ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، مالك يوم الدين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبيِّن لأحكام شرائع الدين ” الفائز بمنتهى الإرادات ” من ربه ، فمن تمسك بشريعته فهو من الفائزين ، صلى الله وسلم عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى آل كُلٍ وصحبه أجمعين .
وبعد : فهذا مختصر في الفقه ، على المذهب الأحمد ، مذهب الإمام أحمد ، بالغت في إيضاحه رجاء الغفران ، وبينت فيه الأحكام أحسن بيان ، لم أذكر فيه إلا ما جزم بصحته أهل التصحيح والعرفان ، وعليه الفتوى فيما بين أهل الترجيح والإتقان ، وسميته بـ : ” دليل الطالب لنيل المطالب ” .
والله أسأل أن ينفع به من اشتغل به ، وأن يرحمني والمسلمين ، إنه أرحم الراحمين .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ،
أما بعد :
فإن الماتن رحمه الله ذكر مقدمة لهذا المتن ، ذكر فيها حمد الله والثناء عليه والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، والصلاة على الأنبياء ، لأن الصلاة على الأنبياء أمر حسن ، ولذا جاء في الحديث الحسن ( إذا ذكرتم الأنبياء فصلوا عليهم فإنهم بعثوا كما بعثت )
وصلى على ( الآل ) والآل : الصواب من أقوال العلماء أنهم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس المقصود القرابة ، لأن من قربته مَنْ هو كافر.
وصلى على الصحب ، وهم الصحابة رضي الله عنهم ، وهو مَنْ لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك .
وقال ( وبعد ) وكان من الأولى به أن يقول ( أما بعد ) لأن هذا هو الوارد ، ولا أعلم حديثا في السنة أن يقول ( وبعد ) أو ما يقوله البعض ( ثم أما بعد ) فالوارد والمعروف ( أما بعد ) وقيل إنها كلمة الفصل التي داود أوتيها ، وهو فصل الخطاب ، وعلى كل حال الإتيان بـ ( أما بعد ) بعد مقدمة الكلام أو بعد الخطب ، من السنن .
وهذا المتن الذي ألفه الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي ، متن اقتصر فيه على مذهب الإمام أحمد وما صح من رواياته ، لأن الإمام أحمد رحمه الله تكون له في بعض المسائل أكثر من رواية ، فذكر ما هو أصح منها عند الأصحاب ، وقد اختصر هذا المتن من ( منتهى الإرادات ) لابن النجَّار رحمه الله وعاش صاحب هذا المتن في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر ، وسماه بـ ” بدليل الطالب لنيل المطالب “
دليل الطالب : يعني طالب العلم ، تطلب العلم من أجل نيل المطالب ، ما هي المطالب ؟ المطالب الأخروية من الأجر والثواب ، ولذلك في ختام كلامه سأل الله سبحانه وتعالى أن يكون ما فعله وما كتبه في عمله الصالح وأن يكون خالصا لوجهه .
الطهارة في اللغة : النظافة والنزاهة ، وقد عرفها رحمه الله تعريفا اصطلاحيا ، فقال :
( وهي : رفع الحدث ، وزوال الخبث )
الحدث : هو شيء معنوي يقوم بالبدن ، كما نقول الحدث الأصغر فيما يتعلق بالوضوء ، والحدث الأكبر فيما يتعلق بالجنابة
والخبث : يعني النجاسة ، فواجب على المسلم حينما يريد الصلاة مثلا ، عليه أن يرفع حدثه ، وهو المعنى القائم بالبدن ، وكذلك يلزمه أن يزيل النجاسة المتعلقة ببدنه أو بثوبه أو بالبقعة التي يصلي عليها ، لقوله تعالى { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }المدثر4 ، على بعض أقوال المفسرين ، والأحاديث في ذلك كثيرة من الأمر بالتطهر من الحدث الأصغر والأكبر ، ومن النجاسة ، ويأتي شيء منها إن شاء الله تعالى .
( وأقسام الماء ثلاثة )
أقسام الماء ثلاثة ، هذا ما ذهب إليه الماتن وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، يقسمونه إلى [ طهور وطاهر ونجس ] ولكن الصواب أن الماء ينقسم إلى قسمين فقط [ طهور ونجس ] ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله [ من قال إن هناك قسما ثالثا من أقسام الماء فعليه أن يأتي بالدليل ] لم يأت دليل إلا على الطهور والنجس فقط ، وعلى هذا الخلاف تأتي أحكام أوردها الماتن رحمه الله .
( أحدها : طهور ، وهو الباقي على خلقته ، يرفع الحدث ويزيل الخبث )
إذاً / ما هو القسم من أقسام الماء الذي يرفع الحدث ويزيل الخبث ؟ الطهور ، ما هو هذا الطهور ؟ هو الباقي على خلقته ، كمياه الأمطار ، قال تعالى { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً }الفرقان48 ، ومياه العيون والأنهار .
( وهو أربعة أنواع :
أولا :
( 1- ماءٌ : يحرم استعماله ولا يرفع الحدث ويزيل الخبث ، وهو ما ليس مباحا ) .
ذكر رحمه الله أن هذا الطهور ينقسم إلى أربعة أنواع من حيث الحكم ، وإلا الماء الطهور واحد ، وهو الباقي على خلقته ، لكن يقسم إلى أقسام باعتبار الحكم ،
القسم الأول الصفات المطلوبة موجودة فيه ، لكنه حُرِّم بحيث لا يرفع الحدث باعتبار أنه محرم غير مباح ، مثل المغصوب والمسروق ، هو ماء باقٍ على خلقته ، ومع ذلك لا يجوز لك أن تتوضأ به أو أن تغتسل به ، لكن يجوز لك أن تزيل به النجاسة .
ولكن الصواب أنه يرفع الحدث ويزيل الخبث ، ولكن صاحبه آثم .
( 2- وماءٌ : يرفع حدث الأنثى ، لا الرجل البالغ والخنثى ، وهو ما خلت به المرأة المكلفة لطهارة كاملة عن حدث )
هذا هو القسم الثاني من أقسام الطهور ، وهو الذي يرفع حدث الأنثى فقط ، ما هو ؟ هو الماء الباقي على خلقته ، لكن خلت به امرأة ، فما خلت به المرأة من ماء طهور ، فإنه لا يرفع حدث الرجل البالغ ، ولكنه يرفع حدث مَنْ هو دون البلوغ ، ويرفع حدث الأنثى ، ولا يرفع حدث الخنثى ، لأن الخنثى : هو الآدمي المُشكل معه آلة ذكر ومعه آلة أنثى ، وأشكل في أمره ، لم يتبين له أمر ، هل هو ذكر أو أنثى مع وجود هاتين الآلتين، فإذا تبين شيء من ذلك فإن وجود الآلة الأخرى لا يؤثر ، نقول هو ذكر أو هو أنثى ، لكن إذا لم يتبين أمره ، هنا يسمى بخنثى مشكل ، فباعتبار أنه خنثى مشكل يمكن أن يكون رجلا ، فنحتاط فنقول لا تتوضأ بهذا الماء ، لم ؟ قالوا لأنه ثبت في السنن ( نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة )
ولكن الصواب جواز ذلك ولا بأس به ، لكن لو تركه الإنسان تنزها ، فهذا شيء حسن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( اغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها ) فدل على الجواز .
إذاً أقصى ما نقول ( يكره ) لكن لو تطهر بهذا الماء الذي خلت به المرأة ، فنقول هو جائز ويرفع الحدث .
( 3- وماءٌ : يكره استعماله مع عدم لاحتياج إليه ، وهو ماءُ بئر بمقبرة ، وما اشتد حره أو برده ، أو سخن بنجاسة ، أو سخن بمغصوب ، أو استعمل في طهارة لم تجب ، أو في غسل كافر ، أو تغير بملح مائي ، أو بما لا يمازجه كتغيره بالعود القماري ، وقطع الكافور ، والدهن ، ولا يكره ماء زمزمه إلا في إزالة الخبث )
هذا هو النوع الثالث من أنواع الطهور ، ويكره استعماله ، لكن مع الحاجة لا بأس بذلك ، لأن هناك قاعدة شرعية [ المكروه تبيحه الحاجة] يعني لو كان هناك شيء مكروه فاحتجت إلى فعله ، ينتقل من الكراهة إلى الإباحة .
من الأمثلة :
( ماء بئر بمقبرة ) ماء البئر الذي يكون في المقبرة يكره استعماله ، لم ؟ قالوا لأنه ربما اختلط هذا الماء بصديد المقابر ، ولكن الصواب عدم الكراهة ، إذ لا دليل على الكراهة .
( وما اشتد حره أو برده ) الصواب أنه لا يكره ، لكن يمنع منه فيما لو كان مبالغا فيه بحيث لا يتمكن الإنسان من الإسباغ المطلوب شرعا ، فإن الماء إذا اشتد حره أو برده فقد لا يحرص المسلم على الإسباغ ، فربما يترك بعض المواطن في الوضوء ، فمن هذه الحيثية ينهى الإنسان عن أن يتوضأ وأن يغتسل بماء اشتد حره أو اشتد برده ، وما ورد من حديث ( أن الماء المسخن بالشمس يورث البرص ) كلها أحاديث موضوعة لا تصح .
( أو سخن بنجاسة ) صورتها : لو أتيت بِقدر فيه ماء ، والجو شديد البرودة وأردت أن تسخن هذا الماء لكي يدفأ ، فلم تجد إلا روث حمار ، فسخنته به ، قالوا يكره ، لم ؟ قالوا : لأنه ربما تتصاعد هذه الأبخرة إلى الماء ، فلما لم يكن عندنا جزم بأن هذا الأشياء وصلت الماء فلم نحكم بنجاسته، نقول بالكراهة ، ولكن الصواب عدم الكراهة لعدم الدليل ، والأصل في الأشياء الطهارة ، وهذه قاعدة يجب أن نسير عليها .
( أو سخن بمغصوب ) مثلا : لو أن شخصا أراد أن يدفئ هذا الماء ، فاغتصب أو سرق حطبا ، فأشعل به على هذا الماء ، فيكره أن يستعمل هذا الماء ، لم ؟ لأن الآلة التي دفئ بها هذا الماء آلة محرمة ، ولكن الصواب أنه آثم لفعله ، فلو اغتصب غازا أو مدفأة وضع عليها الماء ، فيأخذ نفس الحكم .
( أو استعمل في طهارة لم تجب ) لو أنه أراد أن يجدد وضوءه ، فغسل أعضاء الوضوء ، وما تساقط من هذا الماء وقع في إناء ، فتجمع هذا الماء المتساقط في إناء ، فالمتساقط من أعضائه عن طهارة تجديد ، فيكره له ذلك ، والصواب عدم الكراهة لعدم الدليل .
( أو في غسل كافر ) المياه المتبقية من غسل الكفار تكره ، تنزها كما ذهبوا إلى ذلك ، ولكن الصواب عدم الكراهة ، لأن أبدان الكفار طاهرة ، وأما قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }التوبة28 ، فالمقصود من ذلك النجاسة القلبية المعنوية وهي نجاسة الشرك ، أما أبدانهم وثيابهم ، فالأصل فيها الطهارة .
( أو تغير بملح مائي ) فيكره استعماله ، لم ؟ قالوا : لأن طعمه تغير ، ولكن الصواب عدم الكراهة لعدم الدليل .
( أو بما لا يمازجه كتغيره بالعود القماري ، وقطع الكافور ، والدهن )
لو أن هذا الماء الطهور سقط فيه دهن ، هذا الدهن لا يمازجه ، لا يمكن أن يتحلل فيه ، لأنه يكون في معزل عن الماء ، مثل هذا الدهن وما شابهه من هذه كقطع الكافور ، يكره استعمال هذا الماء ، ولكن الصواب عدم الكراهة .
( ولا يكره ماء زمزم إلا في إزالة الخبث ) ماء زمزم ماء مبارك ، كما جاءت بذلك الأحاديث من أنها ( طعام طعم وشفاء سقم ) وحديث ( ماء زمزم لما شُرب له ) وقد ( توضأ منه النبي صلى الله عليه وسلم ) كما في المسند من حديث علي رضي الله عنه ، لكن هل يكره استخدامه في إزالة النجاسة ؟ قيل بذلك ، وقال بعض العلماء يكره أن يستخدم ماء زمزم في غسل الجنابة ، والصواب عدم الكراهة لعدم الدليل ، صحيح أنه ماء مبارك ، له بركة أودعها الله سبحانه وتعالى فيه ، لكن لا يمنع منه ، لم ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منه ، ولو كان ما عدا الوضوء لا ينبغي أو لا يليق أو محرم ، لبينه عليه الصلاة والسلام ، ولذا لو أن إنسانا احتاج أن يغتسل بماء مقروء فيه ، لا بأس بذلك ، فهذا الماء ماء مبارك لوجود القراءة فيه ، لكن حاله كحال ماء زمزم ، فلا بأس بذلك .
( 4 – وماءٌ : لا يكره ، كماء البحر ، والآبار ، والعيون ، والأنهار ، والحمام ، والمسخن بالشمس ، والمتغير بطول المكث ، أو بالريح من نحو ميتة ، أو بما يشق صون الماء عنه كطحلب ، وورق شجر ما لم يوضعا )
هذا النوع الرابع من أنواع الطهور ( الذي لا يكره ) ومثّل له ، قال :
( كماء البحر ) ماء البحر مع أنه شديد الملوحة وكريه الرائحة لا يكره الوضوء به ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( لما سئل عن ماء البحر ؟ قال : هو الطهور ماؤه ) .
( والآبار ) كذلك مياه الآبار ، فقد يعتريها ما يعتريها من الأوساخ وما شابه ذلك ، ومع ذلك فلا يكره ، كما جاء في السنن ( لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن بئر بضاعة ، أنها بئر يلقى فيها الحيَّض ولحوم الكلام والنتن ؟ فقال : إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) .
( والعيون ) لأن أصلها من مياه الأمطار ، أو تكون من باطن الأرض {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً }الفرقان48 .
( والأنهار ) وكذلك الأنهار .
( والحمام ) الحمام : كان موجودا في السابق ، ويراد منه تنظيف البدن، لأنه حار ، مثل ما يقال الآن في بعض مراكز الرياضة ( حمام الساونا ) كانت هناك حمامات ، ولا سيما في بلاد الشام لأنها أماكن باردة ، فيحتاجون إلى النزول في هذه الحمامات التي تكون في مهبط وفي منحدر من الأرض ، كلما نزل اشتدت حرارتها، فكره بعض العلماء الدخول فيها ، لأنه يخشى أن تُكشف فيه العورات ، من كثرة الداخلين والخارجين ، وهناك اغتسال ، وما شابه ذلك ، فكرهها من هذه الحيثية ، فلا يكره الوضوء بماء الحمامات ، وليس الحمام المعروف لدينا .
( والمسخن بالشمس ) فإن الحديث الوارد كما أسلفنا من ( أنه يورث البرص ) حديث لا يصح .
( والمتغير بطول المكث ) يمكن أن يكون لديك ماء في قربة ، لما وضعته في هذه القربة كان ماء صافيا وليست له رائحة ، لما وضعته في هذه القربة فمن طول المكث تغير لونه ، فأصبح أصفر ، أو تغيرت رائحته أو طعمه ، فلا بأس بذلك .
( أو بالريح من نحو ميتة ) ربما يكون عندك إناء صافي طهور ، لكن بجواره شاة ميتة ، فلما أتيته بعد زمن إذا برائحته رائحة منتنة ، هنا طهور ، لأنه تغير عن مجاورة لا عن ممازجة ، فهذا لا يؤثر .
( أو بما يشق صون الماء عنه كطحلب ، وورق شجر ) كذلك المياه القريبة من الأشجار فتتساقط الأوراق في هذا الماء ، ولا يمكن أن ندفع هذه الأوراق ، فمن أجل المشقة لا بأس أن يتطهر منه الإنسان .
( ما لم يوضعا ) فإن وضعا دلَّ على صاحبه تعمد ذلك فلا يأخذ هذا الحكم ولكن الصواب لو تعمد فليتطهر به.
والصواب ما سبق : أن ماء متى ما قلنا إنه ماء ، سواء كان صافيا أو مشوبا ، أنه يرفع الحدث ويزيل الخبث ، ما لم تقع فيه نجاسة ، فإن وقعت فيه نجاسة انتقل من الطهور إلى النجس .