بسم الله الرحمن الرحيم
باب شروط الصلاة: ستر العورة
الدرس الثامن والثمانون من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد بن البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: عورة الرجل من السرة على الركبة، وكذلك الأمَة، وكذلك الحرة التي لم تبلغ.
الشرح: قبل الحديث عن جزئيات هذه المسألة أحب أن نؤكد على أمر، وهو:
أن العورةَ في الصلاة تختلفُ عن عورةِ النَّظَر، ومما يدل على أن هناك اختلافاً:
أن المرأةَ يجوزُ لها أن تتعرى لزوجها خارِجَ الصلاة، لكن لا يجوزُ لها أن تتعرى ولو بجزءٍ يسير من عورتِها عند زوجها في الصلاة،
فحديثُنا هنا حديثٌ عن العورة في الصلاة، أما عورة النظر فلها حكمٌ آخَر.
وضابطُ عورةِ النظر: أن مَن كان مَحَلًّا للشهوة والفتنة فلا يجوزُ النظرُ إليه، ولذا قال تعالى:
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60]
لأن القاعدةَ من النساء التي قَعَدَت عن النكاح لعدم الرغبةِ فيها، لا يُفتتنُ بها، ولذا: يجوزُ لها أن تكشِفَ وجهُها، واستعفافُها أولى.
لكن مَن كانت مَحَلًّا للشهوة والفتنة فلا يجوزُ النظرُ إليها، ويسري هذا الحكمُ على المُردان مِن الرجال، وسيأتي حديثٌ بإذن الله تعالى عن مسألة النظر.
سيأتي حديثٌ مطوَّل في سننِ خِطبةِ النكاح، وأن من السنةِ أن ينظُرَ إلى مَن يريدُ الزواجَ بها.
ــــــــــــــــــــــــ
وهذه المسألة هي العورة المتوسطة:
فالعورةُ المتوسطةُ: مِن السرة إلى الركبة، ويدخُل في هذه العورة المتوسطة:
الرجل والأمَةُ والحُرةُ التي لم تبلُغ.
أما قولنا [عورة الرجل من السرة إلى الركبة] فقد اختلف العلماء: هل السرة والركبة داخلان في العورة أم أنهما خارجان عنها؟
قال بعض العلماء: إنهما من العورة لأن النبي ﷺ قال: ” عورة الرجل من السرة إلى الركبة ” وهذا التعبيرُ تعبيرٌ يُرادُ به الحَد، فيدخُلُ ما بعد ( إلى)، فما بعد (إلى) يدخُلُ ضِمنَ الحَد، وكذلك ما قبلَه، فتكونُ السرةُ والركبةُ داخلين في العورة، قالوا: نظيرُها قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
والمرفِقُ داخل، وبعضهم قال: إن السرة هي داخلةٌ في العورة فقط، وبعضهم قال: إن الركبة هي الداخلةُ في العورة فقط.
ويستدل أصحاب القول الأول أيضا بقول النبي ﷺ: ” ما تحت السرة وفوق الركبة من العورة “.
القول الثاني: أن الركبة والسرة ليستا من العورة، ويستدلون بحديث النبي ﷺ: ” عورة الرجل من السرة إلى الركبة ” ويستدلون بحديث: ” ما تحت السرة وفوق الركبة من العورة ” وهذا هو الراجح.
فأما الحديث الذي استدل به أصحاب القول الثاني: ” عورة الرجل من السرة إلى الركبة ” فهو حديث صحيح صححه الألباني رحمه الله.
أما الحديث الثاني: ” ما تحت السرة وفوق الركبة من العورة ” فقد ضعفه الألباني.
وأما الجوابُ عما استدل به أصحابُ القولِ الأول:
فنقول: إن مسألة الحَد ليست مسألة متفقا عليها، فلا حُجةَ فيما ذكرتم،
وأما استدلالكم بآية الوضوء، فالجواب عنها: أن الشرع أدخَلَ المِرفَق في اليد، وأدخَلَ الكعبين في القدم لفعل النبي ﷺ عند مسلم: فقد غسل يده حتى اشرع في العضد، وغسل قدمه حتى أشرع في الساق “
وقد جاء حديث أن النبي ﷺ ” قَّبل سُرّةَ الحسن أو الحسين ” فلا يُستدل بهذا على أن السرةَ ليست من العورة، لأن هذا التقبيلَ لصغير، وقد جاء أن النبي ﷺ قَبّلَ زُبَيبَ الحسن أو الحسين “
وهل يقول أحد أن الزُّبيبَ ليس من العورة!
فأما الرجل: فيشملُ الحرَّ والعبد، فعورةُ العبدِ كعورةِ الحُر: من السرة إلى الركبة.
وأما الأمَة: فإن كانت غيرَ بالغة فالحديثُ عنها يدخُلُ ضِمنَ الحديثِ عن عورةِ الحرةِ غيرِ البالغة، وسيأتي قريبا إن شاء الله،
وأما إن كانت بالغةً فقد اختلف العلماء:
فالقولُ الأول: أن عورتها من السرة إلى الركبة،
وقال بعض العلماء: إن عورتها من السرة إلى الركبة في الصلاة، أما في النظر: فلا يجوز، فهي كلُّها عورة، وقال ابنُ حَزْمٍ رحمه الله: عورتُها كعورة الحرةِ البالغة لا تفتَرِقُ عنها، وهو الصواب، لقول النبي ﷺ كما في المسند والسنن: ” لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ” وهذا دليلٌ على وجوب سَتر عورة المرأة الحائض، والأمَةُ تحيض، والمرادُ من الحائض هنا: المرأةُ البالغة.
وأما الرِّقُّ فَوَصْفٌ عارِض، لا دَخْلَ له في العورة،
وأما ما يقولُه أصحابَ الأول من أن الإماء في عصر النبي ﷺ ما كُنّ يستترن كالحرائر،
فنقول: هذا في مسألة النظر، وقد قال شيخُ الإسلام: أما الإماء التركيات حِسان الوجوه فلا يدخُلْنَ في مسألة النظر لجمالهن،
وشيخُ الإسلام يرى أن الوجه والكفين بالنسبة للمرأة لا يجوزُ كَشْفُهُما في مسألة النظر، فهو إمام المحققين لمن قال في هذا العصر بأنه لا يجوزُ للمرأة أن تكشف وجهَها، والمسألة تأتي أن شاء الله في مسألة خِطبة النكاح.
ومِن ثَم/ فالأمَةُ على الصحيح تُلحَقُ بالحرةِ البالغة، وعورةُ الحرةِ البالغة تأتي بإذن الله تعالى.
وقد ألحَق أصحابُ القولِ الأول بالأمَة، ألحقوا أمَّ الوَلَد، وهي: الأمَة التي يطؤها سيدُها، فتحمِلُ مِنه، فولدُها حُر، لأنه ولدُ حُر، وهي تَعتُقُ إذا وَضَعَتْهُ، فولدها يُعتقها.
فهذه قبل أن تضع: في حكمِ الإماء في غالب أحكامهن، ومِن بين أحكامهن هذه العورة،
والصحيح: أنها كالحرة البالغة.
وقد ألحقوا بالأمة أيضاً: المُعتَق بعضُها، وهي: أن تكون أمَةً مشتركا في مُلْكِها، فيملِكُها اثنان، فإذا أعتق أحدهما نصيبَه سرى عليه عِتْقُ الباقي، أي: يُلزَم بأن يدفع حصةَ شريكِه وتُعتَق،
وإن كان هذا الشريكُ فقيرا، فلا يسري عليه هذا الحكم،
فيُقال للأمَة، أو يقال لهذه المُعتَق بعضُها: “استسري” يعني: اشتغلي لتحصيلِ أُجرة، لِعِتْقِ بقيّةِ رقبتك، فإن عجزت، فهذه هي المُعتَق بعضُها، تكون حرة بقدر ما فيها من عتق،
فإن كان الشريكُ الذي أعتقها يملك الثلث: فهي حرة في الثلث، أمَةٌ في الثلثين، وعلى هذا فقس، والصحيح: أنها كالحرة البالغة.
وأما الحرةُ التي لم تبلُغ: فإن عورتها من السرة إلى الركبة، ويستدلون على ذلك بحديث النبي ﷺ كما في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود: ” لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ”
والخمارُ هو الذي يُغطى به الرأس، والحائضُ هنا هي البالغة.
وقد قال بعض العلماء: التي مِن شأنها أن تحيض، فيدخل الصغيرةُ ضِمن هذا الحديث،
ولكن الأقرب: أنها المرأةُ البالغة، لورد تسمية البالغة بالحائض في أحاديث، من بينها: قول النبي ﷺ:
” يَقطَعُ الصَّلاةَ المَرْأةُ الحائِضُ ” أي: المرأة البالغة،
فهذا الحديث يجعلُ مَن ليست بالغة، يجعل عورتها من السرة إلى الركبة، وكما أسلفنا:
الحديثُ في العورة فيما يتعلقُ بالنظر يختلفُ عن مسائل الصلاة:
فمن كانت مَحَلا للشهوة والفتنة فلا يجوز النظرُ إليها، ولا يجوزُ أن تُمَكّن من أن تُظهِرَ مفاتنها، لأن المقصودَ مِن السِّتر في مسألة النظر هي الفتنة.
فهذه هي مسألةُ العورةِ المتوسطة.
فالعورةُ المتوسطة: هي عورةُ الرجل من السرة إلى الركبة، ويدخُل في ذلك الأمَة على قول،
وعلى القول الراجح: أن الأمةَ البالغة كالحرةِ البالغة سواءً بسواء.
ويدخُلُ في ذلك: الحرةُ غيرُ البالغة، لقول النبي ﷺ كما في المسند وسنن أبي داود:
” لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ”
ولْتعلم بأن هذا الدليلَ هو من أقوى الأدلة على أن سَتر العورةِ شرطٌ من شروط صحة الصلاة، لأن النبي ﷺ نفى القَبول، ونفيُه يدل على عدم الصحة،
وقد اعترض مَن قال: إن سَتر العورة واجبٌ وليس بشرط، من أن نفي القَبول لا يدل على عدم الصحة، لقول النبي ﷺ كما في صحيح مسلم: ” إذا أبَقَ العَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ ” يعني: إذا هرب.
وقد قال جملةٌ من العلماء: أن النفل لا يصح منه بخلاف الفرض،
فنقول: إن الفرض قد قال شيخ الإسلام: يُحتمل أن الفرض لا يُقبل منه أيضاً، فالاستدلال بهذا الحديث فيه ما يشوبه، لكن مما يعضُد اعتراضهم قوله ﷺ: ” مَن شَرِبَ الخمرَ لم تُقبلْ له صلاةٌ أربعين يومًا “
ولما عند مسلم: ” من أَتَى عرافًا فَصدقهُ لم تقبل لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا “
ويُجابُ عن هذا: أن نفي القَبول لا يدل على عدم الصحة، لكن هناك قرينة تختلف فيها كلمة نفي القبول في حديثنا وما ذُكر من أحاديث، وذلك أن نفي القبول مُنصَب على أمْرٍ واجبٍ مِن نصوص أخرى التي أوجَبَت سَترَ العورة، فلما جاء هذا الحديث كان النفيُ آتيًا بوصف زائدٍ عن الوجوب،
فهذه هي العورةُ المتوسطة، وقلنا: إن الرجل داخلٌ في ذلك لما في المسند وسنن أبي داود قال النبي
ﷺ كما في مُسند الإمام ابي حنيفة: ” مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَوْرَةٌ “
ومما يدل على أن الركبة ليست بعورة: ما جاء عند البخاري أن النبي ﷺ رأى أبا بكرٍ مُسرِعاً، حتَّى أبْدَى عن رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَّا صَاحِبُكُمْ فقَدْ غَامَرَ “
” فقَدْ غَامَرَ ” يعني: خاصَم، ما أسَرَعَ هذه السرعةَ إلا بِخِصام.
فمَوضِعُ الشاهد: أن أبا بكر رضي الله عنه أظَهَرَ رُكبَتَه.
ومما يدل على ذلك: أن النبي ﷺ كما في راوية النسائي: أتاه جبريل -في حديثه الطويل- وفي سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وهو عند مسلم لكن عند النسائي:
” حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “
” فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ ” عليه الصلاة والسلام
وفي المسند: ” فَوَضَعَ رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ، وَيَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ ” عليه الصلاة والسلام
وهذا يدل على أن الركبة ليست بعورة، لأنه وضع يديه على ما هو أعلى من الركبة وهما الفَخِذان. ومِن ثَم: فقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث وأشباهه على أن عورة الرجل هما السوأتان: الدُّبُر والذَّكَر، وأما الفخِذان فإنهما ليسا من العورة، فهذا هو الدليل الأول لمن قال أن الفخذ ليس بعورة.
2/ الدليل الثاني: أن النبي ﷺ رآه أنس رضي الله عنه كما جاء في الصحيح في غزوة خيبر: قد حسَر الإزارُ عن فخِذه حتى رأى بياضَ فَخِذه عليه الصلاة والسلام.
3/ الدليل الثالث: أن النبي ﷺ كما جاء في الصحيحين:
كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ كَاشِفًا عن فَخِذَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فأذِنَ له وَهو علَى تِلكَ الحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فأذِنَ له وَهو كَذلكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسولُ اللهِ ﷺ وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ سألته عَائِشَةُ رضي الله عنها، فَقالَ ﷺ: أَلَا أَسْتَحِي مِن رَجُلٍ تَسْتَحِي منه المَلَائِكَةُ.
4/ الدليل الرابع: أن النبي ﷺ قد ضَرَبَ بِيَدِه على فَخِذِ أحدِ الصحابة؛ ولو كان من العورة لما ضَرَب على فَخِذِه، لأن العورة مِن العَوَر الذي هو العيب، ويسوأ الإنسان أن يُنظَرَ إليها أو أن تُمَس،
وأما القول الآخَر: فإنه عورة وهو راجعٌ إلى مسألتنا، ويستدل على ذلك: بما جاء في المسند وغيره من حديث ” جَرهَد ” أن النبي ﷺ قال: ” غَط فَخِذَك فإن الفخذَ عورةٌ “
وجاءت أحاديثُ تُشابه ذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: ” لا تَنظُرْ إلى فَخِذِ حَيٍّ ولا ميِّتٍ “
فهذا حديث صريح في أن الفخذ عورة، ومِن ثَم: قال ابن القيم رحمه الله: إن العورة قِسمان:
مغلظة، وهما السوأتان؛ ومخففة، ويدخل تحتهما أي: الفرجان، يدخل تحتهما الفخذان.
وهو يريد بهذا أن يجمع بين النصوص، وهو جمعٌ حسن،
وقد أجاب أصحاب هذا القول عن بعض الأحاديث، فقالوا: أن وَضْعَ جبريل يديه على فخذ النبي ﷺ قالوا جاء في صحيح مسلم: ” قد وضع يديه على فخذيه ” والضمير يرجع إلى النبي ﷺ، وهي حالةٌ بين جبريل وهو من الملائكة والملائكة ليسوا بمكلفين، والجواب عن هذا:
أن النبي ﷺ لم يبين لأصحابه أن هذا الصنيعَ يُتسامَحُ فيه إذا كان هذا الفِعلُ من الملائكة، لا سيما أن النبي ﷺ لم يعرف به إلا بعد زمن، ولذا قال ﷺ: ” لم أعرفه إلا هذه المرة “
ويطعنون في حديثِ أنس من أن هذه الحالةَ حالةُ حرب، ويُتجاوز فيها ما لا يُتجاوز في غيرها، والجواب عن هذا:
أن الله عز وجل لا يُقر نبيّه عليه الصلاة والسلام على محرم، وذلك لأنه لما كان النبي ﷺ صغيراً ويَحمِلُ مع قومه الحجارة، فأمَرَه عمُّه العباس أن يخلع إزاره ليضَعه اتقاءً للحَجر،
فلما انكشفت عورتُه سقط عليه الصلاة والسلام، حتى لا تُرى عورتُه؛
فإذا كان الله عزوجل قد حفظه قبل النبوة فكيف ببعد النبوة!
وقد طعنوا في حديث دخولِ عثمان على النبي ﷺ فقالوا: وردت رواية أنه كشَفَ عن ساقيه، فالمكشوفُ هما الساقان، والجوابُ: أن روايةَ الساقين لا تُعارِضُ روايةَ الفخذين، فإن إثباتَ كَشْفِ الفَخِذَين يستلزم كَشْفَ الساقَين في الغالب.
ومَن ثَم: وَقَف العلماءُ أمام هذه النصوص، وقد قال البخاري: حديث جَرهَد أحوط، وحديث أنس أسند، يعني: أصحُّ إسناداً.
وقال الشوكاني رحمه الله: هذا خاص بالنبي ﷺ، لأن حديث جَرهد قول وهذه أفعال، والفِعلُ كما هو مقرر في الأصول لا يعارض القول، فالقول مقدم على الفعل.
وقال ابن القيم: ما ذُكِر آنفاً من أن العورة نوعان (مغلظة ومخففة).
وقال بعض العلماء: وهو رأيُ ابنِ عثيمين رحمه الله، قال: إن المسألة يُنظَرُ إليها مِن أمرَين:
الأمر الأول: 1/ مسألةُ النظر. 2/ الأمر الثاني: مسألةُ الصلاة
وقال رحمه الله: أما مسألة النظر:
فإن الفخذين ليسا بعورة إلا ما كان حول السوأتين، فإنه [يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً]
فما قَرُبَ مِن الفرجين فيأخُذُ حُكْمَهُا، ويَستثني مِن ذلك الشباب، لأن الفتنة بهم عظيمة،
وهذا التحريمُ بالنسبة إلى الشباب تحريمٌ لغيرِه لا لذاتِه.
وأما في مسألة الصلاة: فيقول رحمه الله: لا بد مِن سَتر الفخذين لما يأتي:
1/ قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]
وهذا من الزينة، فيُغطّى الفخِذان، أما إبداؤهما فليس من الزينة.
2/الأمر الثاني: قول النبي ﷺ كما في الصحيحين:
” إن كان ضيِّقاً فاتَّزرْ به، وإن كان واسعاً فالتحفْ به ” يعني: الثوب.
والإزار يغطي الفخذين وزيادة، ولقوله النبي ﷺ كما عند مسلم:
” إِذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ على حقويك “.
أما مَن يقول إن الفخذين ليس بعورة، فيُدخِلُ مسألةَ الصلاة مع مسألة النظر:
فلو صلى الانسان قد أبدا فخِذَه فصلاتُه صحيحة على قولهم،
وبالنظر إلى قول البخاري رحمه الله، فقول البخاري ليس قولا فَصلا، وإنما مبناه على الاحتياط، والاحتياطُ لا يدل على وجوبٍ ولا يدل على تحريم.
وأما قول الشوكاني رحمه الله: فقولُه إن القول مقدم على الفعل، كلامٌ سليم لكنه رحمه الله بالَغَ في هذه القاعدة في كتابه نيل الأوطار، ومِن ثَم: جعل كثيراً من المسائل من خصوصيات النبي ﷺ لتعارض الفعل مع القول، مع أن الأصل عدم الخصوصية للنبي ﷺ
ثم إن هذه القاعدة تكون إذا لم يمكن الجمع، أما إذا أمكن الجمع فالقاعدة [إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما] قاعدةٌ مقدمة على هذه القاعدة، وهنا فيه تعارض، فقوله حسن لولا قصة حَمْلِه للحجر، فلما كشف عن عورته سقط ﷺ.
وأحسن ما يُقال هنا: ما قاله ابنُ عثيمين في التفريق بين مسألة النظر ومسألة الصلاة،
وأحسنُ منه كلام ابن القيم رحمه الله، لأن في كلامه جمعا بين الأدلة
ولا يقل أحدُ أن كَشْفَه لفخذيه آثم كما أن كشْفَه لفَرجَيه آثم، فلا معنى لهذا الجمع،
فنقول: نعم هو آثم في كلا المسألتين، لكن الإثمَ يختلف، فالإثمُ درجات، ومِن ثَم:
في مسألة النظر لو كشف عن فرجيه فهو أشدُّ إثماً ممن كَشَف عن فخذيه،
وأما في مسألة الصلاة فإنه يُفهم من قوله إن الصلاة لا تصح لكن الإثم يختلف – والله أعلم –
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: العورةُ المخففة هي عورة من بلغ سبع سنين إلى عشر، وهما الفرجان.
الشرح/ هذه المسألة هي النوعُ الثاني من أنواع أقسام العورة، فمضى الحديثُ عن العورة المتوسطة، وهذا هو الحديثُ عن العورة المخففة:
فمن بلغ سبعَ سنين فإن عورتَه الفرجان فقط، وأما الفخذان فليسا بداخلين، والدليل على هذا:
أنا لم أرَ دليلا ذكروه، لكن أظن أن الدليل الذي استدلوا به: قول النبي ﷺ كما عند أبي داود:
” مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ “
” وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ “
فدل على أن بلوغ العشر يُشَدد في أمْرِ العورة، وذلك لأمْر النبي ﷺ بأن يُفَرق بين الصبيان في الفراش حتى ولو كن فتيات، فالتفريقُ حاصِل سواء كان الجنس واحد أو مختلفاً.
وأما ما قبل سبع سنين: فإنه لا حكم لعورته، وسيأتي معنا إن شاء الله تعالى في غسل الميت ما يدل على أن العلماء جعلوا مَن هو دون سبعِ سنين، جعلوا عورتَه كَمَسِّ يدِه أو وجهه أو نحو ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما القسمُ الثالث من أقسام العورة: فهي العورةُ المغلظة، وهي عورة الحرة البالغة
فكلُّها عورة إلا وجهها في الصلاة وهذا على أحد الأقوال: من أن المرأة كلها عورة ما عدا وجهها لقول النبي ﷺ: ” المرأةُ عورةٌ، فإذا خرَجَتْ اسْتَشْرَفَها الشيطانُ “.
والقول الآخر: أن المرأة كلَّها عورةٌ ماعدا وجهَها وكَفَّيها.
القول الثالث: وهو قولُ شيخِ الإسلام رحمه الله: أن المرأة كلَّها عورةٌ ماعدا وجهَها وكفَّيها وقدَمَيها.
وقد قال بعض فقهاء الحنابلة: أنه يُكره أن تَلبسَ نِقاباً أو بُرقَعاً في صلاتها مِن غيرِ حاجة، ومِن هذه الحاجة حضورُ الأجانب، يرون أن كشْفَ الوجه أثناء الصلاة إذا لم يوجد أجانب: أنه مِن السُّنَّة لِفِعلِ الصحابيات في هذا.
ويستدلُّ مَن قال إن المرأةَ كلها عورة ما عدا وجهها وكفيها: بأن هذا هو الحاصلُ في عصر النبي ﷺ، وأما القدمان فلا، لحديث أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها عن أبي داود:
” أنها سألتِ النبيَّ ﷺ: أتصلِّي المرأةُ في درعٍ وخمار؟
الدرع: هو القميص، والخِمار: ما يُغطى به الرأس
قال ﷺ: ” إذا كان الدرعُ سابغًا يغطِّي ظهورَ قدمَيها “.
وأما دليلُ شيخِ الإسلام رحمه الله، قال:
إن الصحابيات لا يفعلن ذلك في بيوتهن، ولم يأتِ نكيرٌ لهذا الفِعل.
وأما حديث أم سلمة فهو حديثٌ ضعيف، وقد ضَعّفَه الألباني أيضاً، فالراجحُ هو رأيُ شيخِ الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتأتينا هنا مسألةُ سَتر المَنكبين:
قال النبي ﷺ كما في الصحيحين:
” لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ ” (2) وفي رواية: ” ليس على عاتِقَيهِ “
وقد فُسِّرَ هذا العاتقُ بما جاء في الرواية الأخرى: ” ليسَ على منْكبيهِ منهُ شيءٌ “
وهذا النهي هل هو نهي تحريم أم نهي كراهة؟
بمعنى: هل سَتر المنكبين مِن ستر العورة أو ليس كذلك؟
اختلف العلماءُ في هذا، قال بعض العلماء وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد:
يستُرُ أحدَ مَنكِبَيه في الفرض، واستدلوا بهذا الحديث.
القولُ الثاني: أن سَترَهما واجب، وأن التركَ لِسَتْرِهِما يأثَمُ به المسلم لهذا الحديث.
وقال بعضُ العلماء: إنه يأثم ولا تصح صلاتُه، واستدلوا بهذا الحديث.
وقال جمهور العلماء: إن سَترهُما سُنّة، ويقولون: إن النهي في هذا الحديث من باب المحافظة على العورة، فهو مقصودٌ لغيره لا لذاته، فإنه إذا صلّى في الثوب الواحد لا يأمَن أن تنكَشِفَ عورتُه، فحتى يتأكدَ ويحفَظَ ويُبالِغَ في ذلك فلْيستُر منكبيه، لقوله النبي ﷺ كما الصحيحين: “إِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ “
ولقوله عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم: ” وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ على حقويك “.
ويجيبون عمّا ذَهَب إليه الحنابلةُ، والمشهورِ مِن أقوالهم: مِن أن تَرِكَ النفل، أو التفريق بين النفلِ والفرض لا دليلَ عليه، لأن الحديثَ عام، وكذلك تخصيصُ أحدِ المنكبين، فلمَ لا يُدرَجَ المَنكِبُ الآخَر، ومِن ثَم: فإن قولَهم مخالفٌ للدليل، لأن الدليل أعمُّ من المدلول، ومعنى ذلك أن الدليل عام في النفل والفرض في المنكبين، ولم يقولوا بهذا.
وأما مَن يقولُ بالوجوب: سواء كان آثما مع صحة الصلاة، أو آثما مع عدم صحة الصلاة،
فيقال: إن الأحاديث التي أوردناها تدلُّ على السنية لا على الوجوب.
وقد نوزِعَ الجمهورُ في أن النبي ﷺ قال: ” فَاتَّزِرْ بِهِ ” وقوله: ” فَاشْدُدْهُ على حقويك ” أن هذا القول في الإزار الضيق دون الواسع:
ويُجابُ عن هذا الاعتراض: بأن النبي ﷺ قال هذا القول، ويسري هذا القولُ على شخص وَجَدَ واسعاً، فقد يكونُ عنده ثوبٌ واسع، ويصلي في ثوبٍ ضيِّق، فلو صلَى مع وجودِ الثوب الواسع الذي لم يلبسه فصلاتُه صحيحة لمقتضى هذا العموم، قال ﷺ: ” إن كان ضيِّقاً فاتَّزرْ به، وإن كان واسعاً فالتحفْ به “
ولو قال مُعترِضٌ أن النبي ﷺ سُئل كما عند البخاري:
” أنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ في ثَوْبٍ واحِدٍ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: أوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ “
فهذا يدل على: أن اللابِسَ للثوبِ الضيّق لا يوجدُ عنده ثوبٌ واسع، فيُجابُ عن هذا الحديث:
بأن النبي ﷺ قال: ” أوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ “
بمعنى: أن البعضَ قد يكون له ثوبان، ولذا قال عمر رضي الله عنه كما عند البخاري:
” إذا أوْسَعَ اللهُ عليكم فأَوسِعوا على أنفُسِكم “” جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ “
ولذا جاء حديثٌ صححه الألبانيُّ رحمه الله، قال النبي ﷺ:
” إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ فِي ثَوْبَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ أَنْ يُتَزَيَّنَ لَهُ “
ومِن ثَم: فإن الأفضلَ أن يُصليَ في ثوبين، لقول عمر وإشارة النبي ﷺ في جواب السائل:
” أوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ “
ولهذا الحديث الدي صححه الألباني: ” إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ فِي ثَوْبَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ أَنْ يُتَزَيَّنَ لَهُ “
وهذا أمْرٌ من النبي ﷺ، ولا يدل على الوجوب وإنما يدل على الاستحباب، فيكونُ سَتْرُ المَنكِب كذلك، لأنه مِن الزينة، ولأنه أضمنُ لعدمِ كَشْفِ عورِتِه، وليس معنى هذا أن يتعمدَ الإنسانُ تَرْكَ سَتْرِ مَنكِبَيه،
فالحديثُ هل يكونُ آثما أم لا؟ ولا شك أن مَن سَتَرَ منكبيه أنه مأجور، ولذا يحرِص المُحرِمُ إذا صلّى ركعتي الطواف حالَ قدومِه، أن يُزيلَ الإضطباع فيَستُرَ مَنكبيه لهذا الحديث.
وِلتعلم أن رواية الإفراد لا تُخالِفُ روايةَ التثنية، قال في رواية:
( عَاتِقِهِ ) وفي رواية ( عَاتِقَيْهِ ) وذلك لأن قولَه ( عَلَى عَاتِقِهِ) مفردٌ أضيفَ إلى معرفة وهو يقتضي العموم، والعموم أنه ليس للإنسان سوى منكبين، فتتفق الروايتان.
(2) ــ متفق عليه: البخاري باب إذا صلى في الثوب الواحد رقم /359، ومسلم باب الصلاة في ثوب واحد رقم/516