بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني والسبعون من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: [يحرُمُ تأخير الصلاةِ عن وقتِها المُختار]
الشرح/ دليلُ هذه المسألة ما يأتي:
أولا: قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (1)
ثانيا: قوله عز وجل في صلاة الخوف: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] الآية
فلو كان تأخيرُ الصلاةِ جائزا عند العذر لكانت حالةُ الحربِ أولى بالتأخير.
وهذا التأخيرُ يشمل التأخيرَ للصلاة كلِّها بأن يوقِعَها خارجَ الوقت؛ وكذا يدخُلُ فيها تأخيرُ بعضِها:
كأن يوقِعَ البعضَ منها داخِلَ الوقت، والبعض الآخر خارجَ الوقت.
ويشمل هذا: التأخير عن وقتها الضروري، وهذا معروف؛ وكذا الوقتَ المختار.
والصلوات التي لها وقتان: وقتُ اختيارٍ ووقتُ اضطرار، هما صلاتان، إحداهما مُجمَعٌ عليها وهي (صلاة العصر) ولا يُعلَمُ فيها خلاف، والثانية: مختلفٌ فيها وهي (صلاة العشاء)
ومِن ثَم: فلا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة العصر حتى تصفر الشمس، لأنه وقت اختيار على قول، وعلى قولٍ آخَر: لا يجوز أن يؤخرها إذا صار ظل الشيء مثلَيه، وعلى هذا:
فيجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يؤديَ الصلاةَ في وقتِها، ولا يجوزُ له أن يؤخرَها لأيِّ عذرٍ مِن الأعذار، فيصلي على حسَبِ حاله، وقد استثنى فقهاءُ الحنابلة أمرين:
الأمرُ الأول/ مَن ينتظرُ شرطَها القريب، مثالُ ذلك: لو أن شخصا أراد ان يخيطَ ثوبَه ليستُرَ عورَتَه كأن ينشَقَّ منه جزءٌ يسير، فيقولون: له أن يؤخرَ الصلاة عن وقتها، لأن تحصيلَ هذا الشرطِ قريب، لكن لو كان تحصيلُه بعيدا بحيث يحتاجُ إلى أن يخيطَ الثوبَ ابتداءً: فهذا يصلي ولو عُريانا قبل خروج وقتِها؛ وهذا الاستثناء لا دليلَ عليه، ثم ما الدليل على أن هناك فرقا بين تحصيلِ الشرطِ القريب، والشرط البعيد؟! فكلِا الأمرين إخراجٌ للصلاةِ عن وقتها.
الأمر الثاني/ المستثنى عندهم (حالةُ الجَمْع)
فمن أراد أن يجمعَ جَمْعَ تأخير، كأن يجمع الظهر إلى العصر: فيجوزُ له أن يؤخر صلاةَ الظهرِ إلى وقتِ صلاةِ العصر، وهذا في الحقيقةِ استثناءٌ صوريّ، فإن الصلاةَ لم تَخرُج عن وقتها، ذلك بأن الجمعَ جَمْعٌ لوقتَي الصلاة فيكونُ الوقتان وقتا واحدا، هذا ما ذكروه، وهناك حالةٌ لم تُذكَر مع أنها أولى بالذِّكر، وقد ذَكَرها شيخُ الإسلام رحمه الله في الفتاوى، وهي مَحلُّ خلافٍ بين العلماء، وهي:
لو أن النائم استيقظ قُبيل خروجِ الوقت، ولا يتمكّن مِن الوُضوء حتى يؤديَ الصلاةَ في وقتِها، فهل يصلي بالتيمم حتى يُدرِكَ الصلاةَ في وقتها؟ او أنه يؤخرُ الصلاةَ عن وقتها حتى يؤديَها بطهارةِ ماء؟
الإمام مالك رحمه الله يقول: إنه يتيمم، وذلك لأن الإنسان لو انتظر الشروط حتى تخرج الصلاةُ عن وقتها لما كان في مشروعية التيمم أيُّ فائدة.
والقولُ الثاني، وهو قول الجمهور: على أنه لا يصلي بالتيمم، وإنما يصلي بالوضوء حتى لو خَرَجَ الوقت، وهذا هو الراجح لقول النبي عند البخاري: ” مَن نام عن صَلاةٍ أو نَسِيَها فلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَها “
قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله: لأن النائمَ وقتُه مِن حين استيقاظِه، فهو في الحقيقةِ لم يُخرج الصلاةَ عن وقتِها في حَقِّه، ولذا قال ” فلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَها لا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذلكَ “.
وهناك حالة رابعة: كان مِن الأولى أن تُستثنى، لأنها مسألةٌ أقوى من المسألتين السابقتين اللتين ذكرهما فقهاءُ الحنابلة وهي:
مسألةُ فيما لو اشتد الخوف، فأصبح الإنسانُ لا يتمكن مِن أداء الصلاة لا بقلبه ولا بجوارحه، لانشغالِه بالحرب، إن كان الخوفُ يتمكن فيه الإنسان من الصلاة ولو بقلبه: فكما سبق لا يجوزُ له ان يُخرِجَ الصلاةَ عن وقتها.
وأما إذا كان لا يتمكن بقبله ولا بجوارحه (وهي مسألتنا) فقد اختلف العلماء:
القول الأول: لا يجوز له ان يؤخر الصلاة عن وقتها، لعموم الأدلةِ المانعةِ من تأخيرِ الصلاةِ عن وقتِها.
القول الثاني: يجوز ان تؤخَّر، وعندهم دليلان:
الدليلُ الأول: أن النبي ﷺ كما جاء عند مسلم، صلّى صلاةَ العصر بعدما غربت الشمس، وذلك في غزوة الاحزاب، وغزوةُ الاحزاب في السنة الخامسة من الهجرة، وكانت صلاةُ الخوف قد شُرِعَت في غزوةِ ذاتِ الرِّقاع، وهي في السنةِ الرابعةِ مِن الهجرة.
الدليل الثاني: أن الصحابةَ رضي الله عنهم كما جاء في حديثِ أنس، لما أرادوا أن يفتحوا بلدة (تُستَر) في السنة السادسة عشرة من الهجرة، لم يتمكنوا من الصلاةِ حتى طلعتِ الشمس، فأفادوا صلاةَ الفجرِ بعدما طلعتِ الشمس.
وأجاب أصحابُ القول ِالأول عن الدليل الأول لأصحاب القول الثاني:
قالوا: إن غزوةَ الأحزاب لا نُسَلِّمُ أنها بعد غزوةِ ذاتِ الرقاع، فإن ما فعله النبي ﷺ في غزوة الأحزاب قبل أن تُشرَعَ صلاةُ الخوف، وذلك لأن غزوةَ ذاتِ الرقاع بعد خيبر، يعني: بعد السنةِ السابعةِ مِن الهجرة، بدليل:
أنه جاء في الصحيحين: أن أبا موسى حَضَرها، وأخبَرَ أنهم كانوا يتعاقبون على البعير، وأنهم يمشون على أقدامهم حتى لَفّوا عليها الخِرَق؛
ومعلومٌ أن أبا موسى قدِمَ متأخرا بعد غزوة الأحزاب، وأما أبو هريرةَ فإنه أسلَمَ عامَ خيبر في السنة السابعة من الهجرة، وقد قال ابنُ القيم رحمه الله كما في زاد المعاد: هذا هو الصواب،
ومِن ثَم: فلا دليلَ لأصحابِ القول الثاني فيما ذكروه.
وغزوةُ الأحزاب اختُلِفَ فيها: أهي في السنة الرابعة؟ أم في السنة الخامسة؟
النوويُّ رحمه الله في شرحِ مسلم يرى أنها في السنة الرابعة، مستدلا بحديث ابنِ عمرَ رضي الله عنهما، أنه قال: عُرِضتُ على النبي ﷺ يومَ أحد، وأنا ابنُ أربعَ عشرةَ سنة، فلم يُجزني (يعني: للقتال) وعُرِضتُ عليه يومَ الخندقِ وأنا ابنُ خمسَ عشرةَ سنة فأجازَني.
ومعلومٌ أن غزوةَ أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وكان عُمْرُ ابنِ عمر أربعَ عشرةَ سَنَة، ولم يرتضِ هذا الجواب لا ابنُ القيم ولا ابنُ كثير رحمهما الله، وقالوا: إن المنطبقَ عند أهلِ السير أن غزوةَ الاحزاب في السنةِ الخامسةِ مِن الهجرة، فيكونُ عَرْضُ ابنِ عمرَ لنفسِه على النبي ﷺ يومَ أحد وهو في أولِّ سِنِّ الرابعة عشرة، وأن عَرْضَه لنفسِه على النبي ﷺ في غزوةَ الخندق وهو في أواخِرِ سنِّ الخامسة عشرة،
وأجاب أصحابُ القولِ الأول عن فِعلِ الصحابة: من أنه لا يصح، قال ابنُ حزمٍ رحمه الله:
إن هناك انقطاعا، فمكحول لم يسمع مِن أنس، فيكونُ هذا الأثَرُ منقطعا، والانقطاعُ في الأثَرِ وفي الحديث عِلّةٌ تُوجِبُ ضَعفَه، ومع ذلك، فالقولُ الصحيح هو القولُ الثاني، لا للدليل الأول وإنما للدليل الثاني وهو:
فِعلُ الصحابي، وقد ذَكَر صاحبُ تهذيب ِالتهذيب: من أن مكحولا أدرَكَ أنس، فلا يكونُ في هذا الأثرِ انقطاع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــ النساء 103