا الماء
وذلك لأن دخان النجاسة لا يؤمن من أن يصل شيء منه إلى هذا الماء، فلهذا الظن كُرِه
ولكن الصحيح :
أنه لا يكره، حتى على القول بأن دخان النجاسة نجِس، وذلك لأن الكراهة حكم شرعي فلا تثبت إلا بدليل، وما ذكرتم إنما هي ظنون وسبق الرد على هذه الظنون في الفرع الأول والثاني،
هذا إن سَلّمنا بأن دخان النجاسةِ نجِس.
القول الثاني/ يقول بأن دخان النجاسة ليس بنجس
وهذه المسألة هي ما تسمى بمسألة : [ استحالة النجاسة ]
فإذا استحالت النجاسة إلى شيء آخَر :
فهل تبقى على نجاستها باعتبار أصلِها، أم أنها تطهُر بناءً على أنها انتقلت مِن أصلِها واستحالت منه إلى شيءٍ آخَر؟
قولان لأهل العلم
المشهور من المذهب :
يرى أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة فدخان النجاسة ورمادها ونحو ذلك لا يكون طاهرا .
القول الثاني :
وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، ويُدافع عنه مدافعةً بليغة فيقول رحمه الله :
إن النجاسة تطهر بالاستحالة
ويستدل على ذلك بأدلة، من بينها :
قوله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم :{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ }
والنجاسة بعد استحالتها خرجت عن النجاسة إلى الطهارة
ومن بين الأدلة: قوله تعالى :
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ}
فأصلُ هذا اللبن السائغ المحبب شُربُه أصلُه خارِجٌ مِن بين فَرْثٍ ودم.
ومن بين الأدلة :
أن بعض الصحابة كان يُسَمِّدُ بستانَه بَعَذرة الإنسان، ثم يبيع ثمارَها، مع أن هذه الثمرة سُمِّدَت أو سُقِيَت بنجِس
ولذا قال رحمه الله: [ لو أن كلبا وقع في مِلاحَةٍ فأصبح مِلحا جاز أكلُه، وذلك لأنه استحال من شيء إلى آخر ]
وعلى قوله رحمه الله ينسحب هذا الحكم على كل نجس مغلظ أو غير مغلظ
ولا شك أن قوله قوي، لكن يعكر عليه عندي حديث عند أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام :
(( نهى عن أكل الجلَّالة وعن شرب ألبانها ))
والجلّالة هي :
الدواب التي يكون أكثرُ عَلَفِها النجاسة، كالدجاج والغنم ونحو ذلك، وسيأتي حديثٌ عن الجلالة في مسألة قادمة إن شاء الله تعالى
ووجه الاستدلال من هذا الحديث مما يعكر على قوله :
أن هذه النجاسة التي أكلتها هذه البهيمة استحالت إلى لحم وعظم ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكْلِها وعن شُربِ ألبانِها ،
فهذا الحديث مما يعكر على ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله .
ولكن يقال: إن مسألة تحريم أكل لحم الجلالة وشُربِ ألبانها ليست محل وفاق إنما هي محل خلاف :
فالذي لا يرى جوازَ أكل لحم الجلالة وشرب ألبانها هو المذهب الحنبلي ،
أما الأئمة الثلاثة فيرون جواز أكل لحم الجلالة وشرب ألبانها، لكن النهي عندهم نهي تنزيه وكراهة .
ولكن الصحيح :
أنه لا يجوز أكلُها ولا شُرْبُ لبنِها، حتى ولو خالف هذا القول قول الأئمة الثلاثة
وذلك لأن النهي صريح ، والنهي ــ كما هي القاعدة الأصولية :
[ النهي يقتضي التحريم ما لم يأت دليل يصرفه من التحريم إلى الكراهة ]
ولم يأت دليل
ومن ثم : يظل المُعَكِّرُ قائما إن لم يكن هناك جواب آخر
ونقول :
” يمكن أن يكون هناك جواب بحيث لا يتعارض هذا الحديث مع ما يراه شيخ الإسلام رحمه الله “
وذلك :
لأن أدلته قوية
فيحمل حديث النهي عن أكل الجلَّالة وعن شرب لبنها وعن الركوب عليها، يحمل على أن النجاسة لم تستحل استحالةً كاملة، لأن اللحم السابق استحال عن أصْلِه النجِس إلى لحمٍ وعظم،
لكن النجاسةَ الحاضرة ما زالت موجودةً بوجود رائحتِها
ولذا قال العلماء :
[ القائلون بجواز أكلها إذا حُبست يقولون : ” يجوز أكلها إذا حبست مدة معينة ]
وهذا المدة تختلف من حيوان إلى آخر :
[ فعندهم الدجاج يُحبس ثلاثة أيام
وأن الغنم تُحبس سبعة أيام ،
وأن الإبل والبقر تُحبس أربعين يوما ]
وبعضهم يقول :
تُطعَم الطعام الطاهرَ حتى يكون أكثرَ أكلْها .
وبعضهم يقول وهو الصحيح :
أنها تُحبس حتى تزول رائحة النتن والنجاسة منها.
فعلى هذا :
فإن العلماء يرون قاطبة من يقول بنهي التحريم أو بنهي الكراهة يقولون :
[ تُحبس ]
وما حملهم على القول إلا لأن هناك أثرا لهذه النجاسة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ