بسم الله الرحمن الرحيم
باب التيمم – الدرس الثاني والستون- من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ/ زيد البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ مبطلات التيمم ]
[التيمم آخر الوقت لراجي الماء أفضل]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مبطلات التيمم
المُبطِلُ الأول/ أن ينتقض هذا التيمم بأحد نواقض الوضوء – التي سبق شرحُها –
فلو أنه أكَلَ لحمَ جَزور: فينتقُضُ تيممُه،
ولو أنه خَرَجَ مِن سبيلَيه شيء مِن ريحٍ أو بول: فإن تيممَه ينتقض،
فمبطلاتُ الوضوء هي مبطلاتُ التيمم.
المُبطِلُ الثاني/ وجودُ الماء لمِن عَدِمَه، وقيّدنا بالعَدَم لأنه يجوزُ أن يتيممَ المريضُ ونحوُه مع وجودِ الماء،
فإذا وَجَدَ العادَمُ الماءَ فإن تيممَه ينتقِض، والدليلُ على هذا ما يأتي:
أولا/ جاء في الصحيحين أن النبي ﷺ قال لذلك الرجل: ” عليك بالصعيدِ فإنه يَكفِيك ” فيما وَجَدَ النبيُّ ﷺ الماءَ أعطاه دَلوا وقال: ” خُذْ هذا فأفْرِغْهُ عليك “.
ثانيا/ قول النبي ﷺ عند الترمذي: ” الصعيد الطيب طَهور المسلم “
وفي رواية أبي داود:
” الصَّعيد الطيّب وُضُوء المسْلم، وإِن لم يَجِد الماء عَشر سنين، فإِذا وجَدَ الماء فَلْيَتَّقِ الله ولْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فإِن ذلك خيرٌ “
ثالثا/ مفهوم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}
فدلَّ على أنه إذا وُجِدَ الماءُ فلا تيمم، لكن هذا الماء إذا وُجِد فلا يخلو:
إما أن يوجدَ قبلَ الصلاة،
وإما أن يوجدَ في أثناءِ الصلاة،
وأما أن يُوجدَ بعد الصلاةِ ولم يخرُج وقتُها،
وإما أن يوجَدَ بعد خروجِ وقتِ هذه الصلاة.
فإن وُجِدَ الماءُ قبل الشروعِ في الصلاة: انتقَضَ تيممُه ولم تصح صلاتُه.
وإن وُجِدَ الماءُ أثناءَ الصلاة: فقد اختلف العلماءُ في هذا:
هل ينتقِضُ تيممُه ومِن ثَم تبطُلُ صلاتُه؟ أم أن تيمُمَه باقٍ ومِن ثَم فصلاتُه صحيحة؟
القول الأول: إن تيممه لا ينتقض، وذلك لأنه دخل في هذه الصلاة بمقتضى أمر الشرع فلماذا نُبطلُها؟! فهذا الرجلُ قد بَذَلَ وِسْعَه، فإبطالُ صلاتِه لا دليلَ عليها.
القول الثاني: أن تيممه يبطُل، ومِن ثَم فإن هذه الصلاة تبطُلُ ببُطلان تيممه، وهذا هو الراجح،
وأدلةُ رُجحانِ هذا القول ما يأتي:
أولا/ عمومُ قولِه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ولم يستثنِ جل وعلا لا قبل الصلاة ولا في أثنائها.
ثانيا/ عموم قولِ النبي ﷺ: ” فإذا وَجَد الماء فليتق الله ولْيُمِسَّه بشرتَه “.
وقد أجاب أصحابُ القولِ الأول عن هذه النصوص:
بأنها محمولةٌ على حالةِ إذا لم يجد الماءَ قبلَ الشروعِ في الصلاة، أما في أثنائها فلا تُحمَلُ هذا المَحمَل، والاحتمالُ إذا طرأ على الدليل بَطَلَ به الاستدلال.
ويُرَدُّ عليهم: بأن الاحتمالَ يجبُ أن يُقَيَّدَ بتقييد وهو: الاحتمالُ القويّ، فإذا طرأ الاحتمال القوي على الدليل بطَل به الاستدلال؛ أما هذا الاحتمالُ فليس بقوي؛ ويعارضُه قاعدةٌ تقول -وهي قاعدة أصولية -:
[ أن الأصلَ في العام أن يبقى على عمومه حتى يرِدَ مُخَصِّص ]
أما إذا وَجَد الماء بعد الصلاة قبل خروجِ الوقت:
فإنه لا يُعيدَ الصلاة، بل لو أعادَها لكان آثِما، ودليلُ هذا ما جاء عند أبي داود:
” أن رجلين من أصحاب النبي ﷺ كانا في سفر، فافتقدا الماء فتيمما وصلّيا، فلما فَرَغا من الصلاة وَجَدا الماء، فأما أحدُهما فلم يصلِّ، وأما الآخَرُ توضأ وأعادَ الصلاة؛
فلما رجعا إلى النبي ﷺ أخبراه، فقال لمن لم يُعِد الصلاة ” أصبتَ السنة “
وقال لمن أعادها ” لك الأجرُ مرتين “
فهذا يقتضي:
إقرار النبي ﷺ بصحة الصلاة بالتيمم ولو مع وجود الماء بعد الصلاة قبل خروج وقتها.
أما قولُ النبي لمن أعادها ” لك الأجرُ مرتين ” بناءً على نيتِه لأنه كان جاهلًا بهذا الحكم، ولذا قال ﷺ ” أصبتَ السنة ” لمن لم يُعد، فدل على:
أن عدم إصابة السنة لا يكونُ صاحبُها مأجورا، ولذا قال كما عند أبي داود:
” لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ “
وأما إذا وُجِدَ الماءُ بعد خروجِ الوقت:
فالجوابُ فيها كالجوابِ في المسألةِ التي قبلَها.
وفي هذا الحديث المذكور فائدة، وهي:
صحةُ ائتمام المُتيمم بالمُتيمم، كما يصحُّ أن يكون المتيممُ إماما والمأموم متوضئا، لقصة عمرو بن العاص الذي تيمم وصلّى بأصحابه وكان جُنُبا،
ولأن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أمَّ ببعضِ أصحابِه وهو متيمم.
وحديث النبي ﷺ: ” الصعيد الطيب طَهور المسلم ” قاله لأبي ذَر لما تَرَكَ الصلاةَ لفِقدانِه للماء،
ومِن ثَم/ قال بعضُ العلماء: إن فاقِدَ الماءِ في الحَضَر ليس كفاقِدِه في السفر، فإن فاقِدَ الماءِ في السفر يجوزُ له أن يتيمم، لقوله تعالى:
{وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}
وأما في الحَضَر فقد اختلف العلماءُ في هذا:
فقال بعضُ العلماء: لا يصلي، وذلك لأن فِقدانَ الماءِ في الحَضَر نادر، والنادرُ لا حُكمَ له.
وقال بعضُ العلماء: يصلي وعليه أن يُعيدَ الصلاة إذا وَجَد الماء.
وقال بعض العلماء – وهو الصواب -: أنه يصلي ولا إعادة عليه،
والدليل على رُجحانِ هذا القول ما يأتي:
أولا/ الحديث الوارد عند أبي داود: لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ “
ثانيا/ حديث ” إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ” فقد قاله لأبي ذر وهو يسكن مدينةً آنذاك.
ثالثا/ أن ابن عمرَ رضي الله عنهما تيمم وهو عن المدينةِ يبعُدُ ميلًا أو ميلين ثم صلّى ودَخَلَ المدينةَ والشمسُ مرتفعة ولم يُعِدِ الصلاة، وبُعدُه مِيلًا لا يُعَدُّ سَفَرا،
فعمومُ هذه النصوص تَرُدُّ مَن يقولُ بأنه لا يصلي، أو يصلي لكنه يُعيد، ولذا قال النبي ﷺ:
” وإن لم يجدِ الماءَ عشرَ سنين، فإذا وَجَد الماءَ فليتَّقِ الله وليُمِسَّه بشرتَه فإنه ذلك خير ” وهذا عام، أي: بركة، سواءٌ كان في سفَرٍ أم في حضَر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة/ [ التيمم آخِرَ الوقتِ لراجي الماء أفضل ]
الشرح/ هذه المسألة لها تعلق بالمسألة السابقة، ومِن ثَم:
فإن عادم الماء في أولِ وقتِ الصلاة لا يخلو من حالات:
أولا/ أما أن يتقين عدمَ وجودِ الماءِ في الوقت.
ثانيا/ إما أن يغلِبَ على ظَنِّهِ عدمَ وجودِ الماء في الوقت.
ثالثا/ وإما أن يتيقن وجودَ الماءِ في الوقت.
رابعا/ وإما أن يغلب على ظنه وجودَ الماء في الوقت.
خامسا/ وإما ألا يحصُلَ له يقينٌ ولا غَلَبة ظن،
فهذه خمس حالات
فالحالةُ الأولى/ أن يتيقن عدم وجودِ الماء في الوقت: فالأفضلُ أن يصلي في أول الوقت، لعموم النصوص الآمِرَةِ بالمسارعة إلى الخيرات، ولِفِعلِ النبي ﷺ في إيقاعِ الصلاةِ في أول وقتِها،
ولأنه ﷺ لما سُئل: ” أيُّ الأعمالِ أفضل؟ قال: الصلاةُ لوقتِها ” وفي لفظ: ” لأولِ وقتِها “.
الحالة الثانية/ أن يغلِبَ على ظَنِّهِ عدمَ وجودِ الماء:
فهذا يصلي في أول الوقت، ولذا النبي ﷺ كما في المسند: تيمم، فقال بعضُ الصحابةِ: يا رسول الله إن الماءَ قريب، فقال: ” وما يدريني لعلّي لا أبلُغُه “.
الحالةُ الثالثة/ أن يتيقن وجودَ الماءِ في الوقت:
وهذه المسألةُ اختلف فيها العلماء؛ فقال شيخُ الإسلام في الاختيارات:
( يُصلي في أولِ الوقت ولو عَلِمَ وجودِه في آخِرِه )
قال الخطَّابي: هذا مقتضى قول النبي ﷺ للرجل: ” أصبتَ السنّة “
وقال بعض العلماء: يجبُ أن يؤخر الصلاة، لأنه يَصدُقُ عليه أنه وَاجِدٌ للماء، وهذا هو الصحيح،
أما قولُه ﷺ: ” أصبتَ السنّة ” فهو جوابٌ عن فِعلِ هذا الرجل إذ لم يُعِد الصلاة، وليس فيها دلالةٌ على أنه تيمم في أول الوقت مع عِلْمِه بوجودِ الماء.
الحالةُ الرابعة/ أن يغلب على ظنه أن يجِدَ الماء:
وهذه المسألةُ اختلف فيها العلماء:
فقال بعض العلماء: يجب أن ينتظر إلى آخِر الوقت.
وقال بعض العلماء: يُسَنُّ له أن ينتظر ولا يُلزَمُ بهذا؛ وهذا هو الصحيح، ودليل أن النبي ﷺ قال:
” لعلّي لا أبلُغُه “؛ ولأنه لا يدري هل يصِلُ إليه أو لا يصل،
ولأن صورةَ وُجودِه للماء ليست صورةً متحققة كالمسألةِ السابقة، فيكونُ القولُ الراجح:
أن مَن رَجِيَ وجودَ الماء في آخِرِ الوقت فيُستحبُّ له شريطةَ ألا يُفَوِّتَ واجبا وذلك كصلاةِ جماعة،
فإذا ترتب على تأخيرِه للصلاة حتى يجدَ الماء: فإنه لا يجوزُ له أن يؤخر الصلاة، لأن تقديمَ الواجبِ أولى مِن تقديمِ المَندوب.
الحالةُ الخامسة/ ألا يتيقنَ ولا يغلِبَ على ظنه:
وهذه يتيمم في أول الوقت، لأنه يَصدُقُ عليه أنه عادِمٌ للماء.
سؤال/ ما هو ضابط الاحتمال القوي؟
الجواب/ أن يكون له شيء من المستند الشرعي أو اللغوي.
هذه الحالاتُ الخمس قد يُعارِضُ بعضا منها ما جاء عند ابنِ شَيبةَ: أن عليًّا رضي الله عنه قال:
” يتلوّمُ الجُنُبُ ما بينَه وبين آخِرِ الوقت “
ووردَ عنه رضي الله عنه أنه قال: ” إذا لم يجد الماء فلْيُأخِّر الصلاةَ إلى آخِرِ الوقت “
وهذا الأثر يدل على أنه رضي الله عنه يرى أنه لا تقسيمَ هنا، وإنما على عادِمِ الماء:
عليه وجوبا أن ينتظر في حالةِ رجُوِّهِ لوجود الماء.
ولكن الصحيح: ما قَدّمْنا، قال البيهقيُّ رحمه الله:
فمع أنه موقوفٌ على عليٍّ رضي الله عنه فهو ضعيف، ونقولُ بما فَعَلَه ابنُ عمر إذ تيمم وهو عن المدينةِ يبعُدُ ميلا أو ميلين ومعه ظاهرُ القرآن، ولذا فالصحيحُ ما سَلَف مِن التقسيمِ السابق، فلا يَغْتَرَّ أحدٌ بهذا الأثرِ الضعيف.